السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دخان بلا نار ·· عندما يحكم القمع ويستباح الإنسان

دخان بلا نار ·· عندما يحكم القمع ويستباح الإنسان
17 أكتوبر 2008 23:25
سمير حبشي اسم يعرفه جيداً جمهور التلفزيون وعشاق الدراما التي قدم فيها عدة أعمال منها: لمحة حب ، بنت الحي من أحلى بيوت راس بيروت ، السجينة ، الليلة الأخيرة ، لكن خلف هذا الوجه، وجه آخر لسمير حبشي، يعرفه عشاق السينما هو وجه المبدع السينمائي، وإن كان آخر لقاء لهم به يعود إلى العام ،1992 عندما قدم فيلم الإعصار الذي لاقى وقتها نجاحاً لدى الجمهور وحظوة لدى النقاد· وقبل ذلك، يذكر الذين عايشوا سينما الثمانينات من القرن الماضي، فيلم شظايا الذي أنجزه حبشي عام ،1985 ثم فيلمه الذي اقتبسه عن رواية الصبي الأعرج لتوفيق يوسف عوّاد عام ،1986 ثم فيلم خيالات الصحراء ،1988 قبل أن يتجه إلى التلفزيون ليمارس اللعب الجميل عبر دراما تجنح إلى السينما وتتأسلب بتقنياتها· اليوم، يعود حبشي إلى بيته الأول، ليمارس عبر صورة سينمائية مشغولة بعناية عشقه القديم، معالجاً في فيلمه الجديد ''دخان بلا نار'' أو ''بيروت مدينة مفتوحة''، واحدة من أخطر القضايا المجتمعية التي يعانيها المواطن اللبناني بشكل خاص، والعربي بشكل عام· تدور أحداث الفيلم الذي عرض في قصر الإمارات ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الشرق الأوسط السينمائي الذي يقام في أبوظبي، حول كاتب سيناريو شاب يدعى خالد الحداد (خالد النبوي)، يسعى لكتابة عمل جديد عن ما يتعرض له الإنسان من القمع، ويشاركه في العمل رودني حداد، دايامان بو عبود، سيرين عبدالنور، رفعت طربيه، ختام اللحام، محمود مبسوط (فهمان)، نقولا دانيال وعلي مطر· ويتأسس الفيلم الذي أنتجه غابي خوري وشركة ''مصر العالمية'' بالاشتراك مع شبكة ''آي آر تي''، على نظرة تساؤلية تحاكم الكثير من ''المألوفيات الفكرية'' - إن جازت العبارة - لتضعها أمام النقد والتشريح· والتشكيك في ما هو يقيني أو سائد على مستوى التفكير والممارسة· يحدث هذا بدءاً من العنوان نفسه ومروراً بالمقولات و''الكليشيهات'' النمطية التي تحكم علاقتنا بالآخر وبأوطاننا أيضاً· دلالات جارحة من العنوان تبدأ الدلالات الجارحة لهذا الفيلم، فعنوان ''بيروت مدينة مفتوحة'' يفتح العقل على حقيقة أكثر إيلاماً، فبيروت ليست مفتوحة على الحياة أو الحضارات أو الجمال أو الحرية هذه المرة، بل لكل من هبَّ ودبَّ ليمارس عليها سلطته· والانفتاح هنا لا يعني سوى الاستباحة، فهذه المدينة مستباحة من أكثر من طرف يصفي كل منهم حساباته على أرضها، وعلى حسابها وحساب أبنائها الذين اضطروا إلى مغادرتها للنجاة بإنسانيتهم وأرواحهم· أما عنوان ''دخان بلا نار''، فيحيل إلى معنى مغاير لما اعتاد الناس عليه، ففي الموروث الذاكروي والمأثور الشعبي لدى العقل الجمعي في المجتمعات العربية أن ''الدخان لا يمكن أن يوجد من دون نار'' لكن عند حبشي يمكن أن يكون الدخان من دون نار، ويمكن أن تتحول الافتراءات إلى حقائق وتنلقب الأكاذيب إلى أفكار شائعة لا يجهد أحد نفسه في السؤال عن صوابيتها· وفي واقع كهذا، يصبح مجرد شاب يكتب سيناريو لفيلمه ''إرهابياً''، ويحاكم ويسجن وتنتهك إنسانيته تحت التعذيب· ورغم أن المثل يستخدم عادة للتدليل على الممارسة الاجتماعية إلا أنه عند حبشي ينسحب على الممارسة السياسية مشككاً في تجلياتها المختلفة· قوس من الأسئلة في فيلمه هذا، يفتح حبشي قوساً واسعاً من الأسئلة التي تخلخل السائد، فمقولة ''لبنان سويسرا العرب'' التي تؤشر على الحرية الفكرية والثقافية التي يتمتع بها لبنان، تسقط تماماً في الفيلم، حيث ''واحة الديمقراطية'' لا تتسع لتصوير فيلم عن القمع، ولا تحتمل مجرد كاميرا متنقلة ترصد انتهاكات حقوق الإنسان، ويعتقل البطل خالد الحداد (خالد النبوي) وتمارس ضده أبشع أنواع التعذيب، وهو الذي جاء من ''مصر'' إلى ''لبنان'' وفي ظنِّه أنه سيجد من حرية التعبير ما يمكنه من إنجاز فيلمه الذي يعالج مسألة القمع بلا ''قمع''، ليجد القمع في انتظاره، وينتهي به الأمر معتقلاً بتهمة ''الإرهاب''· بالطبع، لبنان ليس سوى نموذج للعالم