الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما «يختنق» الهواء في غزة

عندما «يختنق» الهواء في غزة
30 ديسمبر 2009 21:27
النص مؤلف بالفصحى ويحاكي قصة حقيقية في الواقع، هذا ما استطاع محمود أبوالعباس أن يشكله من جديد للمسرح درامياً وتمكن من جانبه إبراهيم سالم أن ينقل أجواء الواقع إلى الخشبة التي أدار من خلالها وبها نصه المقدم حركة وديكوراً وإضاءة وصراعاً في الحوارات المتأرجحة بين الارتفاع والانخفاض عبر محاولته توصيل دلالات الرموز التي حفل بها النص الكتابي. تبدو المسرحية خارجة عن الفصول والمشاهد المنفصلة، حيث تقدم مشهداً واحداً طويلاً مقسماً إلى 7 مقاطع يتنقل من خلالها الحدث تنامياً وصعوداً عبر انقطاعات الضوء وسيادة الظلمة التي كانت تفصل بين مقطع وآخر، في سينوغرافيا المسرحية الذي وضعه المخرج نفسه ابراهيم سالم ولم يتبدل واشتمل على سرير لمريض وكرسي وبرميل للكازويل وفانوس وستارة شفيفة تفصل عالمين هما عالم البيت من الداخل الذي ضم تلك الأشياء وعالم خارجي يشاهد من خلال الستارة الشفيفة والذي ينقل حركة الشارع وركض الناس والقتال المستعر في المدن الفلسطينية. تلك هي مسرحية “لا هواء” التي قدمت على خشبة المسرح الوطني بأبوظبي وهي من إنتاج فرقة المسرح الحديث التابعة لجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح ومن تأليف الكاتب والمخرج المسرحي العراقي محمود أبوالعباس وإخراج الممثل والمخرج الإماراتي إبراهيم سالم ومن تمثيل الفنان مرعي الحليان بدور الأخ الأكبر وسميرة الوهيبي بدور الجدة وصالح البحار بدور الخال ورائد الدالاتي بدور الأب وإيمان حسين بدور الأم وفيصل علي بدور الأخ الأصغر وأحمد ناصر بدور العم وعبدالرحمن الزرعوني بدور الجار. سبعة مشاهد ابتدأ المشهد الأول بظلام مصحوب بإطلاق رصاص كثيف ليكشف عن سرير ينام عليه مريض وهو الأخ الأصغر، أما المرأة التي تمسك فانوساً فهي الأم بينما بدا الأب متوجعاً تلفه حيرة غامضة في الوقت الذي بدا فيه وجه إنسان يتحدث إليهم من خلال شباك في جدار البيت الأيسر وهو وجه الجار اليهودي. من الكوة السوداء تلك تتضح طبيعة العلاقة والصراع العربي - الإسرائيلي، على الرغم من أن الجدة استطاعت أن تقدم ملخصاً لتاريخ حيرتها مع هذا اليهودي منذ أكثر من 60 عاماً. المريض “الأخ الأصغر” كان يطلب الهواء داعياً أمه وأباه أن يضخا له هواء عبر مضخة يدوية، مادامت الكهرباء قد قطعت بسبب القتال والدمار، استخدم ابراهيم سالم في إخراجه للنص بروجكترات لإضاءة خشبة المسرح وأطفأ الفانوس الذي ابتدأ به النص. في المقطع الثاني يدخل الأخ الأكبر ليجاور الجدة التي تحمل مفتاح وسند بيت أهلها القديم متمنية أن تودعه عند حفيدها. وفي المقطع الثالث تدخل الجدة في صراع مع زوجة الابن.. وفي المقطع الرابع تبدأ معادلة تقابلية بين الأم وابنها المريض الابن الأصغر والجدة والابن الأكبر المتشرد، الخائف، حينما تؤمن الجدة بأن المريض سيغادر الحياة والمهمة لابد أن يضطلع بها من هو الأقوى على مواجهة الموت على الرغم من إحساسه بالخوف، يرد الابن الأكبر مستهزئاً أن المفتاح يحتاج إلى باب والباب يحتاج إلى بيت والبيت صار شارعاً تحت سرقات الدبابات. حرب الصغائر في المقطع الرابع يدخل العم مع زوجة أخيه بصراع يمثل بوضوح “حرب الصغائر” التي تعمق من إحساس المريض بضيق تنفسه وطلبه المستمر لهواء نظيف، في هذا المقطع ينشأ حوار بين الجدة والجار الإسرائيلي بادياً الأخير لطفه اللامعهود، مخططاً لمكيدة.. فتبدو إشكالية العلاقة ملتبسة بين الجار الإسرائيلي والجيل الأقدم والجار الإسرائيلي والجيل الجديد الذي يرفض التعامل معه وهنا يمكن التساؤل هل قبلت الجدة الجار الإسرائيلي عندما قررت أنه يعايشهم منذ 60 عاماً، وهل يكفي هذا التاريخ ليعطيه شرعية الانتماء للأرض؟ المقطع الخامس في حوار الأم مع ابنها وزوجها والجدة تفصح عن مللها من الظلمة وانقطاع الماء والهواء الملوث وخلاف الأخوة والابن المريض الذي يطالب بالهواء.. في المقطع السادس يتقابل الصراع بين العم والخال حيث يمثلان كتلتين تريد كل منهما أن تهيمن على البيت “إنه صراع على السلطة” ايضا. الأخوة المفقودة يطرح أبوالعباس فكرة صراع الاخوة فيحاور التاريخ الذي يقترب اليه من خلال حكاية هابيل وقابيل حيث أن الجميع يحمل صفة الأخ “أخ الأم، أخ الأب، الآخر 1، 2”، ويدخل الابن الأكبر ليروي موت جدته عند مكب النفايات بطلقة قناص فتعم المأساة الجميع وفي المقطع السابع يلقي الجار اليهودي بالحلوى الى الابن الأكبر فيرفض الأخير ويردها اليه ويدعى اليهودي أنه قد رماه بالحجارة فتأتي الشرطة لتعتقله، ويقرر الجميع أن من يمنع الهواء هو الإسرائيلي الجار حينما يدخل الأب مع أخيه المصاب والأم تحضن ابنها المريض الذي يموت إلا أن الجميع يقررون البقاء.. ويختتم النص بقراءة نص شعري فلسطيني “أناديكم.. أشد على أياديكم”. يقوم النص المسرحي على محاكاة قصة حقيقية في الواقع الفلسطيني، حيث أهدى إلى أهالي غزة المحاصرين، كما جاء في بوستر المسرحية، واستطاع محمود أبوالعباس أن يشكّل موضوعة الحصار وفقدان الأمان والماء والكهرباء والعلاج والدواء ليخلق عالماً مأساوياً حد النزف، إلا أنه لم يكتف بذلك بل قدم صراعات الأخوة في واقع متناحر أصلاً. المستويات الثلاثة وتمكن المخرج الإماراتي إبراهيم سالم أن يلتقط الفكرة ليقدم لنا 3 مستويات للمسرح الأول مسرح مكاني مفتوح على الجمهور وهو ما جرت عليه أحداث المسرحية والثاني خلفي في عمق المسرح خلف ستارة نايلونية شفيفة تعرض ما يجري في الشارع الفلسطيني من نار وحريق وعويل وصراخ، والثالث من وراء الستارة الزرقاء التي ثقبت على شكل مربع يوحي بشباك يطل منه جار الأسرة الفلسطيني وهو اليهودي “داود”. كان تعامل ابراهيم سالم مع رموز المسرحية دلالياً وسيميائياً يفوق التوقع حيث يقوم النص برمته على أساس كونه مشهداً واحداً طويلاً مقسماً إلى 7 مقاطع ينتقل من خلالها الحدث تنامياً وصعوداً عبر انقطاعات الضوء وسيادة الظلم بين كل مقطع وآخر كبديل عن إقفال الستارة. وضع ابراهيم سالم سينوغرافيا العرض ولم يبد له لأنه استعان بالمستويات الثلاثة التي قسم بها المسرح وبذلك خلق أفقاً أوسع في الرؤية من السينوغرافيا المتبدل الذي لم يستخدمه. اشتمل المسرح على سرير لمريض يجلس عليه الأخ الأصغر طالباً الهواء بعد خروجه من المستشفى وكرسي تجلس عليه الجدة العجوز وبرميل للكازويل وفانوس وهذه العناصر بالرغم من قلة عددها دلاليا الا أن ابراهيم سالم استطاع ان يمنحها أفقا واسعا ولديه دلالات إضافية . قصة النص تدور أحداث القصة في بيت فلسطيني بغزة يرقد ابنهم الصغير مريضاً والأم في حيرة من أمرها لما سيؤول عليه حال ابنها والأب متحير أيضاً والجدة مشغولة بحلم تسليم مفتاح بيتها القديم إلى الابن الأكبر “الثاني الذي يقوم بدوره مرعي الحليان” وثمة صراع بين أخ الزوجة وأخ الزوج أي بين الخال والعم وهو الصراع الفلسطيني بين الأخوة وأبناء العمومة بينما ترقد القضية مريضة مشلولة تريد هواء ولا هواء. في الجانب الآخر كان الجار الفلسطيني مستفزاً يخطط لتنفيذ مكيدة وراء أخرى كي يخرج العائلة الفلسطينية من بيتهم، فتبدو إشكالية العلاقة بين الجار وجاره في حالة تكاره لا يمكن أن تمحى وهي تتوارث من جيل لآخر وتسلم كالمفتاح القديم الذي يبحث عن يد كي تصونه ولا تفرط فيه، إنها حرب القناعات والمبادئ والمكائد وخصومات الأخوة. يطرح محمود أبوالعباس فكرة أن الجميع يحمل صفة الأخ “أخ الأم، أخ الأب، الأخ الأكبر، الأخ الأصغر” وتموت الجدة مقتولة في مكب النفايات.. هكذا يدفن التاريخ ويختتم النص بموت الابن الأصغر وفي ضوء ذلك تقرر العائلة البقاء بإصرار. اشترك في إنجاز المسرحية محمد صالح للمؤثرات الضوئية وميرزا المازم للمؤثرات الموسيقية تأليفاً وزاهر السوسي لهندسة الصوت والعازف أنور حريري على آلة الكمان والعازف وسام على آلة الناي والمطرب ياسر حبيب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©