الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شموسُ الإبداع في الجنوب الفرنْسيّ

شموسُ الإبداع في الجنوب الفرنْسيّ
7 سبتمبر 2016 21:49
1. الجنوب الفرنسي هو الشمس، الأراضي الفلاحية، والبحر الأبيض المتوسط. كونٌ مشرق بأفق الساحل الأزرق. ذلك ما شكل قوة جاذبة لفنانين فرنسيين أوروبيين من الشمال الداكن، إلى الإقامة في هذه المنطقة مدة تطول أو تقصر. فللجنوب الفرنسي تاريخ عريض مع الإبداع الفني، ابتدأ في القرن التاسع عشر وامتد في القرن العشرين. وإلى جانب الفنانين كان للشعراء مكانتهم، من أبناء المنطقة ذاتها أو من الوافدين عليها. بهذه الخلاصة الخاطفة يمكن النظر إلى شسوع التجربة التي عرفها وغذاها الجنوب الفرنسي في مسار ثقافة الحداثة الغربية. أضع هذا التاريخ على طريق الحداثة الغربية لأن ما أنجزه فنانون وأدباء، في الجنوب الفرنسي، امتدت أجنحته إلى ربوع الغرب كافة، ومس مسار الحداثة الغربية برمتها. عبر هذه الرؤية التقيتُ الجنوب الفرنسي. كان ذلك قديماً، عندما كنتُ أتتبع آثار الفنانين والشعراء الذين رجّوا القيم الفنية والجمالية الكلاسيكية وأنشأوا مدرسة مختلفة تماماً، هي التي أصبحت مرجعاً لمغامرة الحداثة في الفن والأدب. كان لقائي في البداية مع فئة الفنانين والكتاب من خلال الكتب. إذ كان من المتيسّر لي، كقارئ مغربي، أن أحصل على كتب فنية وأدبية صادرة عن دور نشر فرنسية عديدة، وفي سلاسل وأحجام مختلفة. تلك نعمة أذكرها بالشكر لكل من عملوا على وضع الكتاب وصنعه، وخاصة منه الفني. أهم ما يميز الصنف الفني وجود صور مختارة من الأعمال الفنية. بفضل هذه الكتب تعرفتُ، وأنا شاب أعيش في مدينة فاس، البعيدة عن الغرب، إلى أسماء فنانين غربيين وعلى حركات ومدارس من صميم الحداثة الغربية. ثم جاءت مرحلة زيارة المعارض بعد أن أصبحتُ أسافر إلى أوروبا. كانت الخطوة الأولى متحف البرادو في مدريد. ثم عندما وضعتُ القدم على أرض باريس وجدتني أمام مدينة كلها متاحف. اللوفر، هو المكان الأول الذي تشاهد فيه أعمالاً فنية، من رسوم ومنحوتات، تمثل تاريخ الفن العالمي، من مختلف العصور والحضارات. ومن اللوفر إلى متاحف الفن الحديث بتسميات لا حصر لها. وشيئاً فشيئاً، ينفتح لك عالمُ الفنون عبر العالم، غرباً وشرقاً. ولهذه المتاحف بأصنافها أعطي اسماً جامعاً، هو المعابد الحديثة. 2. زيارة المتاحف أدتْ بي إلى الرغبة في زيارة الفضاءات التي لها صلة بالشعراء والفنانين. أكثر من ذلك. هي التي علمتني كيف أزورُ فضاءات المعلمين الكبار من أدباء وفلاسفة وموسيقيين. تلك أصبحت رغبتي. لم أكن أعرف ما الذي بعثَ في نفسي تلك الرغبة الجامحة. لكن، لا مصادفة في ذلك. عندما أقبلتُ أول مرة على مدينة مدريد، في يوليو 1968، كنتُ على علم بالحركات الفنية الإسبانية الكبرى، وكنتُ على علم بوجود بيت الغريكو في طليطلة. لذلك اتجهتُ إليها عبر القطار. وعند عتبة بيت الغريكو شعرتُ بأنني أضع قدمي على عتبة بيت فاسي. لم يكذب حدْسي. معمار البيت وتصميمه يشبهان معمار وتصميم البيوت الفاسية إلى