السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شارلو.. بعيون الشّاعر فيليب سوبو

شارلو.. بعيون الشّاعر فيليب سوبو
7 سبتمبر 2016 21:49
كتابة: إيميليان سرميي طيلة فترة ما بين الحربين، برز فيليب سوبو كأحد المعجبين الأشدّ حماساً لشارلو، وبدلاً من أن يثير فيه ذلك الإعجاب حالة من الدّهشة الهادئة، فجّر فيه فعل الكتابة، وبنفس الحماس الذي دفعه للكتابة عن رامبو أو عن لوتريامون، أفرد هذا الشّاعر السّوريالي البارز نصوصاً عديدة وبليغة عن شارلو. ففي سنة 1919 كتب بوحي من سيرة شابلين «قصيداً سينمائيّاً» انطلاقاً من حياة كلب، ليشارك بعد ذلك في العدد- الاحتفاء بـ«القرص الأخضر» سنة 1924، قبل أن يسلّم لمجلّة «أوروبا» سنة 1928 دراسة مطوّلة عن حياة وفنّ شارلي شابلين، ولم تكن كلّ تلك المقالات والأعمال بالنّهاية، سوى توطئة للكتاب الذي سيصدره سنة 1957: «شارلو». وهو يتناول قصّة حياة شابلين، حاول فيليب سوبو سرد الحياة المتخيّلة لهذا المتشرّد الشّهير، انطلاقاً من الأفلام التي شاهدها والذّكريات التي ظلّ محتفظاً بها، كما عمل بكلّ حريّة على إعادة تشكيل العديد من المشاهد التي بقيت عالقة بذاكرته. ومنسجماً مع هوس «الرّوايات السّينمائيّة» الذي شاع ما بين 1910 و1920 من القرن الماضي، غداً شارلو في نظر سوبو، يمثّل إلى حدّ ما.. شكلاً فريداً من أشكال «الكتابة السّينوغرافيّة المستوحاة من الكتابة الرّوائيّة»، وفضلاً عن ذلك، كشف لنا عن التّأثير الاستثنائيّ، لشخصيّة غدت معروفة، أضفى عليها الشّاعر وجوداً آخر، مسترسلاً في مغامرات شارلو إلى ما هو أبعد من أفلامه، وكأنّ هذا الفنّان قد غدا لدى سوبو رمزاً مستقلاً بذاته، بل أسطورة، تتيح لأيّ كان حريّة الانفراد بالتصرّف فيها. وخلافاً للكثيرين من معاصريه، ولِمَا يكون هو ذاته قد كتبه، تحاشى سوبو الخلط بين المبدِعِ (شارلي شابلين) والمُبدَعُ (شارلو)، ففي شارلو.. الشّخصيّة وحدها هي التي كان يتمّ استدعاؤها، وإن أثار شارلو مثل ذلك القدر من الاهتمام لدى الكاتب، فذلك تحديداً، لأنّ سوبو الشّاعر كان ينظر إليه على أنّه شاعر.. بل الشّاعر، «بالمعنى الأكثر إطلاقاً وطفوليّة ونقاء». أو يكون شارلو إذن شاعراً؟ هو في نظر سوبو كذلك، ولكن ليس بالمعنى العامّ للكلمة، وإنّما بحكم طبيعة علاقته بالوجود، فحين نطالع هذه القصّة الشّعريّة، تتملّكنا الدّهشة ونحن نرى سوبو، مغالياً في تعلّقه بشارلو، يحيط قَدَرَ هذه الشّخصيّة بهالة شعريّة وامضة وغاية في الإشراق، ويجعله من النّماذج الشّعريّة الرّمزيّة الكبرى، مجسّماً وجوده بكتابة إيحائيّة وإيقاعيّة ناصعة، تتبدّى لنا من خلالها صورة الشّاعر ساطعة.. باهرة. أن نكتب شارلو كان الرّهان بالنّسبة لسوبو هو أن يتوفّق في الإفصاح أولاً عن الوجه الشّعري لهذه الشّخصيّة. ولنذكّر في هذا الخصوص بهدفه الأصليّ: حريصاً على إجلال الشّعر الرّائع المنبعث من شخصيّة شارلو، أكّد سوبو أنّ هذا الفنّان لا يحتاج إلى أن نكتب سيرته الذّاتيّة، بقدر ما نحتاج إلى