الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المجرم سقط بكلمة

المجرم سقط بكلمة
15 مايو 2014 21:47
خرج الطفل ابن السابعة إلى الشارع مهرولاً مذعوراً، يصرخ بأعلى صوته، يبدو عليه الرعب والفزع، صرخاته متواصلة لا تنقطع ولا تتوقف، دموعه تسيل غزيرة حارة على خديه، لا يستطيع تمالك أعصابه وهو يرتجف، غير قادر على التركيز، لا يجيب عن أي سؤال يوجهه إليه الرجل الذي استوقفه ليعلم ما به، لكن الصغير لا يمنحه الفرصة فلا يتكلم ولا يرد جواباً ولا يقدم معلومة، لكن لا يخفى أنه في حالة صعبة وغريبة، فشلت معه كل وسائل التهدئة والترغيب، ورفض السكوت ومحاولات الإغراء بالحلوى والشيكولاته، فلم يجد الرجل مفراً من تسليمه لقسم الشرطة القريب لكي يروا شأنهم معه. مفاجأة مذهلة في القسم لم تتغير حاله، وظل على نفس الوتيرة خائفاً مذعوراً، وأيضاً رفض تناول كوب الليمون الذي جاءه به الضابط في محاولة لتهدئته، والغريب أنه لم ينطق بكلمة مفهومة، لدرجة أن أغلب الظن أنه معاق ذهنياً أو مريض نفسياً، وربما أصيب بنوبة قد يهدأ منها بعد قليل وقد تستدعي نقله إلى المستشفى، وبعد علاجه وتهدئته يكون من السهل معرفة كافة التفاصيل خاصة وأنه صبي مدرك ويمكن أن يعرف أهله ومكان إقامته، وعندما سمع ذلك وقد أعياه النحيب أشار بسبابته للضابط بالنفي، كأنه يريد أن يقول بلسان حاله إنه ليس مريضاً وقد يستطيع الكلام، وهذا بالفعل ما حدث. ولم يكن ما جاء أفضل مما مضى، فبعد أن استطاع الصغير أن يشعر بالأمان، واستجمع بعض قواه، كانت المفاجأة المذهلة التي يصعب تصديقها، لقد نجا من الموت ذبحاً بعد مقتل أبيه وأمه قبل قليل، المؤكد أن الولد لا يهذي الآن ولا يختلق الواقعة فهو في تمام وكامل قواه العقلية، الحقيقة والواقع يفوقان الخيال، فهذه أكثر بشاعة من الجرائم التي يكتبها المؤلفون في القصص والدراما، قال: بينما أنا وأمي في المنزل، سمعنا جرس الباب، هرولت لأفتح ظناً أن القادم هو أبي فهذا موعد قدومه من عمله، الساعة تقترب من الثامنة مساء، لكن فوجئت بشخصين غريبين معهما أسلحة وسكاكين، دفعني أحدهما إلى الداخل ثم حملني وكمم فمي، بينما كان الثاني يشهر سلاحه، في وجه أمي التي جاءت تستفسر من الذي طرق الباب. وقت غير مناسب اقتادني الأول إلى غرفة داخلية وقام بتوثيقي بالحبال ثم تركني وأنا أصرخ وأستغيث، وقام الشخصان بإجبار أمي على التوجه إلى غرفة النوم وهما يهددانها بالقتل إذا لم تدلهما عن المبالغ المالية الكبيرة التي يحتفظ بها أبي في البيت، فأخبرتهما انه لا يوجد في البيت سوى المصروف اليومي وها هو أمامهم فوق المنضدة يمكنهما أن يحصلا عليه، فلم يصدقاها وقام أحدهما بضربها ضربة موجعة استشعرتها من خلال صرختها، ومازالا يكرران مطلبهما وقد أقسمت لهما بغليظ الإيمان أنها لا تملك أي أموال، وأن زوجها أي أبي لا يحتفظ بأي أموال في