الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يملكون المشانق.. ونملك الأعناق

يملكون المشانق.. ونملك الأعناق
14 يوليو 2010 20:08
الظهور الشعري الأول لمحمد الماغوط (سلمية 1934 ـ دمشق 2006) ببيروت في جلسات خميس مجلة “شعر” كان من الإثارة والدرامية بما هو كافٍ ومناسب للتعبير عن تلك الدرامية والإثارة أيضاً في قصائده التي ألقاها أدونيس بحماسة، جعلته يسأل الحاضرين: إن كانت لشاعر أجنبي، ثم يشير إلى فتى منزوٍ في القاعة هو كاتبها القادم من دمشق مغمورا حزينا وحيدا. تلك الرواية التي ظلت في سجل الماغوط الشعري وسيرته موثقة من دون نقاش تدل في أحد معانيها على الصدمة التي ستصاحب ملفوظه الشعري والخصوصية التي سيحتفظ بها لنفسه وسط جماعة “شعر”، وفي الحداثة الشعرية العربية المبكرة، وهي متأتية من أسباب يمكن إجمالها في غربته وظهوره المفاجئ إزاء ألفة الجماعة واصطفافها. ومحدودية الأفق المتاح له من قبل ـ في وطنه ـ وفضاء الحرية الذي تعيشه الجماعة. تعلمه اليسير والمحدود إزاء معرفة زملائه باللغات ودراساتهم المنظمة، واعتماده موهبته أولا إزاء الحرفة والخبرة والمعرفة التي يتمتعون بها، وكتابته لنص شعري مختلف معتمداً على البساطة والوضوح واللغة الأليفة مصحوبا بالصدمة المفاجئة، كما أن ما يكتبه الماغوط يندرج تحت مصطلح الشعر الحر ـ لا بالمفهوم الذي أشاعته نازك الملائكة قاصدة به تجاربها والرواد في كتابة شعر التفعيلة، وهو ما أشار كثيرون إلى عدم دقته ـ ولكن بالمعنى الانجلو/ سكسوني كما وصفه جبرا إبراهيم جبرا مذكرا بوالت ويتمان وشعره الحر بالانجليزية، وصّنف الماغوط ضمن شعراء هذا التيار ـ وجبرا منهم إضافة إلى توفيق صايغ ويوسف الخال ـ وليس ضمن شعراء (قصيدة النثر) كما يكتبها أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وزملاؤهم. ويقوم الشعر الحر على إكساب القصيدة وهجا شعريا مجتلبا من نثرها وتداعياتها وانفتاحها الدلالي، وهو بكلمات جبرا “تعبير فني عن تجربة لدى الشاعر تتميز بدقة بالغة في التعبير وتعتمد على إثارة الحدس، وبالتالي إعمال الذهن في ما نقرأ”. ويصفه عبد الواحد لؤلؤة بأنه يعتمد موسيقى الأفكار، وهذا ينطبق على قصائد الماغوط في دواوينه الثلاثة (“حزن في ضوء القمر” 1959، “غرفة بملايين الجدران” 1960، “الفرح ليس مهنتي” 1970) ونستطيع أن نتلمس ذلك أيضا في قصيدته التي ينوه بها كونها نالت جائزة جريدة “النهار” لقصيدة النثر عام 1958 وعنوانها “احتضار” وفيها أصداء من قصيدة للسياب بعنوان قريب “رؤيا عام 1956” أثبت فيه السنة تاريخا لحادثة فراره إلى الكويت. يتكئ الماغوط أساسا في توليد قصائده على موهبته وعفويته وبدائيته كما ذكرت مبكرا سالمة صالح وهي تقدم ديوانه الأول، منبهة إلى أنه “يستمد من بدائيته وعفويته وموهبته كل رؤاه ولغته وصوره وموضوعاته، فـ(بدائيته) لعبت دورا مهما في خلق هذا النوع من الشعر و(موهبته) كانت بمنجاة من حضانة التراث وزجره الأبوي فلعبت دورها بأصالة وحرية، وأما (عفويته) فقد نجت من التحجر والجمود”. وألاحظ أن ذلك الاستمداد مما هو غير نسقي لم يره الدارسون والنقاد المناوئون للتجربة النثرية كلها؛ فترى نازك الملائكة أنه يكتب (نثراً) و(خواطر) متجاوزاً على بنية القصيدة حيث يسطّر تلك الخواطر المنشورة بيتياً، أي بهيئة الشعر! لكن آخرين كغسان كنفاني تنبهوا مبكرا إلى (الإيقاع الذي تخلقه كلماته المسلحة) والتي تظل على