الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كل الطرق تؤدي إلى العراق!

كل الطرق تؤدي إلى العراق!
14 يوليو 2010 20:13
تعمل بعض الأفلام على اختيار عناوينها من منطلق أو مبعث تهكمي، وهذا المبعث لا يخلو أيضا من نقد وتشريح وإيغال في تفتيت العنوان وإعادة تشكيله في اتجاه مضاد لأي تأويل لحظي أو متسرع قد يختزنه ذهن المشاهد عند مجابهته لهذا العنوان. ينطبق هذا القول على فيلم “المحظوظون” (The L cky Ones) للمخرج الأميركي نيل بيرجر، كما ينطبق على أفلام كثيرة عملت ضد عناوينها، وقدمت في تفاصيل الحبكة والمشاهد واللقطات معالجات مختلفة ومعاكسة للانطباع المباشر الذي يفرضه المدخل أو العتبة الأولى التي تعبر بالمتفرج إلى خطوط سردية متناقضة ومدهشة في ذات الوقت. المخرج نيل بيرجر يقدم في “المحظوظون” نقدا مبطنا للسياسة العسكرية التي تتعامل مع الجنود العاملين في العراق كما تتعامل مع كائنات آلية مدربة على فنون القتال، حيث يتم التخلي عنها بمجرد إصابتها بعطل مفاجئ لا يمكن إصلاحه، وقبل هذا الفيلم قدم المخرج عملين آخرين هما: “مقابلة مع قاتل مأجور”، و”الساحر” ورغم الخيارات المتباعدة لهذا المخرج في انتقاء مواضيعه السينمائية، وعدم إتكائه على أسلوب متشابه في الرؤية والصياغة والتنفيذ، إلا أنه في فيلم “المحظوظون” يتجه نحو توظيف مفهوم وتقاليد (فيلم الطريق) (Road Movie) بشكل متوازن وسلس يصعد بالأحداث من نقطة الصفر إلى نقطة أخرى ساخنة تحتضن مواقف متوترة ومتداخلة تتشكل من خلالها مصائر وقصص وحالات وصراعات الشخوص، ويدوزن المخرج هنا مفاتيح الإيقاعات السردية للفيلم على هوى الرحلة المشهدية والذاتية الطويلة في سيارة (فان) تحمل في داخلها ثلاثة جنود أميركيين عائدين من العراق بجروح ظاهرة وأخرى خفية، تحمل السيارة في داخلها الحيوات المحطمة للجنود وتأخذهم إلى مناطق ومدن أميركية مختلفة يكتشفونها لأول مرة وكأنهم سياح أو غرباء، وهذه الجولة الزاهية وسط الطبيعة لن تخلو بالتأكيد من حس قاتم ومن تبدلات طارئة وسخريات داكنة وتأملات وآلام ولحظات مجنونة وأخرى متوفرة على الحكمة والمحبة والصداقة التي تنشأ بعفوية بالغة ودون قصد. رحلة المكاشفة ورغم التقاء فيلم “المحظوظون” في بعض خطاباته ومحاوره السردية مع خطابات أفلام أخرى ظهرت في السنوات الأخيرة وتناولت الحالة العراقية، إلا أن الفيلم يبدو مستقلا في طريقة معالجته لهذه الحالة من خلال التركيز على تطوّر الجانب الدرامي للشخصيات بالتناوب مع تصاعد الحبكة والدخول في تفاصيل وأحداث تكشف تدريجيا عن المناطق الخفية والمتوارية داخل هذه الشخصيات، ولم يلجأ المخرج لتصوير الحالة العراقية من الجهة المروعة والواقعية جدا حدّ الفنتازيا كما في أفلام مثل “رجال يحدقون في الماعز” و”خزانة الأذى” الذي فاز بجائزة الأوسكار مؤخرا، ولا في أفلام اختارت المجابهات العسكرية والإثارة الحربية المباشرة مثل “المنطقة الخضراء” و”جسد من الأكاذيب” و”في وادي إيلاه”، وغيرها