البيت، وكذلك لم يصدقا، حتى جاء الإنقاذ عندما دق جرس الباب، وأنني متأكد أن هذا أبي، فقام أحد اللصين بفتح الباب، لكن لم يدر بينهما وبين أبي أي حوار، أجبراه على الدخول، ووجها إليه نفس الأسئلة التي قاما بتوجيهها إلى أمي، وكان جوابه مثل ما قالت، تأكداً أنهما لن يحصلا على شيء، وبعدها سمعت صوت طلقات رصاص، وهرول المتهمان إلى الخارج، ويبدو أنهما نسياني في الغرفة الداخلية وإلا لكان مصيري مثل أبي وأمي. تأكدت أن أبي وأمي قد قتلا لأنهما لا يجيبان على نداءاتي المتواصلة، وأنا أحاول أن أطمئن عليهما من ناحية ومن ناحية أخرى أستغيث بهما، وأخيراً وبعد جهد وبصعوبة تمكنت من فك وثاقي وهرولت نحو الغرفة لتقع عيناي على أبشع مشهد في حياتي، أبي وأمي قتيلان غارقان في الدماء، فعقد الموقف لساني. الشاهد الوحيد تملكني الرعب وخرجت إلى الشارع أهرول مثل المجنون لا أعرف أين أذهب ولا ماذا أفعل ولا ماذا أقول، حتى جيء بي إلى هنا، استدعى الضابط رجاله بسرعة وأصدر إليهم أوامره بأن يخرجوا معه، وخلال دقائق معدودة كانوا في مسرح الجريمة، تبين أن كل ما قاله الصغير من وصف للمكان والجريمة صحيح وسليم مائة بالمائة، الزوج والزوجة جثتان هامدتان في غرفتهما في بركة من الدماء، والحبل الذي أوثق به القاتلان الصغير مازال موجوداً في الصالة بعد أن تخلص من وثاقه. تم تحرير محضر بالجريمة وبدأ التحقيق للوصول إلى شخصيتي القاتلين، حيث أكد الصغير الشاهد الوحيد أنه لا يعرفهما ولم تسبق له رؤيتهما من قبل، فطلب منه أن يدلي بأوصافهما، لكن مع حداثة سنه ومع هول الموقف لم يركز في هذه التفاصيل، وكل ما قاله عنهما ينطبق على مئات بل آلاف الأشخاص، وتنطبق على الشخصين في نفس الوقت، فكل منهما ليس طويلا ولا قصيراً ولا أبيض ولا أسمر ولا نحيفاً ولا بديناً، المحصلة لم يدل بأي سمة أو علامة يمكن أن تؤدي إلى الوصول للمتهمين، وحتى عندما تمت الاستعانة برسام متخصص لرسم صورة تقريبية للجناه، لم يتم التوصل إلى شيء لأن الصغير لم يضف جديداً، وفشلت مهمة هذا الرجل المتخصص، وكلما رسم خطوطا مزق الأوراق لأنها بلا معنى ولا فائدة منها. لحظة غدر المعلومات أكدت أن القتيل يعمل في مجال المقاولات وهو ثري ليس له إلا هذا الولد الصغير وزوجته القتيلة ربة منزل، والزوج مثال لحسن الخلق والتعاون ومساعدة الفقراء، يشهد له جميع الجيران والأهل والعاملين معه، يعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ويتسامح في حقوقه ولا يضيق على أي منهم، بل كثيراً ما يلجأون إليه وقت الضيق ويستدينون منه فيقدم لهم القروض الحسنة والمساعدات، وكلهم بكوه بحرقة ولم يصدقوا أن تكون هذه نهايته، وهو الذي لم يؤذ أحداً في يوم من الأيام وأياديه بيضاء على كل من حوله، لكن الواضح أن الجريمة وقعت بسبب السرقة ودافعها هو المال. الجنازة كانت حارة والدموع فيها حاضرة