أن نكتب عنه قصيداً. وتواضع شارلو كان يستلزم تبعاً لذلك هامشاً ما من التجرّد في الكتابة: قواعد مختزلة إلى أقصى حدّ، جمل قصيرة، مفردات مشذّبة وصيغة مبسّطة للمضارع: «أحد ما يطرق الباب.. لعلّ معه بعض المؤونة.. مبتهجيْن، اندفع شارلو ورفيقه نحو الباب، ثمّ ارتدّا مذعوريْن.. إنّه دبّ ولكنّ الجوع أشدّ وطأة من الخوف. لنقتل الدبّ إذن ولتكن المأدبة» وعوضاً من أن تقلّل تلك البساطة من قيمة القصّة، فإنّ السّرد فيها سيساعد على إعادة بناء الإيقاع السّريع الذي طبع حياة شارلو، وكان على علاقة وثيقة بالشّعر، إذ بإيجازها البالغ منحت الكتابة في هذا العمل الكثير من الحريّة والانسياب للفعاليّة التّصويريّة لدى القارئ. وواثق بشكل صريح من الذّكريات السّينمائيّة لهذا الأخير (القارئ) التي قد تساعد على ملء تجاويف القصّة، يكون سوبو قد لامس ما كان يتحدّث عنه: فهو لا يعيد سرد الأحداث، وإنّما يخطّط وينبُش ويومئ، وتجرّد أسلوب الكتابة سوف يضمن بالنّسبة له قراءة تضمينيّة بالغة التّلميح. ففعل التّسمية مثلاً كان يكفي، دون وصف، لتمثيل العناصر والأشياء: «حجرة باذخة في سفينة. سيجارات. شراب. الجميع يتدافع حولها. المخبرون الصّحفيّون يسألونهم عن انطباعاتهم. أثرياء متخمون بالمال. مصوّر يطرح أسئلة». بأسلوبه الإشاري والإضماريّ، وبتردّد جمله الرّمزيّة، كم يذكّرنا كتاب شارلو بجماليّة أشعار الكاتب، التي تبدو هي الأخرى مطهّرة من كلّ حذلقة، ومتنامية على شكل ترميز إيحائيّ منخطف، على غرار ما كان يميّز كتابة سندرارس أو ريفردي. ويحدث أن يهوي القصّ أحياناً بشكل واضح ليحطّ ويستلقي على القصيد: «لكأنّ المركب يرتجّ. يتهادى إلى السّمع قرع نواقيس، دويّ صفّارات، ثمّ عويل صفّارة إنذار المركب يرتجّ ها أنّنا قد مضينا أخيراً يُفتح لهم الباب بوسع المهاجرين، وللمرّة الأخيرة، مشاهدة سواحل مسقط رأسهم أوروبا تتباعد نسوة ينتحب» هنا تُجتزأ الفقرة لفائدة الشّعر، ومواطن البياض التي تهوّي في كلّ سطر، تبقي على قيد الحلم. مثبّتة في المدّ السّردي، تنبثق بصورة مؤقّتة مُضْغة ٌمن قصيد، شاهدة بشكل جليّ، على مساميّة الحدود الاستدلاليّة والعامّة، فتستبين الكتابة هكذا.. منصاعة ومرنة، وفي هذا المقتطف، يتمّ كلّ شيء، وكأنّ الشّكل يتّخذ فجأة هيئة قصيد، لينسجم مع موضوع أثير في التّقليد الشّعري (وعند سوبو أيضاً): الارتحال في البحر. إنّ ذلك الأسلوب البسيط والإيحائيّ ليبدو مندغماً في المثال الشّعريّ للكاتب. نافراً من مزايدات الطّلائع الأدبيّة، كان سوبو يؤثر دائماً شعراً سليخاً.. عارياً، بسيطاً وشفّافاً، غير منمّق، لبلوغ الانفعال الأكثر أصالة. ألم ينعت نفسه بـ«الشّاعر.. بالمعنى الأكثر نقاوة للكلمة»، شاعر يتلمّس «كلمات لا يزيّنها الرّيش، وتتأبّى على كلّ كفن، شعر متدفّق مثل نبع سلسبيل منعش، وعلى قدر من العراء.. تغدو الكلمات معه مجرّد اندفاعة ساطعة». وبهذا المعنى، تكون البساطة الانسيابيّة لـ«شارلو» قد تاخمت صفاء يعادل الصّفاء الشّعريّ، ولكنّها ساهمت خاصّة في إضفاء أجواء الشّعر في حياة الممثّل، وإنّه لمن اللاّفت أن نلاحظ كم كان أسلوب الكاتب متناغماً مع طبيعة شخصيّة شارلو، وهو الذي نعت أيضاً «بالشّاعر.. بالمعنى الأكثر نقاوة للكلمة»، فهل أنّ الوضاءة الجماليّة التي كان يحلم بها سوبو جاءت لتتساوق مع الوضاءة الوجوديّة للشّخصيّة؟ إنّ هذه الوضاءة لتماثل بداهة الصّورة التي كانت للكاتب عن شارلو، أي تلك التي كانت تحدّد بكامل الشّفافيّة ملامح الشّخصيّة: من فرط تعفّفه وإملاقه، أظهرت الكتابة وداعة الرّجل وصدقه وهدوءه وعفويّته وبراءته، وأبان الأسلوب بشكل دقيق وأنيق الطّبيعة الشّعريّة لهذه الشّخصيّة الأليفة. وليس من العبث أن نشير هنا إلى أنّ صوت السّارد بنبرته، غالباً ما كان يدنو من صوت شارلو حدّ الاشتباه والالتباس، ففي أحيان كثيرة، كان الصّوتان يندمجان في الخطاب غير المباشر والطّليق، خصوصاً عبر علامات التعجّب أو الاستفهام، التي كانت تترجَم بطراوة تكاد تكون طفوليّة: «في القرية الأولى سيعزف شارلو على الكمان ويجمع مالاً. سيهبه الأهالي نقوداً وخبزاً وبيضاً. المزارعون يحبّون الموسيقى. كم رائعة هي الحياة». إنّ لمن الصّعب حقّاً، الجزم.. لبيان منْ مِنَ السّارد أو الممثل، يتبنّى القولين الأخيرين، بالنّظر إلى شدّة اندماج صوتيهما في تعبيرة واحدة.. صريحة وعفويّة. وتسهم علامات التعجّب هنا في بلورة خُلُق خاصّ بشارلو الذي كان دوماً يتصرّف تصرّف الأطفال. ولعلّ طبيعته الشّعريّة تعود تحديداً إلى مثل ذلك التصرّف: منتبذاً اللّعبة الوضيعة للنّفاق والهرولة وراء الطّموحات الواهمة، يؤثر الممثّل الاحتفاظ بالمثاليّات البسيطة والصّادقة للطّفولة. وتقدّمه لنا بداية القصّة، وبشكل رمزيّ، في طور طفولته المبكّرة، وهو مدهوش أمام روعة وعذوبة الطّبيعة، وسوف يعرف شارلو طيلة حياته، كيف يحتفظ بتلك النّظرة المشلّحة للرّوح.. السّاذجة والمغتبطة، «لأنّه كان لا يعرف كيف يشيخ، وكان على الدّوام أشدّ حماساً وتساؤلاً وقلقاً، مثلما كان، وهو لا يزال صبيّاً، ممعناً في اكتشاف العالم والنّجوم المتلألئة في رحاب القبّة الزّرقاء»، غير أنّه تبيّن، أنّ هذا الكائن التّائه على صفحة الكون، كان على قدر كبير من الشّاعريّة: كان يمثّل منهج حياة، يسمح بالإبقاء على قدر كبير من الاندهاش في هذا العالم، والتّسامي على واقع محبط، واقع المجتمعات الوضيعة للأزمنة الحديثة. منتبذاً ذلك الواقع الخالي من الشّعر والسّعادة، سوف يؤثر شارلو الانفلات والاعتصام بالعالم الخياليّ لأحلامه – حيث يبتسم له النّاس بلطافة ودماثة – ولبناء قصص خياليّة أكثر إشراقاً ووضاءة. وفي ذلك، كم يذكّرنا بأولئك الأطفال الذين عمروا القصص الشّعريّة لبداية القرن العشرين، قصص فاليري لاربو «طفوليّات» وجول سوبرفيال «طفل أعالي البحار» وجان كوكتو «الأطفال الأشقياء».. الذين عملوا هم أيضاً على استبدال عالم الواقع المنفّر بعوالم فاتنة وعجائبيّة. هكذا.. يتبيّن أنّ الكاتب وممثّله، هما الاثنان «شعراء.. بالمعنى الأكثر نقاوة