الرغم من ذلك قادرة بتعبير غسان على تحقيق إيقاع عذب ومدهش ومفاجئ. ثنائيات ضدية تتحكم في شعر الماغوط مشغّلات أسلوبية تجسدها قصيدة الظل والهجير من ديوانه الثالث “الفرح ليس مهنتي” وصارت جزءا مميزا لتجربته وعلامة فارقة له. منها احتفاؤه بالثنائيات وخلق التوازن الإيقاعي على أساسها، والافتتان بالصورة القائمة على المشابهة وتمثيل ذلك لغويا بالإكثار من التشبيه بالكاف خاصة، واعتماد السرد باقتراض تقنية الحوار والاسترسال الوصفي والحدثي، مع الحفاظ على زاوية نظر تتسم بالسخرية الواخزة والمثيرة للألم كمفارقة موضوعية. ومركز قصيدته يتأسس على المخاطبة والقرب من موضوعه بالنداء غالبا، وهو سمة غنائية تحافظ عليها قصائد الشعر الحر غير البعيدة عن أجواء نثريات جبران الشعرية وشعر أمين الريحاني المنثور كمؤثرات مختفية في طيات النصوص. ويتمدد الشعر الحر نفسه في مقالات الماغوط ففي كتابه “شرق عدن.. غرب الله” نجد التداخل بين الشعري والسردي، وكذا في رواية “الأرجوحة” حيث يتقدمها مدخل خطابي شعري مطول يتسم بالتجريد والإنشاء الصوري الذهني الذي لا تتسع له الرواية كنوع سردي ينزع إلى التعين والتجسيد الحدثي: (أيها الاسم الصغير كتابوت طفل/ أيها الاسم المغدور، والراقد على حرفه الأول كالغزالةَ/ إذهبْ بعيداً.. بعيداً كالجناح المكسور...). يضاف لتلك المزايا الفنية مزايا موضوعية تتركز في التمرد والرفض وهما سمتان واضحتان في شعره يستكملهما بالعزلة التي أرادها طوعياً فقال عن نفسه (إنه جملة معترضة في الثقافة العربية). تلك العزلات التي اختارها وتمرده الذي لم تخفّ حدته بالعمر أو الأحداث والسياقات الحافة بحياته ما دعا إلى دراسته بمقتربات متنوعة، ليست آخرها دراسة لؤي آدم: “الماغوط وطن في وطن” التي تتكئ على التحليل النفسي للتمرد وتصنيفاته الممكنة في شعره. الغنى والفقر تحفل “الظل والهجير” منذ عنوانها بالثنائيات الضدية، وتستمر في نموها التصاعدي كخيط ينتظم القصيدة أو عمود فقري لجسدها الكتابي. فالثنائيات الضدية تقطع النص أو تشطره بحدّة عبر الصور والتشبيهات الكثيرة في شعر الماغوط والتي تستخدم الدلالات لتأكيد هذا التنافر والتنابذ، كما تشيع فيه توازنات أو توازيات إيقاعية يبدو فيها النص بعد المعاينة الأسلوبية في غاية الانضباط والنظام النسقي، فكل عبارة تقابلها مثلها في عدد الكلمات وتوازيها في الدلالة مخافة أو تعضيدا كما تنتمي المفردات للتوازن ذاته، مثل: نزرع يقابلها في الجملة التالية يأكلون، وفي الهجير يقابلها الجار والمجرور في الظل.. يتركب عنوان القصيدة من التقابلات الضدية أيضاً: ظل/ هجير لتنسب الظل للأغنياء المستغِلين بكسر الغين، بينما يكون الهجير فضاء دلاليا لتصوير حال الفقراء المستغَلين يفتح الغين، ثم تستمر في الانشطار والانقطاع بين عالَمين مصوَّرين حسيا: الأول يعبر عنه ضمير الجماعة الغائبين (هم) = الأغنياء، والثاني يعبر عنه ضمير المتكلمين (نحن)= الفقراء، وأحياناً مرادفها النحوي (نا) للعائدية الجماعية، فأخذ الشاعر هيئة التعبير بضمير الجماعة؛ وكان راويا داخليا ينطق باسمهم. ويمكن التمثيل لهذا الانشطار بالأمثلة التاية التي حردناها من الضمير المكرر المتصدر للجمل: ـ هم يسافرون/ ونحن ننتظر ـ هم يملكون المشانق/ ونملك الأعناق ـ يأكلون في الظل/ نزرع في الهجير ـ أسنانهم بيضاء كالأرز/ أسناننا موحشة كالغابات ـ صدورهم ناعمة كالحرير/ صدورنا غبراء كساحات الإعدام