السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عواصمنا الثقافية.. ما أكبر الفكرة.. ما أقل الميزانية!

عواصمنا الثقافية.. ما أكبر الفكرة.. ما أقل الميزانية!
30 ديسمبر 2009 21:25
في الأول من يناير من 2009، أعلنت مدينة لينز النمساوية العاصمة الاوروبية للثقافة، ورصدت لهذا الحدث ميزانية قيمتها 68 مليون يورو (ما يعادل 100 مليون دولار أميركي)، ولا تسأل عن الأزمة الاقتصادية ولا عن تداعياتها فهناك يمكن أن تؤثر الأزمة على كل شيء ما عدا الثقافة. أما عنا في العالم العربي فقد اخترنا ثلاث عواصم لتكون عواصم ثقافية (القدس عاصمة للثقافة العربية، وبيروت عاصمة عالمية للكتاب، والقيروان عاصمة للثقافة الإسلامية). الحكومة التونسية صرحت لوسائل الإعلام أنها “أقرت تدخلات عاجلة بقيمة 1.2 مليون دينار (حوالي مليون دولار أميركي) استعدادا للتظاهرة”، أما لبنان فرصد لعاصمة الكتاب 8 ملايين دولار فيما حصلت القدس على 10ملايين، فانظر رعاك الله أين نحن وأين نضع أقدامنا؟ لا تبتئس كثيراً، فما زال هناك الأدهى، واعلم حفظك الله أن مجموع ميزانيات عواصمنا الثلاث (19 مليون تقريباً) يعادل سعر لوحة واحدة بيعت في مزاد نيويوركي، (بيعت منحوتة “لوم كي شافير” للنحات البرتو جياكوميتي بمبلغ 19,34 مليون دولار) لكن حتى لو رصدت ميزانيات لهذه الأحداث هل ستصرف او تستثمر كما ينبغي؟!. بيروت عاصمة عالمية للكتاب لأنها حسب كويشيرو ماتسورا، مدير عام منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو”، تتميز بـ”التنوع الثقافي والحوار والتسامح”، و”تواجه تحديات هائلة في موضوع السلام والتعايش السلمي”. يكاد هذا الخبر يكون وحيداً بين الأخبار الثقافية المفرحة، فهي مناسبة لنعلي من شأن القراءة، هذه العملة الغائبة والتي تغيب أكثر وأكثر في حضور الصورة وطغيان الدراما واستلاب الإنترنت. جميل أن تكون بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وست الدنيا تستحق أكثر، بل ونشارك الألكسو في أنه “فخر للأمة العربية” لكن السؤال يبقى هو نفسه: ألا تستحق عواصمنا مبالغ أكثر معقولية من هذه المبالغ الضئيلة؟ إلى متى سيبقى نصيب الثقافة “الفتات” وحتى متى تظل “أضيع من الأيتام على موائد اللئام”؟. الأزمة وأخواتها 373 مليون و500 ألف يورو لمجموعة إيف سان لوران الفنية. يا بلاش!، لماذا يتحدثون إذن عن أزمة اقتصادية ويشدون الرحال الى بلادنا طلباً للعون؟!. يبدو أن الفن آخر المتأثرين بالأزمة الاقتصادية وإلا كيف نفسر بيع هذه المجموعة بهذا المبلغ، وكيف نفهم أن تحطم الأعمال الفنية في مزاد “سوذبيز” في نيويورك الارقام القياسية لسنوات سابقة، وتحصد الدار أرباحاً تخطت 181 مليون دولار، فيما بيعت لوحة “جون اراب” أو “شاب عربي” للهولندي كيز فان دونغن بمبلغ 13,802,500 دولار، ولوحة “بارك او بور دو كوليور” لاندريه دوران بـ14 مليون دولار، والمنحوتة النادرة “لوم كي شافير” للنحات البرتو جياكوميتي بمبلغ 19,34 مليون دولار... ولا عزاء للفنانين والنحاتين والعرب جميعاً. ثمة إضافات أخرى ضرورية: بيع واجهة تابوت روماني حجرية كانت ملكا للكاتب اميل زولا بـ1,5 مليون دولار. بيع بورتريه لرامبرانت باكثر من 20 مليون جنيه استرليني (22 مليون يورو). بيعت مجموعة كينزو من القطع الفنية بـ 9،1 مليون يورو. مزاد كريستيز