العربي، كما جاء في حوار جرى بين خالد الحداد وحميد (رودني حداد)، لكن الكاتب وهو نفسه المخرج، صادَرَ، ربما من دون أن ينتبه، جمالية مثل هذا التعميم وما يحمله من غنى مضموني وفني، عندما قام منذ البداية بتأطير الفكرة وحصرها في زمان محدد وضيق هو ''منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989 وحتى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري''، أي ''أثناء السيطرة السورية على لبنان''، مما أخرج الفكرة من عموميتها وحصرها في هذا الحيز الضيق، ووجه انتباه المشاهد بالتالي إلى إسقاطات سياسية بعينها، لم تخدم فكرة الفيلم التي كان يمكن أن تكون أكثر ثراء لو عولجت في إطارها الإنساني الشامل، بعيداً عن الأيديولوجيا وحمولاتها التي غالباً ما تقود إلى المباشرة والشعاراتية في العمل الفني· ولعل المشهد الأخير (الذي ظهر فيه خالد النبوي تماماً كما ظهر صدام حسين بعد عثور الأميركيين عليه) أكبر دليل على ذلك· فهذا المشهد بدا مقحماً تماماً في العمل، بعيداً عن السياق الذي كانت الأحداث تجري فيه، وكان من الممكن أن تكون النهاية أكثر عمقاً وتأثيراً وإيحاء ودلالة لو أن المخرج أنهى فيلمه بمشهد (رنا) وهي ترمي الكاميرا، بعد أن أكملت تصوير غرفته التي قلبها رجال الأمن رأساً على عقب، وتناثرت منها أوراق السيناريو الذي لم يكتمل· ولهذا السبب، ذهبت معظم الأسئلة في المؤتمر الصحفي الذي أعقب العرض، إلى المنحى السياسي وما يحمله من مرموزات، وأهملت الجماليات الفنية التي تميز بها الفيلم لجهة التصوير وتقنية الإخراج نفسه، مما أضرَّ بهذا الفيلم المتميز فنياً· سحر الحياة إلى جانب هذا العنوان الرئيس، يحمل الفيلم الكثير من العناوين الجانبية الجميلة التي تنتصر بحق للبنان، والحياة، أهمها تصوير سحر الحياة عبر لحظات الحب والولادة والموت، ثلاث لحظات ترصد إيقاع الحياة اليومية العادية للناس البسطاء المجروحين في إنسانيتهم وفي وطنهم أيضاً· وتظهر في بلاغة فنية بشاعة العنف، والاستهتار بالإنسان وبقيمة الحياة نفسها، ما يدفع الناس إلى ''الكفر'' بالسياسة ورموزها وحتى برموز الدولة التي ''ترمى بالبيض والبندورة ويبول عليها الصغير والكبير''· هنا، تبدو الكاميرا في غاية الذكاء وهي تتحرر من السياسي لتلتقط العادي واليومي، وتذهب إلى الجمالي فتفاجئ المشاهِد بكسرها لنمطية التفكير التراتبي، فعندما يذهب خياله إلى أن ما يسمعه من أنين هو أنين ''المتعة الجسدية'' يكتشف بل يُصدَم بأنه أنين ''لحظة الولادة'' التي تأتي في لحظة ''أنين الموت'' نفسها على الجسد المسجى لشاب ''قتلته رصاصة أميركية بطريق الخطأ'' أثناء مرور موكب للسفارة· وتتعدد مثل هذه ''الصدمات الجمالية'' في الفيلم، نلمحها في مشهد الكاميرا وهي تهوي في الفضاء بعد أن توقعنا من (رنا) أن تكمل ما بدأ به (خالد الحداد)، لكنها تخالف توقعاتنا بسلوكها الذي يحمل تفسيرات شتى وتأويلات تتعدد تبعاً لرؤية كل شخص وثقافته، وهذه النوعية من اللقطات من أجمل مشاهد الفيلم التي دللت على مهارة المخرج في التعامل مع أدواته الفنية، وحركة الكاميرا وهي تتتابع في مشهدية جميلة· أما الأسلوب الإخراجي الذي اعتمده حبشي، فيستحق وقفة متأنية، حيث الأحداث تجري في مستويين متوازيين؛ الأول هو الفيلم الذي يعرض ويشاهده الحضور على الشاشة، والثاني هو المشاهد نفسها التي يتخيلها خالد النبوي وهو يكتبها على الورق ويشاهدها تجري أمامه على التلفزيون، وهو أسلوب مركب - بدا للبعض أنه مرتبك وأن ارتباكه نابع من ارتباك الأحداث اللبنانية نفسها على أرض الواقع، مما زاد الأمر غموضاً وتعقيداً- لكنه يبدو لي محاولة للقول إن ما يعرض ليس خيالاً بل واقع يشبه الخيال، أو أن الحدود والفواصل بين الواقع والخيال تهاوت، وهذا أمر وارد تماماً في تناقضات الحياة اللبنانية وما شهدته من أحداث غرائبية والتباسات عجائبية· أخيراً، يمكن القول إن الفيلم شهادة أو وثيقة للتاريخ - على حد قول المخرج - أراد من خلالها أن ''يقدم صورة أخرى للبنان غير تلك التي يعرفها العرب عنه، فالفيلم يجب أن يكون شاهداً على زمنه منعاً لتزوير التاريخ''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©