الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختراع الحب

اختراع الحب
30 ديسمبر 2009 21:44
قد يوحي عنوان كتاب “الحب والغرب” أنه كتاب آخر عن الحب يضعه كاتب فرنسي، الحب الذي كانت تلمح إليه المهازل المسرحية أو الحب الذي كان فلوبير يسخر منه، وقد أتخمنا من كل هذا، وهو ليس بالشيء الجدّي!. على أن الحب الذي يتكلم عنه دينيس دي رجمون هو على غاية من الجدية، فهو الظاهرة التي وسمت الثقافة الأوروبية بأبرز طوابعها وأخصها، فالشعر والرواية والمأساة والأوبرا قد انحدرت جميعها من هذه الظاهرة، وعاشت بها، وحافظت عليها حتى أيامنا هذه. ويتناول الكتاب ولادة فكرة هذا الحب في أوروبا، ثم يعرض أبرز نتائجه في جميع مناحي الحياة الاجتماعية، ويتساءل عن مستقبل الحب في عالمنا الجديد الآخذ في خلق التقنية وتعميمها في جميع أقطار الدنيا. هبط من السماء! يرى الكاتب أن الظاهرة المعقدة التي يسمونها (الحب في الغرب) قد ولدت خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر من التاريخ المسيحي في جنوبي فرنسا. ويذكّر الكاتب بالعبارة التي قالها المؤرخ شارل سينيوبوس والتي طالما رددتها الأفواه: “إن الحب من مخترعات القرن الثاني عشر”، وقد ظلت هذه العبارة تُحمل لثلاثين سنة خلت محمل التفكه ولا تثير إلا ارتياباً عاماً في مدى صحتها. فكان يقال: “ماذا؟ ألا يكون الحب عاطفة قديمة كقدم الجنس البشري؟”. هذا ما يتبادر إلى الذهن، غير أن الواقع كما يشير المؤلف قد فنده، لأن لفظة الحب التي تعني في أوروبا (العاطفة والهوى) لم تكتسب هذا المعنى إلا في القرن الثاني عشر. وذلك عندما أدخله الشعراء المتجولون (التروبادور) في شعرهم. هذا الشعر الذي ظهر فجأة في جنوبي فرنسا، وما لبث أن انتشر انتشاراً غريباً في القارة الأوروبية، لم يكن له ما يشبهه في الشعر السائد آنذاك في أوروبا، فكأنه هبط من السماء، حتى إنه بقي زمناً طويلاً، وما من أحد يتمكن من إيجاد صلة تصله بشيء سابق له، وقطع العلم الرسمي قطعاً حاسماً بأن هذا السر لا حل له وأنه يبقى إلى الأبد بغير حل. محاولة لحل اللغز يعتبر دينيس دي رجمون أن كتابه “الحب والغرب” مجازفة حقيقية أمام الخفة التي قوبل بها المنقبون القلائل الذين حاولوا إبداء نظرية لحل هذا اللغز. وكانت الأسئلة الأولى التي طرحها على نفسه: أيكون الشعر التروبادوري في مختلف أشكاله الثابتة الأنيقة وفي مذهبه الجديد كل الجدة، من مبتدعات بعض الشعراء المتجولين الذين لم يكونوا على قدر كبير من الثقافة؟. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تمكن هذا الشعر من قلب مجرى شعور الأوروبيين وتطوير فنونهم وتبديل عاداتهم طوال قرون عديدة؟. وهل هو دليل على ثورة أعم من ثورة الشعر، كانت تتمخض بها في ذلك العصر النفسانية الأوروبية؟. يؤكد الكاتب أن القرن الثاني عشر كان مسرحاً لثورة أساسية غيّرت الثقافة الأوروبية أخلاقياً وروحياً، حيث انتشر نوع من الهوى العذري، وتوطدت أركانه في البلاطات