حدّ لا تعود تعرف هل أنت تطأ أرض الأندلس أم أرض فاس. بيت أول هو الغواية. ثم كان ما كان من زيارات كانت كل مرة تقربني من أنفاس الذين أزور فضاءاتهم، من البيوت إلى القبور. عوالم أراها تخرج من صمت الأمكنة ومن تغيّر الزمن. وهي تعلمني، باللمسة والإحساس، ما لم تعلمه لي الكتب والمتاحف. شيءٌ ما أكاد أحياناً أعجز عن إدراكه. أختار لنفسي مكاناً منفرداً وأجلس لأنصتَ إلى ما لست أدري. ساعات تمرّ وأنا هناك، في ذهول من يرى ولا يدرك ما الذي يرى. 3. في هذا الصيف أيضاً اشتد جموحُ الرغبة في الجنوب الفرنسي، لزيارة فضاءات فنانين أحدثوا الرجّة تلو الرجّة في القيم الجمالية وفي معنى الحقيقة الفنية. كانت مشاركتي في مهرجان الأصوات الحية للشعر المتوسطي، في مدينة سيت في الجنوب الفرنسي، فرصة لأختار قضاء أيام في المنطقة. سيت هي مدينة بول فاليري، وهو دفين مقبرتها التي غناها في «المقبرة البحرية»، إحدى أشهر قصائده الملحمية. بول فاليري ربما كان أشهر شاعر مريد لستيفان ملارمي، وصاحب تجربة شعرية متفردة في الشعر الفرنسي الحديث. مقبرة في قمة المدينة، وأمامها زرقة البحر التي تتسعُ في الاتجاهات البعدى. هنا، في هذه المقبرة، يرقد بول فاليري، كما لو كان يستريحُ على مرأى من الآلهة. سيت تنتمي إلى منطقة البروفانس. كلمة شاملة تعني الجنوب الفرنسي. لهذه الكلمة وقعُها العجائبي في نفوس الغربيين وفي نفوس كل من يعرف الغرب والثقافة الغربية، في العصور الوسطى وفي العصر الحديث. تقع في الجنوب الغربي، تمتد حتى البحر الأبيض المتوسط وجبال الألب، وتطل على إسبانيا. كان لها من الصلات الثقافية مع الثقافة الأندلسية في القديم ما كان من مجد تعبّر عنه حتى اليوم مدن مثل مونبوليي، إيكس أون بروفانس، أفنيون، الفوكليز ومرسيليا. تاريخها الثقافي القديم، في العصور الوسطى، اشتهر بشعراء التروبادور، وبحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وأيضاً بالإقامة البابوية (الأولى من 1309 إلى 1378؛ ثم الثانية من 1378 إلى 1418). تاريخ لا يزال ينكبّ على العناية به حتى اليوم باحثون من أطراف عديدة من العالم. وأهمّ شخصية أدبية زارت البروفانس وتتبعت آثار التروبادور في العصر الحديث هو بلا ريب الشاعر الأمريكي إزرا باوند. وللشاعر الإيطالي بيتراركا بيته في منبع الفوكليز الذي تحول إلى متحف غنيٍّ بمكتبته وبأنشطته الثقافية. عالم إقامة بيترركا وغرامياته وكتاباته كلها تدور في هذه المنطقة التي أصبحت مقصد زائرين متعطشين للتعرف على عوالم لحظة القطيعة مع العصور الوسطى وافتتاح عصر النهضة. 4. في البروفانس ما يعنيني هذه المرة. البدء بزيارة بيت ستيفان ملارمي في مدينة أفنيون. هناك كان عمل مدرساً من 1867 حتى 1871. في أفنيون شرع في كتابة «هيرودياد» قصيدته الفلسفية التي لم ينته من كتابتها، رغم أنها صاحبته في جميع المراحل اللاحقة بعد أن انتقل إلى باريس. قصيدة ناقصة. وهي أهم عمل شعري لملارمي بعد «رمية نرد». كل من يهتم بشعر ملارمي يعرف القيمة الاستثنائية لهذه التجربة المبكرة في