من الأفلام التي نجح بعضها في تصوير الأزمة أو الحيرة الذاتية للجندي الأميركي بشفافية وإتقان، بينما أخفقت أفلام أخرى في الخروج من أسر البروباغندا والتحرر من الخطاب العاطفي والسياسي الأعمى والمشوش. يبدأ فيلم “المحظوظون” على المشهد الوحيد الذي نرى فيه حضورا عسكريا واضحا، عندما تتعرض دورية أميركية في العراق لهجوم مباغت وسريع لا يخلف وراءه ضحايا أو مشاهد دموية، ولكن أحد الجنود يصاب بشظية في منطقة حساسة من جسده، وهي الإصابة التي يمكن لها أن تحطم مشروع زواجه المنتظر من خطيبته، تتم معالجة الجندي تي. كي. (يقوم بدوره الممثل مايكل بينا) في أحد المستشفيات التابعة للقاعدة العسكرية في ألمانيا، ويوصيه الطبيب بتجربة حظه مع بائعات الهوى في أميركا كي يتأكد من شفائه وعودته لحالته الذكورية الطبيعية قبل أن يقابل خطيبته! يلتقي تي. كي. في الطائرة العائدة إلى أميركا بالرقيب شيفر (الممثل المميز بأدواره المركبة تيم روبنز) والذي عولج هو الآخر من إصابة في فقرات الظهر إثر حادثة في معسكره، وهي الإصابة التي أنقذت حياته لأنها حرمته من المشاركة مع فرقته في إحدى المداهمات التي راح ضحيتها كل المشاركين في المداهمة، يلتقي الاثنان في ذات الطائرة بالمجندة كولي (تقوم بدورها رايتشل ماك آدامز) التي تمت معالجتها في المستشفى الألماني إثر إصابتها في ساقها. تنشأ صحبة عابرة في الطائرة بين الثلاثة المصابين بخسائر جسدية يمكن التكيف معها، معتقدين بأنهم أشخاص محظوظون، لأن الكثير من أصدقائهم في العراق عادوا وهم داخل أكياس سوداء ومغلقة! عند هبوط الطائرة في نيويورك يفاجأ الثلاثة بتأجيل الرحلات الذاهبة لولاياتهم بسبب عطل طارئ في مولدات الكهرباء، فيقررون استخدام سيارة مستأجرة والمشاركة في مصاريف الرحلة البرية التي سوف تتوقف بعد أيام قي مدينة سانت لويس، وهي المدينة التي يقطنها النقيب شيفر ومن هناك يستقل الجنديان الآخران الطائرة المتوجهة إلى مدنهما المقصودة. خيبات وصدمات ورغم المناوشات والصدامات التي تلون العلاقة بين الثلاثة في بداية الرحلة، إلا أنه وبمرور الوقت تبدأ هذه العلاقة في التدرج نحو الألفة والاستحسان والتعاطف خصوصا عندما يأخذ كل واحد منهم في سرد قصته وانطباعاته الذاتية وظروف إصابته وحديثه عن المستقبل، فشيفر يريد أن يستقر نهائيا ويصبح إنسانا مدينيا يكرس حياته لزوجته وابنه الوحيد الذي يطمح لدخول إحدى الجامعات المرموقة في أمريكا، بينما تتحدث “كولي” عن ضرورة الحفاظ على الجيتار الذي يعود إلى صديقها المتوفى في الحرب، وتسليم هذا الجيتار لعائلة صديقها في ولاية لاس فيجاس على أمل أن تعيش مع هذه العائلة وتحدد مستقبلها من هناك، خصوصا وأنها لا تستطيع العودة إلى منزل والدتها التي فضلت صديقها الجديد على ابنتها وطردتها من المنزل وهي في السادسة عشرة، مما اضطرها للانضمام إلى الخدمة العسكرية والذهاب إلى العراق، أما تي. كي. فيريد أن ينهي معاناته الشخصية مع خطيبته التي تنتظره والبحث عن