الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القداسة المفقودة

القداسة المفقودة
7 سبتمبر 2016 21:49
هل يعوّض الشعر غياب الأساطير عن حياتنا المعاصرة؟ هل يستطيع ملء الفراغ الذي تركته، بعد أن غابت في أزماننا هذه، وتقلص حجمها في الأديان؟ هذا السؤال يمكن أن نجيب عنه بعد أن نتحرى وظيفة الأسطورة ووظيفة الشعر ونقارن بينهما ونعثر على الفراغات التي تتركها الأسطورة، وفيما إذا كان الشعر قادراً على ملء هذا الفراغ. ربما نستطيع جمع وظائف الأسطورة والشعر في حقول مختلفة ليتسنى لنا معرفة الفرق بينهما، بنوع من الدقة، فقد اعتاد دارسو الأسطورة إدراج وظائف كثيرة لها، مثلما فعل ذلك النقاد ودارسو الشعر. وقد اخترنا من بين هذه الوظائف الكثيرة أربعاً لنسلط الضوء على كيفية عمل الأسطورة والشعر. تنشأ الأسطورة في وسط اجتماعي تقوم فيه بدور معين في فترات الولادة والتلقين والزواج والموت، فهي توصل هذه النشاطات الاجتماعية بالآلهة وتضفي عليها مسحة مقدسة . «فالأسطورة في أحد معانيها وبهذا التصور عنها، ليست إحدى صيغ الكلام بقدر ما هي صيغة للفعل: إنها أقل تفسيرية من حيث المفهوم بالقياس لما يرافقها من صياغة تشير بصورة مبهمة إلى نشاط معين» (رايتر 1992: 29-31). والأسطورة هنا تلتحم بالطقس ولا يكون نصها المدون إلا لحفظها من الضياع في حين أن ما تفعله الأسطورة من خلال الطقس هو أساس وجودها. أما الشعر فلم يكن أمره حاسماً إلى هذا الحد بسبب عدم وجود غطاء قدسي له، فهو أولاً لم يكن مستقلاً كالأسطورة، بل كان أداة للتعبير عن الدين والسحر والأسطورة والتاريخ والقانون وغيرها، ثم إنه ظهر في أشكال من التعبير الديني والدنيوي بحيث إن القداسة والدناسة فيه مختلطتان أو متجاورتان أو مبتعدتان، لا فرق، لأن الشعر كان يرتكز على الإنسان لا على الآلهة. لقد كان الشعر يرافق الرقص والحصاد والزرع والصيد ويشجع على عمل الإنسان ومهارته، كان الشعر يزيد من سعة الجمال الداخلي للإنسان ويدفعه إلى العمل والخصب والقوة، وكان الشعر أيضاً حاضراً في لحظات ضعف الإنسان وبكائه ومراثيه وأحزانه، كان الشعر يعبر عن الإنسان أولاً في حين كانت الأسطورة تعبر عن الآلهة. والفرق كبير. «إن اللغة الإيقاعية أو ذات الوزن الشعري كانت تصاحب دائماً، قبل اختراع الكتابة، بموسيقى بدائية من نوع ما. وبالفعل فإنه يمكن إثبات صحة الافتراض أن الموسيقى نفسها قد ولدت في وقت واحد مع الشعر البدائي وأن الإيقاع الجسدي، المعبر عنه بالإيماءات والقفزات، وبالكلمات المنطوقة عالياً والصرخات الخالية من المعنى وبالأصوات الصناعية التي تصدرها العصي والحجارة، هو الأب المشترك للرقص والشعر والموسيقى» (كوديل 1982: 18). تبع ذلك على المستوى الوظيفي الاجتماعي بعد أن وضع الشعرُ الإنسانَ في مركزه بينما وضعت الأسطورة الإله في مركزها، ولأن الإنسان خاطئ من وجهة نظر الدين سميت الأسطورة نصاً مقدساً بينما سمي الشعر نصاً مدنساً، أما من وجهة النظر الأخرى، الدنيوية، فالأسطورة والشعر نصان خاليان من المقدس والمدنس، والأسطورة تعبر عن خوف الإنسان بينما الشعر يعبر عن شجاعته. مكان في مناجم النفس سواء كان فرويد أو يونغ قد ساهما في إرساء الفهم الخاص بالوظيفة النفسية، فلا شك أن الغريزة، التي قال عنها فرويد، هي التي حولت، عن طريق الكبت، الإنسان إلى الحضارة. أما الأنماط البدائية Archtypes فقد حولت، هي الأخرى، الإنسان، عن طريق التسامي، إلى الحضارة، والغرائز والأنماط البدائية مثل ينابيع فوارة داخل بحر اللاوعي الجمعي للإنسان ولا تفصح عن نفسها إلا عن طريق الأحلام والأساطير. فالأسطورة، وفق هذا التصور، تجسيد أو تنفيس خارجي للغرائز والأنماط البدائية الغارقة في بحر الداخل البشري. وهي في الوقت نفسه، بسبب من صدقها