الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبيض وأسود

أبيض وأسود
6 مايو 2011 20:59
لا شك في أن هناك مزايا عديدة للأفلام القديمة الأبيض والأسود التي نراها على الفضائيات. ثمة سحر خاص لا يمكن وصفه، ولعله كما قيل عبق البراءة الشديد، ولعله جو البكارة العام، ولعله الإتقان الواضح الذي كانت تصنع به هذه الأفلام. كان الناس يمرون بالتجارب على الشاشة لأول مرة فينفعلون ويبكون. مثلاً كان الناس يرتجفون لمصير طفل صغير ضل طريقه والتقطته عصابة من أولاد الشوارع، كما كانوا يتوترون وهم يرون محاولات الزوجة المخلصة كي تخرس الوغد الذي يريد أن يوقع بينها وبين زوجها. كانت المشاكل جديدة على الناس وكانوا ينفعلون بشدة. أما اليوم فالمتفرج أشبه بصاحب السوابق الذي رأى كل شيء ولم يعد يدهشه شيء. أعتقد أنك لو عرضت عليهم فيلمًا يظهر أكلة لحوم بشر يأكلون البطل وأقسمت لهم أن هذا حقيقي، فلن يندهشوا لحظة. سوف يتثاءبون ويؤكدون أنهم رأوا هذه المشاهد بشكل أفضل في فيلم آخر. هكذا أدمنت مشاهدة الأفلام القديمة، والنتيجة هي أن المرء يندهش عندما لا تتصرف الحياة مثل هذه الأفلام. . مثلاً ذهبت للمحكمة عشرات المرات، فأدهشني أنني لم أر ذلك المحامي الذي يقول بصوت متهدج: ـ»يا حضرات المستشارين» وأدهشني أن البطل لا يسمح له بالوقوف أمام المحكمة ليحكي قصته في فلاش باك طويل. كما أنني لم أر في حياتي أية محاكمة تنتهي بأن يصيح القاضي: «براءة!» أو يصيح: «حكمت المحكمة بالإعدام شنقًا». دائمًا تنتهي المحاكمات التي حضرتها نهاية غير درامية وغير مميزة من طراز (تؤجل الدعوى للإطلاع على الأوراق )مع جو إداري كئيب. هناك ملاحظة أخرى لم أجرؤ على تجربتها، هي أن البطلة تنطلق من البيت مسرعة لتركب أول سيارة أجرة تقابلها. يعني لا يحملن نقودًا أو حقيبة أبدًا. يبدو أن سائقي سيارات الأجرة لا يأخذون مالاً من الممثلات الملهوفات. طبعًا لو جربت أنا شيئًا كهذا لحطم سائق السيارة أنفي. حسب الأفلام، أي شخص ودود في مكان عام هو شخص يبغي أن يبدل حقيبتك بحقيبته المليئة بالمخدرات. عامة اللصوص في الأفلام يسرقون (البضاعة) لا تعرف أبدًا ما هي هذه البضاعة ولا مم تتكون، ولا تعرف ما يفعلون بها لاحظ الناقد السينمائي سامي السلاموني أنهم لا يفعلون شيئًا سوى بيع هذه البضاعة وشراء زجاجات الخمر الرخيصة التي يشربونها طيلة الفيلم. وعلى كل حال مكان كل العصابات في العالم هو (الكباريه)، فهم مجرد جمهور يعشق الرقص الشرقي لا أكثر. وفي البار تقابل ذلك الكائن العجيب: فاتن النساء الذي يشرب الخمر طيلة اليوم ولا يفعل شيئًا في الحياة سوى تهديد هذه الزوجة البريئة أو تلك. وللتهديد هناك دائمًا (النيجاتيف). تنطقها بالطريقة الفرنسية، وهي سلبيات صور التقطت لها في مكان ما. لا قيمة للصور ما لم تحصل على النيجاتيف كأنه ليس بوسع المصور عمل نسخة من صورة. الممثل استيفان روستي تخصص في هذا الدور ويبدو أنه لم يكن يؤدي سواه. ثم يموت في نهاية الفيلم فيلقي جملة تصير خالدة بعد ذلك؛ على غرار «نشنت يا فالح ؟» أو «اليوم ده باين من أوله». أما عن طريقة الكلام بين الأبطال فقد تكلم عنها كثيرون قبلي؛ منهم الساخر العظيم أحمد رجب. لقد لاحظ أن أبطال الأفلام لا يواجهون بعضهم في الكلام أبدًا، دائمًا يعطي أحدهم ظهره للآخر ويواجه الكاميرا ليتكلم، ونرى على وجهه تأثير كلام الآخر، طريقة غريبة جدًا لو رأيتها في عالم الواقع، وفي أحد الأفلام العربية يزور أبطال الفيلم سيدة في دارها فترقص وتغني لهم وهي تواجه الكاميرا وهم يجلسون في خلفية الكادر، معنى هذا أنها تعطيهم ظهرها وتغني للحائط ! يبدو أن السجائر القديمة كانت مفيدة للصحة أو لم تكن مضرة على الإطلاق، لأن أبطال الأفلام القديمة كانوا يدخنون كأنهم يتنفسون، ولم يسعل واحد منهم أو يصب بنوبة قلبية. ذات مرة ذهبت إلى نقابة السينمائيين في مهمة ما، فدخلت وأنا أتوقع أنني سأقابل راقصة على السلم، أو سأرى ستيفان روستي يختلس النظر إلي من وراء ستار خشبي، لكنني وجدت مكاتب عادية جدًا، هناك غرفة صغيرة بها «عدة» الشاي والقهوة، الموظف الذي تعامل معي يضع جواره شبشبًا لزوم الوضوء لصلاة الظهر، هناك لفافة بها شطائر من الفول والطعمية. باختصار يمكن أن ترى المشهد ذاته في نقابة المحامين أو نقابة المهندسين، برغم هذا ما زلت أشعر أن هذا العالم الذي رأيته في أفلام أسود وأبيض موجود، ربما هو أقوى وأكثر وجودًا من عالمنا هذا !! د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©