الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قديسٌ يعيش على شجرة

قديسٌ يعيش على شجرة
16 مايو 2014 21:56
كُنت أتمنى في صباي أن أعيش وحدي في كوخ بعيد عن بيت أهلي، وكنت في بعض اللحظات أتمنى لو كنت مقطوعاً من شجرة، لا أحد يعرفني في هذا العالم سوى أصدقائي، ولا أعرف سواهم. وكانت أمام منزلنا ساحة رملية بعرض ملعب كرة قدم، وكنَّا نتخذ مع أشقائي وأبناء الفريج جزءاً من هذه الساحة ملعباً للعب الكرة، وكان الجزء الآخر خالياً إلا من شجرة غاف واحدة كبيرة. وفي إحدى مرات «الزعل» من البيت، صعدت تلك الشجرة بعد أن صنعت على جذعها سُلماً بقِطع من الأخشاب، فكنت أثبت قطعة خشب على جذع الشجرة بمسمار، ثم أضع رجلي عليها وأرتقي إلى الأعلى وأثبت التالية، كما في رسوم الأطفال «توم سوير». واخترت مكاناً فوق الشجرة تلتقي فيه الأغصان الكبيرة، و«أثثته» بقطع من الكرتون، وكان إلى جانبي زجاجة ماء تتدلى من حبل مربوط بالشجرة، وعلبة صغيرة أضع فيها البطاريات وأشرطة كاسيت للمطرب البحريني خالد الشيخ، وفي حجري مسجلة صغيرة. ورحت ألجأ إلى بيتي المفضَّل كلما شعرت بأن بيتنا لا يصلح للسكنى، وأمضي الساعات الطوال هُناك أستمع لأغاني ابن المحرق، خصوصاً رائعته التي تبدأ بـ: «سألتكِ .. هزّي بأجمل كفٍّ على الأرض غصن الزمان»، وأراقب باب منزلنا، تحسباً لخروج أي متطفّل منه يأتيني ويلقي علي المحاضرات عن أهمية برّ الوالدين والسمع لهما والطاعة، وضرورة احترام الكبار والإصغاء إلى نصائحهم وتحذيراتهم. وكان هذا يعني أن أسمع وأطيع الجميع، وأصغي إليهم فرداً فرداً، لأنني أصغر بني آدم في البيت وكلهم أكبر مني، وكلهم لهم حق الوصاية عليَّ، ولا أملك حتى الوصاية على الشعر النابت فوق رأسي. وكانت أمي الشخصية المحورية في هذا الجمع المبارك الذي يريد أن يفرض رأيه عليّ، فإن رضيت أمي رضي أهل البيت كلهم، وما كانت أمي ترضى إلا بولد مؤدب، ومهذب، ومحترم، ويضع محارم ورقية في الجيب العلوي لثيابه، ويمشي منتعلاً خُف الوقار مثل القديسين، وتشع من وجهه أنوار الإيمان. كُنت أعتقد أن أمي تريد ولداً له مواصفات نادرة: إذا تكلّم نثر الدرر، وإذا لعب لم يثر ذرة غبار واحدة، وإذا جاع شبع، وإذا طلب شيئاً لم يأخذه، وإذا ذهب إلى المدرسة كان هو المعلم، وإذا التقى أصدقاءه كان هو ولي أمرهم. وما دمت لست ذلك الولد الذي تحلم به ربّة البيت، فما الجدوى من أن أبقى فيه؟! وكنت أكلم نفسي من فوق الشجرة: الكذب في هذا البيت حرام، واختلاس الطعام ممنوع، وسرقة النقود جريمة، والتصرّف بطريقة شيطانية محظور، والاحتفاظ بقذارة الجسد أمر غير مرغوب فيه، وتكسير الأشياء أثناء اللعب كارثة.. فماذا يتبقى لي لأفعله؟! وما معنى أن أعيش في بيت كهذا؟! وكُنت كلما كبرتُ سنة أكتشف أن 10 في المئة من كلام أهلي كان صحيحاً، وفي ليلة زواجي عدتُ في ساعة متأخرة من حفل الزفاف إلى البيت لآخذ ما تبقى لي من أغراض شخصية، ولم أتمالك نفسي حين وجدت أبي وأمي في انتظاري لتوديعي، فسكبت بعض الدموع بين يديهما وشكرتهما على كل ما فعلاه من أجلي، وغادرت المنزل، وقد ارتفعت نسبة اقتناعي بأن أهلي كانوا خير أهلٍ إلى 99 في المئة. عرفت قدر ذلك البيت بعد أن غادرته بعيون دامعة وقلب يتألَّم حزناً على فراق والديّ، ورحت أعيد شريط الذكريات وأرى الأشياء التي حصلت معي على حقيقتها، وأخذت أفهم أن أهلي لم يكونوا يريدون مني أن أقفز على مراهقتي وأدخل في الشيخوخة المبكرة، أو أن أذلّ عزّ شبابي وأصبح ولياً من أولياء الله الصالحين، وأن كل الذي كانوا يطمحون إليه هو ألا أتورط في أي شيء يضيع مستقبلي إلى الأبد. أدركت بعد الخروج من ذلك البيت أنني ما كنت لأحظى بزوجة وببيت، ولا بعمل وبمؤهل علمي، ولا باحترام الناس، لولا جهود أهلي في منعي من الذهاب إلى طريق اللا عودة، ولولا حرصهم على ألا أكبر ويكبر معي سلوكي الخاطئ ليتحوَّل مع الأيام إلى بصمة لشخصيتي، وأصبحت أكثر امتناناً لجهودهم في تقليم الأغصان النافرة من شجرة سلوكي. لم أكن أتوقع أن بعض الأولاد الذين تخلى أهلهم عن تربيتهم وتركوهم للشارع، وكنت أحسدهم آنذاك على هذه الحرية والعيش كيفما اتفق، سينتهون نهاية مؤلمة، ولم أكن أتصوّر أن بعضهم الآخر الذي كان يبالغ أهله في تدليله باعتبار هؤلاء الأبناء فلذات أكبادهم، وكنت أحسدهم كذلك، سيخرجون يوماً إلى الناس الذين لن يعتبروهم فلذات شيء، وإنما أشخاص ثقلاء ومزعجون لا يمكن معاشرتهم. لم أكن أفكر في أن الحب، ولا شيء سواه، هو الذي كان يدفع أهلي لمواجهتي بما أكره. ومع هذا، فلم أعثر على نسبة 1 في المئة الباقية ليكون تقديري لهم كاملاً، وكنت أتوقع أن أعثر عليها بمجرد إنجاب الأولاد، لكن هذا لم يحدث حتى بعد أن رزقني الله بثلاثة من الأطفال، وبقيت هكذا أبحث عن تلك النسبة إلى أن وجدتها حين انتبهت في أحد الأيام لوجود زغب على الشفة العليا لولدي البكر. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©