للكلمة»، لأنّهما الاثنان – أحدهما بالكتابة والثّاني من حيث طبيعة علاقته بالعالم – يحتفظان بسلوك طبيعيّ وعفويّ يكاد يكون طفوليّاً. ومع ذلك، فإنّ شارلو، ولئن تبدّى شاعريّ الهوى في القصّة، فإنّ ذلك لا يعود إلى نظرته الطّفوليّة فحسب، أو إلى لجوء سوبو إلى الكتابة الإيحائيّة، وإنّما أيضاً بالنّظر إلى أنّ مسيرته التي كانت تُشاكل على نحو متقطّع، مسيرة بعض الشّعراء الرّموز. سيماء شاعر ومسيرته بداية من الفصل الأوّل، ترفع القصّة شخصيّة شارلو وتبوّؤه سدّة الشّعراء. وفيما كانت مدن كثيرة «تلتمس شرف أن يكون شارلو من مواليدها – كما كان الأمر مع هوميروس – فإنّ ميلاد هذه الشّخصيّة كان محلّ فرضيّة أكثر رمزيّة من قبل السّارد: «لعلّه في مساء ما، وعند هبوط اللّيل، كان هذا الشّاعر قد نزل غلى ظهر غيمة.. من النّجوم البارقة في أعالي السّماء..»، مستهَلّة خارج أيّ إطار واقعيّ، كانت طفولة شارلو في كتاب سوبو ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطّبيعة، والفصل الأوّل يقدّم لنا شخصيّة مندهشة، ممعنة في استكشاف الأشجار والأزهار والأطيار والماء، أيّ كلّ العناصر الكونيّة، وكلّ الكائنات النّباتيّة والحيوانيّة. قريباً من «الأنا» الشّعريّة في «فجر» رامبو، التي توقظ الطّبيعة عند مرورها، كان شارلو الشابّ، وهو يمرح في فردوس الطّفولة، يعبُر محيطاً بشريّاً يلتفت نحوه ببالغ الودّ والحنوّ: فالقمر «يرسل إليه أجمل وأخلص شعاع من نوره»، والنّجوم تغمزه، والجدول الرقراق يسديه النّصيحة..»، مصغياً لشدو الطّبيعة المحتفية به، غدا شارلو قادراً على سماع وفهم لغة الكون. وفضلاً عن ذلك، احتفظ طيلة حياته بتلك الملكة وبتلك القدرة السّاحرة، التي تجعل الطّبيعة تهتزّ طرباً وسعادة كلّما استشعرت خطواته. «كلّ أفراح العالم، الواحدة تلو الأخرى، تغدو معه على قيد اليقظة، فثمّة فرح الصّبح وفرح الغروب، وثمّة فرح النّجوم والخيل، فرح البالونات الحمراء والآلات البخاريّة (...)، الثّلج يتلألأ والبحر يلتمع، وينحني خيط من نور الشّمس على شجرة ويصدح بملء حنجرته..». بحضوره شبه السّاحر ذاك، يغدو شارلو تجسيداً حديثاً لأورفيو. أليست للابتسامة العطوف لشارلو مزايا نشيد الشّاعر العتيق؟ مشرقاً.. إنّه يفتن الطّبيعة، وبأنفاسه النديّة يبثّ فيها الحياة. وصورة أورفيو التي استهوت عديد الشّعراء في بداية القرن العشرين، قد تجعلنا نستذكر بعض الوجوه الشّعريّة من نفس الفترة، وخاصّة «كرونيامنتال»، أو «الشّاعر القتيل» لأبّولينير (1916) المستوحاة من سيرة الشّاعر الأسطوريّ، ودراسة مقارِنة قد تكشف لنا عن أوجه شبه كثيرة بين هذه الشّخصيّات. مولود في مكان لا أحد يعرفه، كان «كرونيامنتال» يتحاور هو الآخر مع الغابات وينابيع الماء بعد أن يكون القمر وتكون التّلال قد منحته ضرعها المنعش»، فعلى غرار أورفيو، يعيش شارلو وكرونيامنتال في ائتلاف مع الطّبيعة التي يبثّون فيها الحياة، والتي في أحضانها يعيشون التجربة المولّدة للذّهول والاندهاش. و لكن.. وعلى غرار