ثم تنقلب المقارنة دلاليا ليبين الشاعر انحيازه للفقراء وانتصارهم عبر تغيير سير الثنائيات لصالح (نحن): ـ بيوتهم مغمورة بأوراق الملصقات/ بيوتنا مغمورة بأوراق الخريف ـ في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص/ في جيوبنا عناوين الرعد والأنهار ـ يملكون النوافذ/ نملك الرياح ـ يملكون السفن/ نملك الأمواج ولا تكتفي القصيدة بهذه النهاية؛ فعبر التقابل لا يريد الماغوط أن يقيم عالمين متوازيين بسذاجة لأنه يدرك ما في الواقع، ويحس بالغلبة لـ(هم)؛ فيدعو الحبيبة المناداة في النص للنوم على الأرصفة. يمكن أيضا قراءة القصيدة بافتراض أربع حركات يفصل بينها البياض على الصفحات وهي: 1- المدخل التثبيتي الذي يعين المواجهة ويسمي سببها: كل حقول العالم/ ضد شفتين صغيرتين/ كل شوارع التاريخ/ ضد قدمين حافيتين. 2- مناداة الحبيبة من البيت الثالث (حبيبتي) وبيان الانشطار والتقابل الضدي في الحياة حيث يزرع الفقراء في الهجير بتعب وشقاء، ليأكل الأغنياء حصاد الزرع في الظل براحة وسعادة.. وتتوالى التقابلات الثنائية لتعمق الفارق بين من يبذل ويكد ولا يملك شيئا ومن يملك كل شيء: الزمن والمشانق والسفر واللآلئ وليس لدى الفقراء بمقابل ذلك سوى الجلد والعظم والانتظار والأعناق والنمش. 3- يدخل الشاعر في تفاصيل الفروق بين (هم) و(نحن) فيذكر مفردات تصور ببلاغة تلك الفروق: أسنانهم البيض كحبات الأرز وأسنان الفقراء الموحشة كدغل الغابات، صدورهم الناعمة كالحرير وصدور الفقراء المغبرة كساحات الإعدام.. 4ـ يستدير النص بعد مقطعي الفوارق ليعكس إيمان الشاعر بغلبة الفقراء بعبارة (مع ذلك) الاستدراكية؛ أي رغم ما سبق من تضاد فإن الفقراء لديهم ما ليس للأغنياء: طبيعة حية يرمز لها بأوراق الخريف والرياح والأمواج بينما للأغنياء أوراق المصنفات الاصطناعية والسفن والنوافذ التي لا شأن لها بمقابل ما يملك الفقراء. وأخيرا يلخص الماغوط تفوق الفقراء بملكيتهم للحبال والخناجر بمقابل أسوار الأغنياء وشرفاتهم، وملكيتهم للوحل الذي سترتمي فيه الأوسمة التي يعلقها الأغنياء على صدورهم. 5- العودة من الحلم إلى الواقع الملخص بدعوة الحبيبة للنوم على الأرصفة (والآن..) فالحال باقٍ على بؤسه في الخارج لا كما أراد النص. لقد كان الماغوط واعيا للانشطار الذي لازم الحياة ومدركاً لسبب رعبه وخوفه ويأسه، لكنه يجد في الحلم بديلا فيقول: الأحلام كنيستي وشارع/ بها أستلقي على الملكات والجواري. لكنه في النهاية يذهب حزينا متسكعا في ظلمة الليل ووحشته مذكرا بالشاعر الجاهلي: فإذا شربتُ فإنني ربُّ الخورنقِ والسديرِ/ وإذا صحوتُ فإنني ربُ الشويهةِ والبعيرِ. مستبدلين الشرب بالحلم في حالة الماغوط: سليل الشعر المتصعلك الواخز المستفز. من «الظل والهجير» حبيبتي هم يسافرون ونحن ننتظر هم يملكون المشانق ونحن نملك الأعناق هم يملكون اللآلئ ونحن نملك النمش والثآليل هم يملكون الليل والفجر والعصر والنهار ونحن نملك الجلد والعظام نزرع في الهجير ويأكلون في الظل أسنانهم بيضاء كالأرز وأسناننا موحشة كالغابات ومع ذلك فنحن ملوك العالم في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص وفي جيوبنا عناوين الرعد والأنهار هم يملكون النوافذ ونحن نملك الرياح هم يملكون السفن ونحن نملك الأمواج هم يملكون الأوسمة ونحن نملك الوحل والآن هيا لننام على الأرصفة يا حبيبتي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©