الداخلي وأغوارها العميقة، تمثل أساس نهوض الفرد والجماعة فيما بعد. لكن كلود ليفي شتراوس هو الذي أثبت لنا، من خلال تحليله للأسطورة، أنها يمكن أن تشكل المفتاح البنيوي للعقل حيث عثر على تلك العلاقات الجبرية والهندسية المنتظمة في الأساطير البشرية مجتمعةً. إن نظرية عالمية الأسطورة واختلاف وظيفتها، التي اكتشفها شتراوس، في مجتمعات تبدو بعيدة كل البعد بعضها عن بعض هي الأكثر تأثيراً من الصيغة المجردة. ووراء هذا تكمن النظرية القائلة بأن الأسطورة تنطوي على رسالة، تبدو شفرة لا بد من فك رموزها بغية كشف المعنى الداخلي. (رايتر 1992: 39). لا شك أن للشعر وظيفة نفسية وأنه على صلة كبيرة بالتكوين النفسي للفرد لكنه لا يسلك بالضرورة المسلك ذاته الذي تسلكه الأسطورة على الصعيد النفسي فالأسطورة نضح لا واعٍ للمستوى النفسي البشري في حين أن الشعر قصد واعٍ ينهل من النفس ومن شحناتها، وربما تسربت للشعر مكبوتات غريزية وأنماط بدائية لكنه غير محكوم بها حتى النهاية، ولذلك لا يمكن أن تخضع النصوص الشعرية لتحليل بنيوي مشابه لذلك الذي أجراه شتراوس على الأسطورة ووجد فيها المفتاح البنيوي للعقل. إن الجهد الذي قدمته مود بودكين في كتابها (النماذج العليا في الشعر Archetypal Patterns in Poetry) وكشفت فيه عن الأنماط البدائية التي تحدث عنها يونغ يعطينا فكرة معقولة عن المفاتيح النفسية العميقة للشعر. فهناك، على سبيل المثال، الأنماط البدائية التي كشفتها بودكين مثل: عقدة أوديب، الولادة الجديدة، الجنة والنار، الأنيما، الشيطان والبطل وغيرها. وحقيقة الأمر أن كل هذه الأنماط البدائية التي ظهرت في الشعر ذات أصول أسطورية أيضاً، وبهذا المعنى يمكن للشعر أن يحتضن مثل هذه الأنماط ولكنه لا يستعين بها كلياً، فالوظيفة النفسية المشتركة بين الأسطورة والشعر قائمة ولكن الشعر يغطي مساحة أكبر بكثير من تلك التي تغطيها الأسطورة، كذلك يختلف موقع المكنونات النفسية في الشعر عنه في الأسطورة. وقد يعيننا أرسطو طاليس في هذا عندما يعتبر الشاعر شبيهاً بالسايكولوجي الملهم لكن أفلاطون قبله كان يرى أن الشاعر مجنون ملهم، وقد كان كتاب أرسطو (البويطيقا) أو(فن الشعر) يقول بمعنى من المعاني «رداً على الأغلوطة الشعرية التي وقع فيها أفلاطون في الجمهورية إذ قال إن الشعر (يُغذي) العواطف وإنه لذلك ضارٌ اجتماعياً، فعارضه أرسطو طاليس بنظريته السيكولوجية الرصينة في (التطهير)، أي أن الشعر يستثير عاطفتي الشفقة والخوف على نحوٍ رمزي، يمكن ضبطه، ثم يطهرهما وما (البويطيقيا) إلا نص في سايكولوجية الفن» (هايمن 1958: 259). الاستحواذ على المقدّس ينحو جوزيف كامبل منحىً آخر عندما يقول بأن (الأسطورة هي لغة الميتافيزيقا المصورة) أو ميرسيا إيلياد عندما يقول بأن (الوظيفة الرئيسة للأسطورة هي في الكشف عما هو نموذجي لكل الطقوس البشرية وكل الأنشطة البشرية)، ويدرك المرء سرّ قوة هذا الادعاء على الرغم من عدم وضوحه، فكلمة الكشف توحي بالسلطة والميتافيزيقا هي الكلمة التي يقرنها البعض بالمسائل المطلقة (رايتر 1992:40). يتبادر إلى أذهاننا فوراً أن الأسطورة هي دين البشرية لا المخيلة كما يقول وليم بليك، ويعود بنا هذا أصلاً إلى علاقة المخيلة بالشعر، وبذلك نجد متسعاً مهماً لمناقشة الدين وفق ضوابط غير دينية. فالشعر أولاً ثم المخيلة ثم الأسطورة هي حاضنات الدين الأساسية. و«على الإنسان الديني في المجتمعات الابتدائية أن يحترس من نسيان الأساطير قوام (تاريخه المقدس): إنه إذ يعيد الأساطير في الحاضر فإنه يُدني آلهته ويشارك في القداسة. ولكن ثمة أيضاً (تواريخ إلهية) مفجعة لأن الإنسان يضطلعُ بمسؤولية جسيمة حيال ذاته وحيال (الطبيعة) حين يعيدها في الحاضر على وجه دوري» (إلياد 1994:88). التنافس على