والقصور، حيث كان الشعراء المتجولون ينشدون قصائدهم. وكانت نتيجة ذلك تمجيد المرأة، التي كانت قبل ظهوره مهملة أو محتقرة، جاعلاً منها (السيدة) التي هي كفؤ للسيد الذي يخضع له الفرسان ويطيعونه. وانتشرت ما تعرف بالكاثارية أو الألبيجوازية، ومذهبها (مانوي)، يعتبر النفس جزءاً من الإنسان، خلقها الله الحق وسجنت في الجسد، الذي هو الجزء الآخر من الإنسان، خليقة الشيطان، وعلى الروحانيين في عرف هذا المذهب أن يتعففوا وأن يزهدوا في كل علاقة جسدية تؤدي إلى الإيلاد الذي يزيد في عدد النفوس الملقاة في الأجساد الخسيسة. ولفظة كاثار من أصل إغريقي، وتعني الصفاء والنقاء، ويقصد بها تطهير الروح من شوائب الجسد. فإذا كان هذا ما مهد لانتشار الشعر التروبادوري وسهل انتشاره، ليعبر عما كانت تتوق إليه النفس في أوروبا القرون الوسطى، إلا أن مصدر هذا الشعر ظل لغزاً محيراً لفترة طويلة. شعراء الأندلس كان مفتاح الحل ـ كما يقول المؤلف ـ هو الشعر العربي الذي ذاع في القرن الحادي عشر في الأندلس، وخاصة في قرطبة التي كانت مهداً لمذهب شعري نبغ فيه ابن حزم وابن قزمان ثم المعتمد الإشبيلي فاشتهروا في العالم العربي وامتد صيتهم حتى بغداد. فمن هذا الشعر العربي استعار (غيوم ده بواتييه) وتلاميذه الصيغ والمواضيع والتقفية، حتى وأنغام أغانيهم. وقد أيدت هذه النظرية الأبحاث التاريخية والأدبية والفلسفية العديدة التي حملت الأدلة والبراهين المفصلة الحاسمة. ولاسيما أن غيوم ده بواتييه قد رحل إلى الشرق في حملة صليبية وأقام فيه زمناً طويلاً، اقتبس خلاله من شعراء العرب مذهب قرطبة الشعري وفنه، وطرق التعبير عن الحب. وهذا الأمر أصبح معروفاً لدى الأوساط العلمية المختصة، لكن الشيء الذي لم تكن تعرفه، وحمل دينيس دي رجمون على عاتقه مهمة جلائه، هو أن شعر الحب عند عرب الأندلس كان متصلاً اتصالاً حميماً بالمذهب الصوفي الذي ولد في العراق، والذي يمثله في القرن الثاني عشر الحلاج والشيرازي والسهروردي الحلبي، ثم إبن عربي. وجميع هؤلاء الصوفيين قد لجؤوا إلى صيغ الشعر المنظوم في الحب الدنيوي للإعراب عن حبهم الإلهي، فعد هذا ضرباً من البدع أفضى بالكثيرين منهم إلى الهلاك. وعليه تكون المطابقة بين الموشحات والأزجال وبين شعر شعراء اللانغدوك أو (الكورتيزية) قد ازدوجت بمطابقة أخرى هي المطابقة بين بدعة الصوفيين وبدعة الكاثار. والواقع أن مذهب الكاثار متفرع من المانوية التي أثرت تأثيراً بعيداً في المذاهب الصوفية، فتكون المانوية الإيرانية إذاً أصلاً مشتركاً بين البدعتين اللتين ظهرتا في المسيحية والإسلام. وبينما سادت المانوية طوال قرنين في جنوبي فرنسا متخذة (الكاثارية) اسماً لها. فإن الصوفية التي نشأت في بغداد وامتدت إلى حلب فدمشق فالأندلس، التقت مع الكاثارية في جنوبي فرنسا، ويخلص الكاتب إلى أنه “من هذين التيارين الروحيين القادمين من شاطئ البحر المتوسط، منبع الحضارة، قد انحدرت جميع آدابنا الكتابية الأوروبية وجميع