في دبي يحقق 6,7 مليون دولار ويشهد بيع اغلى لوحة لفنان عربي، والقائمون عليه يشيدون بمتانة سوق الأعمال الفنية في الإمارة. الفن التشكيلي مزدهر أيضا في سوريا وصالات الفن التشيكيلي الجديدة تسجل “اسعارا خيالية” واستقطب الفن التشكيلي السوري في السنوات الاخيرة استثمارات كبيرة ادت الى “نقلة هائلة”، وإن رأى كثيرون أنها “تسوق الفن التافه”. لم تمنع الأزمة بيع مقبرة تعلو مقبرة مارلين مونرو بأكثر من 4,6 مليون دولار، ويبدو أن الراحة الأبدية إلى جانب مارلين حتى في الموت مطلوبة، غير أن الموت حد فاصل لا ينفع معه غنى ولا ثروة ولا حتى جيرة الجميلة. وإن كان المال يفقد كل سحره تحت ظهر الأرض، يبقى له فعل السحر على ظهرها، ويمكن أن “يستر” جريمة هنا أو “يحلحل” رؤوساً يابسة هناك، هذا ما فعلته شركة “شل” البريطانية التي وافقت على دفع 15,5 مليون دولار لتجنب محاكمة حول مقتل كاتب نيجيري يقال إنها متورطة في مقتله، وللمال في تأثيره على النفوس مذاهب. لكن، والحق يقال، إن المعطيات السابقة جاءت بعد “حالة تعافي” فنية، ففي بدايات العام تأثرت سوق الفن بالأزمة، وشهدت تراجعاً نسبياً في الاقبال على الاعمال الفنية، وعرض خلال اولى امسيات بيع الاعمال الفنية لموسم الربيع في نيويورك نصف ما عرض في العام 2008 (36 عملا مقابل 80). ولم تجد اعمال لبيكاسو وجاكومتي من يشتريها في نيويورك مع انهما شكلتا القطعتين الاساسيتين في مزاد علني نظمته دار “سوذبيز” للفن الانطباعي والمعاصر في نيويورك. ولم يتجاوز السعر الذي عرض لشراء لوحة “ابنة الفنان في سن الثانية ونصف السنة في رفقة مركب” للفنان الاسباني بيكاسو 12,5 مليون دولار مع انها كانت مقدرة بسعر يتراوح بين 16 مليون دولار و24 مليونا. ولم يجد تمثال “القط” احد اهم اعمال جاكومتي من يشتريه باكثر من 14,15 مليون دولار. وكان سعر المنحوتة مقدرا بما بين 16 مليونا و24 مليونا ايضا. لكن بيكاسو ظل الملك وبيعت إحدى لوحاته باكثر من 104 ملايين دولار، فيما بيعت اغلى اعمال جاكوميتي ب 27,48 مليون دولار. أكثر من ذلك، بدت التحف والاعمال الفنية “خشبة خلاص” في عصر الازمات، ينطبق عليها المثل القائل (مع التصرف) “عملك الفني الأبيض ينفع في اليوم الأسود”، فقد لجأ فنانون وجامعو تحف بسبب الأزمة الاقتصادية إلى مقتنياتهم لرهنها والحصول على السيولة. النساء يتقدمن “نوبل” ذهبت هذا العام الى السيدة الهاربة إلى ألمانيا من رومانيا هيرتا مولر، فيما “السيدة من تل أبيب” ما زالت تنتظر في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعل وعسى... سلمت نوبل هذه المرة من اللغط والشبهات على ذمة لجنة التحقيق التي حققت في الأمر وبرأتها من الاتهامات. و”مولر” ليست معروفة على نحو واسع للقارئ العربي، وحسناً فعلت “كلمة” حين ترجمتها إلى العربية، لكنها امرأة من اللواتي وضعن اسمهن على لائحة أهم جائزة ثقافية في العالم، لتكون واحدة من “النوبليات” الثلاث عشر. ومولر هذه امرأة من أهل المعاناة. عاشت طفولة قاسية وذاقت معنى الهرب والمنفى في ظل نظام شاوشيسكو التوتاليتاري القمعي وواجهت الحياة بالكتابة. قصة أخرى تضاف إلى قصص النساء الناجحات تعلمنا كيف نحول الألم إلى أمل، وكيف نقفز على جراحنا لنصبح أجمل. وتواترت نجاحات النساء، ها هي الكاتبة الفرنسية/ السنغالية ماري ندياي تفوز بجائزة غونكور، اعرق الجوائز الادبية الفرنسية، عن روايتها “تروا فام بويسانت” (ثلاث نساء قويات). وماري ندياي هي اول امرأة تحصل على جائزة “غونكور” منذ العام 1998. اسم آخر مهم ومشرق: زها حديد، وفي بادرة لا تغيب عنها الرمزية، تحقق نجاحاً آخر بتصميمها المبنى الذي سيتضيف المتحف الوطني لفنون القرن الحادي والعشرين الذي يفتح ابوابه امام الجمهور في ربيع العام 2010، وأين؟ في العاصمة التاريخية للفنون: روما. زها حديد، التي صممت اوبرا كارديف ومركز روزنتال للفن المعاصر في سينسيناتي ومتحف “بي ام دبليو” في لايبزيغ ومتحف “موبايل ارت” لشانيل، وعرفها القارئ العربي (باستثناء المتخصصين) حديثاً، فقط بعد أن تم اختيارها لتصميم دار المسارح والفنون في جزيرة السعديات قبالة أبوظبي، هي أول امرأة تفوز بجائزة بريتزكير (في 2004) وهي بمثابة جوائز نوبل في الهندسة المعمارية. مما يطرح السؤال مرة أخرى: لماذا ينجح مبدعونا هناك؟ لماذا في الغربة ينتجون ويتفوقون ولا نملك إلا أن نفخر بهم ونحزن على حال من بقي هنا منهم؟ ألا يحث هذا أحداً على تغيير الظروف الطاردة للإبداع والفكر في عالمنا العربي؟ متى سيجد المبدعون العرب فرصاً للإبداع في أوطانهم؟ المبنى يشبه طبقاً طائراً جاء من كوكب آخر وحطَّ في روما، ألا يشبه ذلك حال زها ومثيلاتها من المبدعات العربيات؟ أليست المرأة المتفوقة أقرب إلى مخلوق فضائي غريب عن محيطه المثخن بالتخلف والصورة النمطية الجاهزة عن ضعف المرأة وعجزها وعدم صلاحيتها لغير المطبخ وفن “إسعاد الزوج والفوز بقلبه”؟. لن أنسى القول بأن هذه المرأة تستحق لقبها، إنها امرأة من حديد بالفعل، فأن تكون في التاسعة والخمسين أمر لا يسر إطلاقاً في العالم العربي، إنه لا يسر الرجال فكيف بالنساء؟ وهو غالباً يعني “التقاعد” وهو السن الذي يشعر فيه المرء “أنه متروك ومهمل ولا أحد يحتاج إليه”. هنا يمرض الروائي ويبحث عن معين يساعده في التغلب على المرض ولا يجد أحداً (الروائي يوسف أبورية ناشد أهل الخير وأهل الشر أيضاً فلم يغثه أحد) فيموت ألف مرة قبل أن يموت ويرتاح. هنا يضطر المبدع إلى بيع الأحذية على الأرصفة لكي يعيل أسرته بعد أن تخذله عواصم الثقافة، هنا، تبلغ المرأة سن اليأس قبل الموعد، وهناك تبلغ التاسعة والخمسين وتظل تعمل وتعطي وتبدع... ولا عزاء لأحد.. للرجال قبل النساء.. للمثقفين قبل المثقفات. ختامها.. أمية اليونسكو، وعلى عادتها في كل عام، نشرت تقريرها عن حال الأمية في عالمنا العربي المجيد، وأفاد بأن عدد الأميين في الدول العربية يصل الى نحو 70 مليوناً ثلثهم من النساء، وأن 6 ملايين طفل في سن الدراسة، بينهم 60 في المئة من الفتيات، لم يلتحقوا بالتعليم، وأن 0.6 في المئة من العرب يستخدمون الإنترنت أي أن منطقتنا تشهد “أدنى معدل لاستخدام تقنيات المعلومات والاتصال في العالم”، (أظن أن “اليونسكو” تتآمر علينا، ويبدو أنه لم تصلها أنباء شبابنا وبناتنا في غرف “التشات” ولم ينم إلى علمها حرصهم على متابعة كل جديد وغريب في عالم الموبايلات والاتصالات حتى إنهم يستخدمونها بمنتهي السهولة في الامتحانات). بصراحة... كأن اليونسكو في تقريرها تطلق على الثقافة العربية ما يشبه رصاصة الرحمة... يبدو أن الخرق اتسع على الراقع... ولا تعليق!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©