هياكل الرموز ربما ذهبنا مع (كاسيرر) إلى القول إن الأسطورة بنية رمزية قائمة بذاتها وهي وسيط للتعامل بين الناس ولإقامة توازن داخلي وعلاقة بين الذات والنظام الاجتماعي. ولكننا قد نضطر إلى قبول هذا الفهم دون فحص إمكاناته الوظيفية الدقيقة، فربما ظهرت لنا الأساطير على أنها مجموعة بنى وموديلات جاهزة، لكن جعل الأساطير أشكالاً رمزية بهذا الشكل يخضعها للتداول بين أي شخصين كطرف ثالث للتفاهم والمقايضة، وبذلك تتحول الأسطورة إلى نوعٍ من النقود التي تسيرّ المصالح الجوانية والسرية للناس وتفرغ نشاطهم الروحي. هذا صحيح إلى حد بعيد عندما تكون الأساطير متداولة، أي حية، بين الناس ويعود بنا هذا إلى كونها جزءاً من دين حي لجماعة حية. أو ربما كانت الأسطورة قد تخطت الأسوار المقدسة لتنزل إلى الشارع في صورة معبودات الجماهير وفضائح الساسة ونجوم الرياضة. وفي كل الأحوال فإنها ستلعب دور العملة حيث يتم تبادلها بين الناس أولاً واعتبارها أمراً مشتركاً للتداول والحكي والتنفيس. لقد حوّلت الحداثة الشعر إلى شكل رمزي، فقبلها لم يكن الشعر رمزياً إلا بالمعنى الشرقي الساذج الذي أشار إليه هيجل في تطور الروح أو الوعي، لكن الحداثة بضربتها السحرية حولت الإبداع كله إلى شكل رمزي. فقد كانت كل التيارات التي ظهرت قبل الحداثة إما كلاسيكية النزعة وإما رومانسية النزعة، وفي الكلاسيكية كان الموضوع هو الأساس أما في الرومانسية فكانت الذات هي الأساس، لكن الحداثة أوجدت طرفاً ثالثاً في المعادلة فاعتبرت أن العمل الفني مستقل بذاته وأنه يقوم على استقلالية الرمز ليغطي الموضوع والذات معاً. فالشعر مدونات رمزية لكنها ليست أنماطاً رمزية، لأنها لا تخضع للتنميط الشكلي مثل الأسطورة فهي مفتوحة على التغيرات التي يمر بها الشاعر وأساليب الشعر والعصر وغيرها. ولذلك تفقد النصوص الشعرية قدرتها على التداول الاجتماعي بالمعنى الذي تظهر فيه الأساطير، لكن هذا لا يمنعها من أداء وظيفة اجتماعية كلية أو شاملة ولكن بمعنى آخر أو بشكل آخر يختلف تماماً عن الوظيفة الرمزية للأسطورة. وتقودنا الاستنتاجات السابقة إلى أن وظائف الأسطورة والشعر تلتقي وتفترق مثلما هو الحال في الطبيعة المختلفة لهما، فهما يتشابهان في مكان ويختلفان في آخر. وبعد... ما دام الدين، اليوم، يتحاشى أساطيره القديمة وقد تركها نهباً للأدب والفن، وما دام الشعر يمرح، بقداسة وبدون قداسة، في العالم، فيمكن للشعر أن يأخذ موقع الأساطير لكنه لن يكون وفيّاً لهذا الموقع إذ سيعبث به كعادته حين يعبث بكل شيء، وستبقى القداسة من حصة الأديان في جانبها اللاهوتي العقائدي والطقسيّ، وهو ما يساعد على تلك المهمة. يزداد دور الشعر في محاولته هذه عند من يضعف إيمانهم الميثولوجيّ وتتسع تفسيراتهم العلمية، ولا أحد يعرف كيف ستعيد الأسطورة بناء نفسها بعد أن توارت من السطح فهي تشكل نفسها في الأعماق كما تهوى وبطرق مختلفة وقد تصدم بالشعر لكنها لا تموت أبداً. ............................................ المراجع: 1- إلياد، مرسيا: المقدس والعادي، ترجمة عادل العوّا، دار صحارى للصحافة والنشر، بودابست، (1994). 2- رايتر، وليم: الأسطورة والأدب، ترجمة صبار سعدون السعدون مراجعة الدكتور سلمان داود الواسطي، سلسلة المئة كتاب الثانية، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، (1992). 3-كوديل، كريستوفر: الوهم والواقع (دراسة في منابع الشعر)، ترجمة توفيق الأسدي، دار الفارابي، بيروت، (1982). 4-هايمن، ستاني: النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، الجزء الأول، ترجمة الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد يوسف نجم دار الثقافة، بيروت، (1958).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©