الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الرواية الأنثوية.. الذاكرة أولا

عن الرواية الأنثوية.. الذاكرة أولا
3 مايو 2012
يمنى العيد * لا تستوي هذه التسمية: (الرواية الأنثوية وسؤال الهوية)، في نظري، على قاعدة مفهومية. فالرواية هي الرواية، أي هي فن التأليف لمتخيل له علاقة بالذاكرة، أو بما تمارسه هذه الذاكرة من استعادة لشخصيات وأحداث وأزمنة وأمكنة... يحيل المستعاد الروائي، لدى القراءة، على مرجع تاريخي معيش. ذلك أن الذاكرة هي ذاكرة الجماعة وإن كان الفرد هو من يمارس فعل الاستعادة، كما أن المرجع التاريخي المعيش هو أيضاً تاريخ الجماعة، وإن كان فعل التأليف يمارسه الفرد. قد يكون من يقوم بفعل التأليف هو رجل، وقد يكون امرأة، وقد يكون المستعاد هو مما يخص الرجل، أو المرأة، إلا أن ما يحدد هوية الرواية ليس جنس من يمارس التأليف، ولا طبيعة المستعاد، بل فنيتها، أي ما يشكل ظواهر سردية ـ روائية تتجاوز الأفراد المؤلفين، كتاب الرواية، إلى تاريخ الرواية. الرواية باعتبارها فناً هي ظاهرة تاريخية. وإن كان الكتاب والأفراد، المبدعون، هم من يبلورون هذه الهوية الفنية، وإن كانت هذه الهوية الفنية تضمر سؤالاً عن أثر المرجعي في بنية المتخيل الفني. هكذا، مثلاً، نتكلم عن رواية واقعية كان لها زمنها عندنا (النصف الأول من القرن العشرين)، وكان من أبرز كتابها نجيب محفوظ، ولئن كنا ننسب الرواية العربية الواقعية إليه، فليس بصفته الذكورية، بل باعتبار متخيل فني تأليفي بقواعد وتقنيات (مقدمة، عقدة، حل، بطل) وظفها محفوظ لتوليد دلالات المسرود (الحكاية) الخاص. وكما كتب محفوظ وغيره من الروائيين، الرواية الواقعية، كتبت المرأة الرواية الواقعية وإن لتعبر عما تعانيه من ظلم، ومن قمع حال دون انتمائها إلى ذاتها، ومن أن يكون لها هوية وطنية تتمتع بما يتمتع به الذكر من حقوق. الواقعية والأنثوية ما أود قوله هو أن الرواية التي كتبتها المرأة، في زمن الرواية الواقعية، هي رواية واقعية، وليس رواية أنثوية، وإن كان المسرود يعبر عما يخص أنثويتها. وعندما غدت الرواية الواقعية عاجزة، فنياً، عن قول الواقع المعيش، سعى الروائيون/ يات، إلى كسر قواعد بناء الرواية الواقعية، محاولين ما سمي بالتجريب، وهو ما سمح بتنوع تأليفي، أو بتنويع على البنية الفنية الروائية دون أن تتحدد هذه البنية بجنس من يكتب: ذكور، إناث، بل كان الفني يتحدد بقدرة العمل الروائي على توليد دلالات المعنى العميق للمسرود باعتباره يحيل على الواقع المعيش. أوجز فأقول بأن سؤال الهوية أو الانتماء إلى الذات الأنثوية لم يرتبط بما يمكن أن نسميه رواية أنثوية أو بفنية روائية هي فنية أنثوية تسمح بوصف الرواية بها، بل ارتبط هذا السؤال، وكما أعتقد بفعل التعبير نفسه أو بمجيء المرأة إلى الكلام ومن ثم إلى الكتابة. ولئن كان ديكارت قال: أنا أفكر إذن أنا موجود. فإن المرأة قالت: أنا أروي إذن أنا أحيا. حكت شهرزاد لتكون لها ولبنات جنسها الحياة أو لتجعل لذاتها حضوراً وانتماءً في زمنها وفي عالم ذاك الزمن. سلطة الكلام حديثاً توسلت المرأة الكتابة، الروائية بشكل خاص، لتعلن عن معادلة بين أن تكتب وبين أن تحيا، وكان من أبرز من عبر عن هذه المعادلة رواية “أنا أحيا” (1958) لليلى بعلبكي. ففي هذه الرواية يتبوأ الـ أنا الأنثوي سلطة الكلام، وهو إذ يأتي إلى الكتابة إنما ليحكي عن ذاته، وليكون فعل الكتابة ـ في زمن بيروت ـ معادلاً للحياة. أنا أكتب إذن أنا أحيا. حكت شهرزاد لتكون لها ولبنات جنسها الحياة أو لتجعل لذاتها حضوراً وانتماءً في زمنها وفي عالم ذاك الزمن. ترفع المؤلفة القناع الذي يختبئ خلفه، عادة، الراوي، ترفعه عن ذاتها، فالبطلة هي الرواية، وهي هنا الأنثى التي تضع نفسها موضع من يحكي عن ذاته مانحة لهذه الذات حضوراً