غزيرة صادقة، الألسنة تدعو لهما بالرحمة وفي نفس الوقت تدعو بالويل والثبور وتطلب القصاص ممن فعلها، والمؤكد انه لو وقع في أيديهم في هذه اللحظات الغاضبة لأكلوه بأسنانهم بلا هوادة، خاصة وأن الصغير الذي أصبح يتيم الأبوين في لحظة غدر يسير بينهم ولم تجف دموعه ولم تتوقف صرخاته منذ تعرض معهما للموت ونجا بقدر الله، وكل ما تم التوصل إليه، أن القتيل توجه بالأمس إلى البنك وقام بصرف شيك بمبلغ كبير، ولكن لم يعد به إلى البيت ولا أحد يعرف أين أنفقه أو أين يحتفظ بالمال، وهو لم يعتد الاحتفاظ بمبالغ كبيرة في بيته. القضية في طريقها لأن تقيد ضد مجهول، فلم يتم العثور على أي دليل ضد أي شخص يمكن أن تحوم حوله الشبهات، وفي جريمة كهذه لا تصلح الشبهات لتوجيه الاتهام بل لابد من الأدلة والقرائن، لكن رجال الشرطة لا يقبلون أن يكون قرار الحفظ والقيد ضد مجهول هو نهاية عملهم، ورغم أن لديهم بعض المعلومات لكن لم يستندوا إليها لافتقارها إلى الدليل العملي، لأنها بلا إثبات تفقد قيمتها ولا تأخذ بها النيابة ولا المحكمة وتصبح مجرد تضييع للوقت، فيعيدون البحث بطرق أخرى وبوسائل مختلفة، ووضع افتراضات قد تؤدي في النهاية إلى نتائج مؤكدة. تفاصيل الحدث اصطحب الضابط الطفل مرة أخرى إلى الشقة مسرح الجريمة وقد انهار فور دخوله بعد أن تذكر ما جرى قبل أيام، لكن كان أمر تهدئته أيسر من ذي قبل، طلب منه الضابط أن يشرح له أولا ما حدث بالتفصيل الممل منذ اللحظة التي دق فيها جرس الباب، وعندما وصل به إلى أن قام القاتلان بتوثيقه وتركاه في غرفته، طلب منه أن يغمض عينيه، ويحاول أن يتذكر كل كلمة سمعها، وعليه أن يركز تفكيره ويحاول أن يستعيد الحدث كما وقع، وهو يشجعه على أن ذلك هو السبيل الوحيد للقبض على القاتل وإعدامه، وكرر الشاهد الصغير ما حدث، لكنه وسط الاسترسال في الكلام توقف برهة، فتح فمه ووضع سبابته على شفته السفلى كأنه يتذكر شيئاً مهماً، وهو بالفعل مهم، فقد سمع أباه في آخر لحظة يقول للقاتل لا يا «شريف» وكررها مرتين، وكان هذا هو الدليل. بدأ البحث عن شريف الذي تبين أنه محاسب يعمل في الشركة التي يعمل بها المقاول، وبمجرد أن توجه الضابط إليه في عمله ظهر عليه الارتباك، وقبل أن يسأله أو يوجه له اتهاماً بدأ بالنفي بأنه ليس له ذنب ولم يفعل شيئاً، وردد ذلك بما يؤكد أنه وراء الجريمة البشعة وبعدها بدقائق انهار واعترف بكافة التفاصيل، بعد أن ظن أنه ارتكب الجريمة الكاملة ولم يترك وراءه دليلا يدينه، وأنه علم بالمبلغ الذي سحبه المقاول من البنك، فهو الذي سلمه الشيك بحكم عمله، ولأنه يمر بضائقة مالية ويريد أن يتزوج، ارتكب الجريمة هو وصديقه بعد أن وعده بنصيب وافر من المبلغ، وألقي القبض على المجرم الثاني وأمرت النيابة بحبسهما وطالبت بمعاقبتهما بالإعدام. أحمد محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©