مهنة جديدة تجنبه العودة إلى جحيم الحرب مرة أخرى. تبدأ المفاجآت المخيبة وغير المتوقعة مع وصول شيفر وضيفيه إلى منزله، حيث تصارحه زوجته برغبتها في الطلاق لأن غيابه لمدة سنتين جعلها تكتفي وتتكيف مع الحيز العاطفي والاجتماعي الذي باتت تعيشه، أما ابنه فيطلب منه مبلغ عشرين ألف دولار كي يتم قبول أوراقه في جامعة ستانفورد العريقة، يصاب شيفر بصدمة داخلية عنيفة فلا هو يملك المال ولا هو قادر على تغيير رأي زوجته، وعندما يشعر الصديقان بأن شيفر قد يؤذي نفسه بعد هذه الصدمة يقرران الوقوف معه ومساعدته فتقترح كولي بيع الجيتار الفريد من نوعه والثمين في سعره كي يسدد مستحقات الجامعة، ولكنه يرفض ويقرر الذهاب إلى لاس فيجاس وتجربة حظه مع ألعاب القمار، وفي أحد الحوارات المميزة أثناء رحلتهم إلى لاس فيجاس تقول كولي لشيفر: هل تعرف إنك إذا انتحرت فسوف تذهب إلى منطقة يطلق عليها في الجحيم: “حفرة النار”، فيرد عليها شيفر وبيأس بالغ: “وكيف ترينني الآن؟.. إنني بالفعل أعيش داخل هذه الحفرة”! تابوت متنقل في لاس فيجاس يفترق الثلاثة كي يحدد كل واحد منهم وجهته النهائية على أمل أن تجمع بينهم الصدف والأقدار في ظروف مختلفة وأكثر اتزانا. بالنسبة لكولي فإن صدمتها ستحمل طابعا خاصا، وستكون أشبه بالاستيقاظ من حلم ناعم ومثالي والدخول في كابوس واقعي شائك ومؤلم لدرجة تفوق الوصف، فخلال حديثها مع عائلة صديقها الميت تكتشف الخدعة الكبيرة التي نسجها هذا الصديق حول نفسه وحول عائلته التي لا علاقة لها بأي إرث موسيقي، كما أنها لا تعرف أي معلومة عن مصدر هذا الجيتار ولا عن تعلق ابنها بالموسيقا، وتكتشف كولي أيضا أن صديقها لديه زوجة وطفل يعيشان مع العائلة، فتترك المكان وكأنها شبح هائم يبحث عن جسده وعواطفه وذكرياته التي تفككت في مهب الصدمة المروعة التي بات يصدّرها الآخرون، حتى وهم تحت التراب. أما آخر المصدومين تي. كي. فيقرر البقاء في لاس فيجاس والاعتراف للشرطة بسرقة وهمية لم تحدث كي يقبع في السجن بدلا من مجابهة خطيبته وعائلته والاعتراف لهم بمشكلته الصحية. وفي النهاية يقرر الثلاثة الانضمام مجددا إلى الجيش والعودة مرة ثانية إلى العراق لأن كل الطرق باتت تؤدي إلى هناك، فالأزمات المادية والروحية التي خبروها بعد عودتهم للوطن كانت هي الأعنف والأكثر ضراوة مقارنة بما عايشوه وسط مكابدات الحرب وويلاتها. عودة أشبه بالخلاص، حتى وإن كان هذا الخلاص هو النزهة الأخيرة والاختيارية وسط حقل ألغام. ويتساءل المشاهد هنا: هل كانت الرحلة الطويلة وسط ناطحات السحاب في نيويورك ووسط الغبار الذهبي في الوادي العظيم (الجراند كانيون) ووسط أضواء النيون الهائلة في لاس فيجاس، هي رحلة المكاشفة والتطهر ومساءلة الذات إزاء مسميات كبيرة ومجردة مثل الانتماء والوطنية والتضحية، هذه التضحية التي تحمل ملابساتها معها كما يحمل الإنسان تابوته فوق ظهره دون أن يعلم أين ومتى ستكون نهايته؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©