مساره الشعري. كنت مشدوداً إلى التعرف إلى البيت الذي أقام فيه ملارمي، المعلم الفقير. استنسختُ تصميم المدينة وسجلتُ بدقة عنوان البيت ثم انطلقت. أفنيون مدهشة بجمال مدينتها القديمة. السياح، الذين يتجمعون في ساحة قصور البابوات، أو يجوبون شوارع وأزقة المدينة، أو يتسابقون على الصعود إلى أعلى قنطرتها الشهيرة، نادراً ما يغادرون الأماكن السياحية. كل زاوية من زوايا أفنيون تضاعف من متعة الوقوف قليلاً ومشاهدة المكان أو الفرق الموسيقية. لكني أتيت من أجل بيت ملارمي. حارة كارنو، بالضبط، هي التي كنت أبحثُ عنها. عندما سألتُ سيدة في متجر أنيق، ألقتْ بيدها إلى أسفل وأخذت تصميمَ المدينة. بكلماتها المرحّبة دلتني على الطريق. من شارع لشارع. وفي النهاية ها هي زنقة كارنو، رقم البيت 8، زنقة بوابة ماتيرون. هنا عاش ملارمي. لوحة رخامية فوق باب العمارة مكتوب عليها اسم ملارمي وإقامته. وعند مدخل الباب مباشرة لوحة نحاسية حديثة العهد مكتوب عليها عيادة الطب العام، يعمل فيها طبيبان. عمارة بسيطة، تحافظ على بنائها القديم، ونافذتا الشقة مغلقتان بإطار خشبي أبيض. نعم، هنا عاش ملارمي، وهنا بدأ في كتابة هيرودياد وعاني الإخفاق في الانتهاء من كتابتها. يمكن أن أتخيله يغادر العمارة للتدريس في الثانوية الإمبراطورية أو يعود إليها فور لقائه شعراء العامية، من أبناء أفنينون، في العمارة التي كانت فندقاً في القرنين السابع والثامن عشر. 5. وفي أقصى مدينة مرسيليا ضاحية ليستاك. منطقة مبتهجة بزيارات فنانين تشكيليين أدخلوا قيم التحديث الفني إلى اللوحة. أشهرهم بول سيزان (1839ـ1906). إنه ابن إيكس أون بروفانس. وهو الفنان الذي مثلت أعماله ردّة فعل على الانطباعية وفتحت المجال للحركات التحديثية في القرن العشرين. وصل إلى ليستاك سنة 1870، هارباً من الجيوش البروسية التي تحاصر باريس. ليستاك، التي يمكن أن تصل إليها من ميناء مرسيليا القديم عبر باخرة، أو عبر حافلة بالقرب من الميناء الجديد. ضاحية لا تزال تحافظ على فضائها الطبيعي، الذي كان في القرن التاسع عشر يكتسحها أكثر مما هو اليوم. هنا الضوء ينبثق من كل مكان، ومع الضوء تكوينُ الهضاب المكسوة بالنباتات، وبنايات البيوت أو القنطرة في وسط الهضبة. ويظهر خليجُ مرسيليا ممتلئاً بالمراكب الصغيرة وبالأفق البحري الأزرق المتموج. في أعلى السفح كنيسة تملأ ساحة مفتوحة على المنظر البحري، وفي جانبها الأيمن البيتُ الذي كان يقيم فيه سيزان. هنا كان ينزوي ليرسم ما كان يحسه، مختلفاً عن الانطباعيين. كان هنا يقيم في الفترة ذاتها التي كان فيها ملارمي يقيم في أفنيون. وكل منهما كان يعيش مرارة الفشل. أجلس في المقعد الخشبي قبالة البحر أو أقطع طريق الفنانين، لعلي أظفر بسر البصيرة التي جعلت لاحقاً من سيزان فناناً لا يتنازل عن اختياراته الجمالية، رغم ما كان يلاقيه، المرة تلو المرة، من إنكار الرأي النقدي لطريقته ومن رفض لأعماله ومن سخرية لا تتوقف. فقط، كان إلى جانبه المعلم بّيسارو. من أجمل ما يمكن أن نقرأ بخصوص تفكيره وعمله ما كتبه له إيميل زولا في رسالة وجهها إليه، مؤرخة في 20 ماي 1866: «تخيلْ، يكتب زولا، أننا، وحيدان، في ركن ما ضائعان، خارج كل نضال، وأننا نتكلم كصديقين قديمين يتعرف بعضهما على بعض حتى القلب ويتفاهمان بمجرد نظرة. منذ عشر سنوات ونحن نتكلم في الفنون والأدب. سكنّا معاً ـ هل تتذكر؟