كرانيومنتال، كانت لحياة شارلو خلفيّة أكثر قتامة: فمن الوهلة الأولى تقدَّم لنا القصّة هذه الشّخصيّة على أنّها شخصيّة مقصيّ، ولد على هامش المجتمع، وطرد بسرعة من المدرسة، وبالتّالي «لم يكن ليعرف البشر». وعلى الرّغم من أنّه كان عطوفاً وخيريّاً، فلسوف يواجه مبكّراً عداوة وشراسة هؤلاء البشر، لتكون علاقته بالآخرين رغماً عنه، شِقاقيّة ومُختلّة. مضايَق من الجندرمة، مستهزأ به من قبل الجميع، يتحمّل شارلو، كما أورفيو وكرونيامنتال، عبء قدر مفزع ورهيب، وشراسة مجتمع يعادي الشّعراء ولا يقيم لهم وزناً. ألا يوضّح سوبو في الفصل الأخير أنّ شارلو، وإن كان مهدّداً بتخلّص الآخرين منه، فإنّه لم يكن ليتردّد في بذل سعادته بسخاء من أجل هؤلاء.. كي ما يمنحهم الابتسامة، ثمّ كان عليه دوماً أن يغادر، أن يزداد وجعاً، أن يسقط، أن يُضرب ويكون ملاحقاً، حتّى يشعر الجميع بالسّعادة. مثْل المضحي، يكون شارلو قد سفح حياته بكلّ سماحة وندى من أجل فرحة الآخرين وهناءتهم، ورضي أن يكون محلّ سخرية، لتعمر وجوههم ضحكة بريئة، في عالم غدا قلقاً.. متوتّراً وموهوباً للحقد النّازي. وستنتهي قصّة سوبو بنبرة حذرة تحيل على سيرة القدّيسين – كما هو الشّأن بالنّسبة «للشّاعر القتيل» لأبّولينير، والحال أنّ سماحة القدّيسين كانت غالباً ما تشبّه بسماحة الشّعراء. وكرجع صدى لما جاء في المقدّمة من أنّ شارلو ينزل على ظهر غيمة، فإنّ الخاتمة سوف تجعله خالداً ومباركاً، وفي ذاكرة الأجيال القادمة سيظلّ هذا الفنّان لا محالة «الرّجل الذي أضحك العالم بأسره». مؤثراً العيش على الهامش، ومتنافراً مع الآخرين، سيجد شارلو نفسه موهوباً لوجود دائم الانحراف مع دنيا البشر، ومردّ الشّعر الفاجع لوجوده أساساً، إلى «اختلافه» الثّابت عن الآخرين، وإلى صعوبة اندماجه مع من حوله من النّاس، وبالتّالي إلى وضع شبيه بوضع الشّاعر الملعون. ذلك أنّ الرّجل، وإن كان يحاول الاندماج بكلّ ما أوتي من جهد، فإنّه كان منذوراً لا محالة للعزلة، في مجتمع كان لا ينفكّ يتعفّف منه، يرفضه ويردّه بجفاء. وحتّى الضّحك الذي كان يثير.. كان لا يكفي: فعوض أن يجذب إليه تعاطف الآخرين، كان هؤلاء، وفي كلّ مرّة، يتألّبون ضدّه، كي يجعلوه ضئيلاً، بائساً وحزيناً. لذلك.. وهو يبحث عن هويّة اجتماعيّة ما، كان شارلو لا ينفك يتنكّر ويراكم الوجوه، ويتعاطى كلّ أنواع الحرف: كأن يكون متعهّد نقل، قيّماً على اللّواحق في المسرح، عاملاً مكلّفاً بتركيب آلات المسرح وتفكيكها، حلوانياً، خادماً بالنّزل، لصّاً، ملاكماً، بحّاراً، سبّاكاً، موظّفاً بنكيّاً، مهاجراً.... وهذا التّعدد السّريع، الذي يقحم الشّخصيّة في الصّخب المربك لبداية القرن العشرين، يُلمح إلى استحالة انخراطه في الأطر الاجتماعيّة المبلبلة، بل أكثر من ذلك.. استحالة استقراره. ذلك أنّ حياة شارلو كانت تتمدّد وفق النّسق المتحرّك لحياة التّيه والعزلة الأبديّة. مستعيداً التصرّف في شارلو المتشرّد، يحيل سوبو شخصيّته على بعض النّماذج الرّمزيّة للشّعر، وإن كانت