المفاهيم الشائعة التي تدور حول الحب، سواء أكان في الغناء أم الكتابة أم طرق العيش، وبقيت حتى أيامنا هذه”. الحب والديانات يقول الكاتب إن آسيا البراهمة والبوذيين لم تعرف حبنا هذا، بل تدهش من وجود هذا الحب، وتمزج دهشتها بالسخرية أو الخوف. العلاقات الجنسية عند الهنود والصينيين واليابانيين وغيرهم من شعوب آسيا الجنوبية والشرقية، هي علاقات اجتماعية خالية من أية نفحة رومانسية، وغالباً ما ينظرون إلى حبنا على أنه عمل جنوني!. فهناك في الحقيقة عالمان للحب، العالم الشرقي والعالم الغربي، وإن ما جاء به العرب من هذا القبيل إلى أوروبا أصبح جزءاً متمماً للغرب لا للشرق. وهذه الحالات الثقافية والحضارية مرتبطة بمواقف الإنسان الدينية، فديانات الهند وآسيا الجنوبية والشرقية هي ديانات لا تعرف إلهاً أعلى قائماً بذاته، ولا تعرف بالتالي علاقات شخصية بين الإنسان والله، بل تعتبر الفرد شيئاً وهمياً. فالأنا عندهم ما هي في الواقع إلا خطأ لا يمكن إصلاحه إلا بفنائه النهائي في المطلق الذي لا اسم له عندهم. وبالتالي فإنه في عالم كهذا يصعب أن يكون هناك أهمية للعلاقات التي تقوم بين شخص وآخر والتي يرتكز عليها الحب. وكل ذلك يتغير من أساسه وبصورة ملموسة إذا انتقلنا إلى عالم سادته وتسوده إلى الأبد الديانات الإبراهيمية، لأن الله في هذه الديانات هو ذات، والعلاقات الشخصية بين الله والإنسان هي علاقات طاعة أو عصيان أو شك، ويضاف إليها علاقات عاطفية، أي علاقات حب. مستقبل الحب؟ إن تطور الهوى، كما رسمه دينيس دي رجمون في كتابه يمتزج بتطور العادات ومجرى الحياة الأوروبية، وهو يرى أن هناك صراعاً مستمراً بين الهوى والمجتمع الغربي، رغم أن هذا الهوى يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالديانة المسيحية، فقد ولد وأظهر نفسه حيث تمكن الناس من أن يروا فيه رمزاً وصورة للروابط بين النفس وخالقها، وقد شجبه التعليم الديني القويم، لأنه سيطيح بالحرمات التي تكرسها الخلقية والعقل. ولكن إذا صح أن هذا الهوى يزول بزوال التعليم القويم، يصح أيضاً أن الهوى يستقي من الينابيع نفسها التي تستقي منها الديانة المسيحية، وأنه يقضى عليه بالتلاشي بمقدار ما تكف هذه الديانة عن مكافحته، ويخلص الكاتب إلى أن الخطر الذي يهدد الحب كامن في ثقافة لا تبالي بأية ديانة كانت، لأنها تنضب الينابيع التي تستقي منها الأهواء. ويبدو الكاتب متفائلاً بحذر حول مستقبل الحب، فهو يرى أن البورجوازية الغربية هي الآن في معترك انحطاطها، وحرماتها باتت على وشك الانهيار، ولاسيما مع اعتماد أفكار فرويد بأن كبت الغريزة الجنسية أشد خطراً على المجتمع وعلى الأفراد من إطلاق الحرية لها، مما أدى إلى انتشار الحوافز الشهوانية بملء الحرية، أما الحب فهو بحاجة إلى بيئة روحية وإيمان قلق متطلع إلى عالم النفس والعاطفة والمحبة، لكنه يختم بقوله: إن الحب قادر على خلق وسائل تضمن خلوده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©