ـ وغالباً ما فاجأنا النهار ونحن لا نزال نناقش، ننقب في الماضي، نسائل الحاضر، نتشبث بالبحث عن الحقيقة ونبدع ديناً لا يقهر وكاملاً. خلخلْنا العديد من الأفكار الفظيعة، اختبرنا ورفضنا جميعَ الأنساق، وبعد عمل شاق، قلنا إنه لا يوجد خارج الحياة القوية والفردية، إلا الكذب والغباوة». 6. في البروفانس نفسها، فنان من أكبر شيوخ الفن الحديث. فان غوغ. قدم من هولندا إلى باريس، ومنها إلى مدينة آرل، التي وصل إليها في 20 فبراير 1888، وفي مدينتها القديمة أقام حتى مايو 1889. في 17 سبتمبر من السنة ذاتها انتقل إلى البيت المعروف بالبيت الأصفر الذي خصه برسومات عديدة وبلوحة زيتية، وتعرض للدمار في الحرب العالمية الثانية. وفي 23 أكتوبر التحق به وأقام في البيت معه بول غوغان، الذي لم يكن الحوار معه سهلاً بخصوص مفهوم العمل الفني، وانتهي بأن قام فان غوغ ببتر أذنه اليمنى في 23 ديسمبر 1888. في هذا الجنوب الفرنسي انتقل غوغان من الألوان الترابية، الداكنة، إلى الألوان الشمسية، الأصفر الذهبي. ومن أشهر أعماله اللوحات السبعة التي تؤلف السلسلة المعروفة بعبّاد الشمس. اثنتا عشرة زهرة في مزهرية ثم خمس عشرة زهرة في مزهرية ثانية. أربع لوحات من السبعة رسمها في غشت 1888، وثلاث منها في يناير 1989. إلى هنا أتى وفي أعماقه الألوان المشرقة التي عاد بها دولا كروا من المغرب. الألوان الشمسية أو الألوان الناصعة التي كان يريد بها أن ينقل «العواطف الإنسانية» كما كان يعبر عن ذلك. كان لا بد أن أذهب إلى هناك، إلى آرل. ولم يتأخر الوقت. منذ مدخل المدينة تحس بأشباح فان غوغ. الشوارع، البيوت، المطاعم والمقاهي، المتاجر، مقر البلدية وساحتها، النافورة الحجرية، بناية المستشفى. في كل ركن شبحٌ من أشباحه. والأمكنة كلها تتكلم عن هذا المجنون الذي كانت سنة واحدة من الإقامة في المدينة كافية لتعطيه ما كان يبحثُ عنه ولتقذفَ به إلى تخوم المستحيل. هي فترة الإبداع المعجز الذي ضاعف من عزلة فان غوغ وهو يبحث عن طريقته الخاصة للانتقال من الانطباعية إلى ما يعرف عنه بالوحشية والتعبيرية. في الجهة الخلفية من البلدية يوجد متحف فان غوغ بأناقته المعمارية. كتلة بيضاءُ تضاعف الشمس إشراقتها. وفي الطرف الآخر من المدينة القديمة لا تزال بنايةُ المستشفى الذي نقل إليه للعلاج عندما بتر أذنه اليمنى. وهي اليوم متحف أيضاً يحمل اسم «فضاء فان غوغ». هنا في آرل، التي لم يتحمله أهلُها بسبب طبعه الحاد وطالبوا بطرده ثم احتجز في المستشفى، أصبح فان غوغ اليوم عنوان مجد المدينة. شبح من أشباح الفتى الذي لم يكن أحد يقبل على أعماله، وظل مختبئاً في إصراره على متابعة بحثه الفني، وعلى صلة بأصدقائه، وبأخيه ثيو، بائع اللوحات. من