مفردة «المتشرّد» تكتسي معنى متغيّراً تبعاً للوضعيّة التي كان يوجد فيها الرّجل. وأحياناً ما كان ينظر لهذا التشرّد على أنّه ظاهرة إيجابيّة، متى كان مرادفاً لنزوع الإنسان الفطريّ إلى الحريّة والانعتاق: «يتسكّع شارلو مغتبطاً عبر الطّرقات، فينتابه إلى حدّ ما إحساس بالوحدة، ولكن أيضاً إحساس بالانعتاق»، لذلك كان «يعشق التّيه سعياً وراء الصّدفة». إنّ هذا التسكّع الأفعوانيّ ليذكّرنا بالتّبختر والتّطواف المغامر، الذي احتفى به الشّعراء السّورياليّون، في أعمال مثل «السّاردون- العابرون لليالي باريس الأخيرة» لسوبو، أو «مزارع باريس» لأراغون. ويمضي شارلو متسكّعاً، مطلقاً العنان لأحلامه، متشوّفاً المجهول، مدهوشاً أمام الأسرار اللّيليّة للمدن، يمضي وهو «صديق اللّيل» على غرار جورجيا التي كانت «لا تعشق غير اللّيل»، «لغزو ذلك الكوكب، ذلك الكون المجهول، أو المدينة الجديدة». غير أنّ التشرّد ليس دوماً بالأمر الذي يجلب السعادة ولا سكينة الرّوح: إنّه يكاد يتحوّل دائماً، وبشكل محزن، إلى ضرب من الهروب. إنّ المشي قد يبدأ بنزهة مرحة في الفصل الأوّل من الكتاب، ولكنّه غالباً ما يتحوّل إلى تيه مرير. «إنّه يمشي. إنّه يعيش. إنّه يضحك»: ولكنّ ذلك قد يصلح لفترة، سرعان ما يميل فيها المثال بعد ذلك إلى الذّبول والاضمحلال: «إنّه يهرب. إنّه يتيه، إنّه يعيش» فيكون تشرّد شارلو حينئذ هروباً وانكساراً. محتقراً من النّاس، وتائقاً بجموح إلى الحريّة، سيظلّ شارلو على الدّوام عند نقطة البداية. متملّصاً ممّا يحبّ وممّا لا يحبّ، كان دوماً ذلك «العابر» الذي يهرول نحو المجهول، المندفع نحو الآفاق القصيّة للحريّة، ولا قبل له بالتوقّف. دائم التأهّب للمغادرة، كانت تنتابه في كلّ لحظة الرّغبة في رحيل مُطهّر، خاصّة في بداية القصّة. وتقرّبُهُ تلك السّمة كثيراً من بعض شعراء العصر الحديث، وفي طليعتهم فيليب سوبو، الذي كان هو الآخر دائم الترحّل، حريصاً على تجنّب السّكون والارتباط. وكانت تلك السّمة تقرّبه أيضاً من شعراء آخرين أثيرين لدى سوبو: رامبو.. ذلك الشّاعر الذي أطلق نعاله للرّيح، وخاصّة بليز سندرارس، الذي نتذكّر جيّداً نصيحته «متى أحببت، فتلك علامة على رحيل وشيك». وحيداً في عزلته من المؤسف ألا يكون شارلو قد تعرف إلى التّجربة المثيرة لرامبو أو سندراس. ففيما توفّق هذان الشّاعران بحماس بالغ في تجديد حياتهما، كان مآل شارلو.. الفشل، فلا هو يقوى على القطع نهائياً مع وضعيّته، ولا قدرة تسعفه للتحرّر ممّا بات يكبّله، كما لا أمل يرتجى من السّفر بعيداً، كيما تتغيّر هويّته. عبثاً سافر إلى نيويورك، فهناك، ألفى نفسه وجهاً لوجه مع عزلته، ومع سوء حظّ زاد في محنته، وقد باتت خريطة وجوده تتمدّد متماثلة، فلا يرى نهاية لعذاباته، غير الدّوران حول نفسه، مكبّل بقيود قدره، ينتابه الخوف من أن يصبح عاجزاً على تغيير ما به، وأن يمضي وحيداً على تلك الدّرب الرّتيبة.. المحزنة.. لحيرته وتيهه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©