أهم القراءات، الخاصة بالتجربة الفنية لفان غوغ، الكتاب الذي ألفه أنطونان أرتُو «فان غوغ، منتحر المجتمع». عنوان يخلص به قراءة أعمال فنان أنهى حياته منتحراً وعمره خمس وثلاثون سنة. هكذا كتب أرتو: «أظن أن غوغان كان يفكر بأن على الفنان أن يبحث عن الرمز، عن الأسطورة، أن يضخم أشياء الحياة إلى أن تبلغ حد الأسطورة»، أما ف ان غوغ «فكان يرى أنه علينا أن نعرف كيف نختزل أسطورة الأشياء العادية للحياة. لذا أظن أنه كان على حق إلى حد بعيد. لأن الواقع أكبر بشكل مرعب من كل قصة، من كل خرافة، من كل صفة إلهية، من كل ما يتعالى على الواقع. يكفي أن تكون لنا العبقرية لكي نعرف كيف نؤوله». 7. شموس الجنوب الفرنسي، التي أشرقت من شمسه الطبيعية. أشرقت برؤية جديدة للإنسان وللكون. لم يحمل هؤلاء الفنانون والأدباء صفة الحديثين لمجرد أنهم عاشوا في القرن التاسع عشر، أو أواخره بدقة أكبر. بل لأنهم أتوا برؤية وبتقنيات تختلف عن تلك التي كان يعتمدها الأكاديميون الغربيون، ابتداء من ألأكاديميين الباريسيين الذين كانوا يفرضون رؤيتهم الفنية على المجتمع والثقافة. الشاعر ملارمي، الذي كان يرى في بودلير إلهاً، وسيزان الذي ترك كلاً من الأكاديمية والانطباعية، أو بول غوغان الذي تخلى بدوره عن الأكاديمية والانطباعية، على حد سواء، كانوا يصدرون جميعهم عن تجربة شخصية، أساسها الحساسية الجديدة بالإنسان وبالعالم التي بدلت معنى التجربة ومعنى الحقيقة الفنية. شموس الجنوب الفرنسي نموذج لشموس أخرى، في البروفانس وفي مناطق أخرى. وهي تقدم إليّ معنى العمل الشعري والفني بارتباط مع التجربة الشخصية. هي تجربة كانت على الدوام تؤدي إلى العزلة والوحدة لدى هؤلاء، إن هي لم تؤد إلى الجنون والانتحار، كما هي حالة فان غوغ. موقف هؤلاء جميعاً من ثقافة زمنهم ومن الذوق العام لم يتنازلوا عنه، هو الذي وضع سمات الحداثة وأعطاها معنى في المجتمع. وحين كنتُ أقف عند باب بيت هذا أو ذاك، أقضي وقتاً في البحث عن الشارع الذي يؤدي إلى محترف أو إلى مكان العمل، كنت أحس بأن كل واحد منهم أقرب إلى نفسي مما كنت أتخيله. كنت أحس بأنفاس كل واحد منهم تتهـدّج، وبعينيه تتحركان، وبأعضائه تفتح الطريق نحو الواضح والغامض في حياته. أجلس قليلاً وأتأمل. هل هو الماضي الذي أبحث عنه أم هو المستقبل؟ سؤال يبدو لي محرجاً في بعض الأحيان، لأنني أخشى من الالتباسات السهلة في حياتنا الثقافية. ما يعنيني هو التجربة. في كل فضاء، وتحت سقف شاعر أو فنان تشكيلي أو موسيقي، مهما كان زمنه، أشعر دائماً بأنني أتحاور مع الأعماق ذاتها، مهما اقترب زمني منها أو ابتعد. أليست التجربة الفنية هي رحمُ الرؤيات التي ربطت بين نفوس وحررت أفكاراً ووسعتْ من حدود الحياة؟ أمام بيت الغريكو عند عتبة بيت الغريكو في إسبانيا شعرتُ بأنني أضع قدمي على عتبة بيت فاسي ولم يكذب حدْسي فمعمار البيت وتصميمه يشبهان معمار وتصميم البيوت الفاسية إلى حدّ لا تعود تعرف هل أنت تطأ أرض الأندلس أم أرض فاس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©