وهوية انتماء لقيم الحرية والمساواة.. واستعداداً لتحمل عواقب ما قد ينالها في شخصها، المفترض، من أذى جراء تماهيها مع الرواية، وجراء الموقف النقدي الجريء الذي توجهه، هي الأنثى، إلى مختلف مكونات المجتمع الذي تحيل عليه الرواية (الأب، الأم، الأستاذ، الحزب..). ليس السرد في هذه الرواية مجرد توصيف للظلم الذي يقع على الأنثى، أو هو خطاب يدعو إلى تعليم الفتاة وتحريرها مما تعانيه (شأن روايات أخرى لنساء رائدات). ولينا فياض، بطلة الرواية، تمارس فعلاً حريتها: تختار ما تريد من اللباس والعمل، والجلوس في مقهى، والحب... إنها شخصية في زمن بيروت، المدينة التي تعيش نموها الحداثي فيما بعد الاستقلال، والرواية تقدم صورة عما يمكن أن يكون عليه وعي الأنثى بذاتها، في هذا الزمن، مشرعة بذلك حلمها على مستقبل تكون فيه فردية الإنسان، بغض النظر عن جنسه، هي الأساس لكل نهوض، ويكون وعي الفرد بذاته ـ وليس فقط وعي الأنثى ـ وبمسؤولية هذه الذات، هو ما يكون وعي الناس في المجتمع، ويسم هوية انتمائهم إلى وطنهم. نحن إذن أمام رواية تشكل نقلة نوعية في منظورها الفكري. الـ أنا الأنثوي هو أنا فاعل وأساسي في توليد دلالات الرواية، ومع هذا يصعب علينا أن نسمي هذه الرواية رواية أنثوية. وذلك لسببين: الأول هو كون الـ أنا تقنية سردية، عامة، وإن عبرت عن معادلة بين الأنثوي والكتابة. والثاني هو أن سؤال الهوية والانتماء في هذه الرواية يندرج في سؤال عام يخص الهوية المجتمعية وإن كانت الأنثى هي الصوت الذي ينطق به. والرواية بهذا المعنى تنتمي إلى هوية ثقافية ـ حضارية في زمن بيروت وتاريخها. مرايا الذات مثال آخر هو رواية “باب الساحة” (1990) لـ سحر خليفة. ففي هذه الرواية توضع الذات الأنثوية أمام مرايا ذاتها، لا لتعكسها، بل لتتعرف عليها وذلك في حوار نقدي يجري بين شخصيات الرواية مما يجعل هذه الذات الأنثوية تتمظهر كوضعية اجتماعية في شخصيات متعددة، ومتنوعة في تعددها (ذكور، فقراء، أثرياء، أميون، متعلمون...). تشتغل هذه الشخصيات، وبالعلاقات فيما بينها، على إنتاج وعي معرفي مناقض للوعي السائد، وبما هو، هذا الوعي السائد، وعي ذكوري مهيمن يتمثل في اعتبار الزوج، وحسب الرواية، تاجاً على رأس المرأة (ص 161)، وستراً لعورتها (ص 180). هو السائس وهي الدابة (ص 161)، وهو من يحكم ويحاكم، وبيده، أي بالضرب (ص 43). يظل الرجل “رجلاً محترماً له اعتباره ومركزه الوطيد” مهما ارتكب من أخطاء (ص 159)، أما هي فتقتل في الشبهة ويلاحق العار ابنتها (نزهة في الرواية). هذا الوعي الذكوري يتقاطع، حسب الرواية، مع وعي إيماني سائد (غير علمي) ويكرس موقعاً دونياً للمرأة في المجتمع. وعليه فإن سؤال الهوية، للذات الأنثوية، مطروح في الرواية على مستوى هذا الوعي المجتمعي، بصفته الثقافية، والذي يشكل المعنى العميق للرواية ويترك أثره على هويتها الفنية. ودعماً لما أقدم، أشير إلى رواية “أهل الهوى” (1993) لـ هدى بركات. ففي هذه الرواية تذهب المؤلفة عميقاً في فهمها لمسألة الهوية الأنثوية، أو للسؤال الذي يخص هذه الهوية. لا تتكلم المرأة في هذه الرواية التي تكتبها امرأة. الرجل هو الذي يأخذ الكلام كله ليتعرف على ذاته. وهو لا يفعل إلا بجنونه، أي بخروجه على القاعدة (السائد، أو العام) إذ ذاك يدرك أن ذكورته مسكونة بالأنوثة. هي (الأنثى)، المتماهية بذاتها XX، شيء منها فيه يمزقه، يملأ فراغ جسمه. إنه علامة شقائه، ومصدر ظنه بأنه لم يقتلها، بل لا يستطيع قتلها. بالجنون المتمثل في العلاقة بالمختلف، يخرج الرجل على القاعدة، يرى المرأة اختلافاً لكنه فيه، ويراه فيه مثيلاً إنسانياً، تنتصب الأنوثة روحاً داخل المجنون وخارج فعله الذي هو القتل. تبدو رواية “أهل الهوى” رواية عذاب القاعدة في العلاقات المتشابكة بين الذكورة والأنوثة، بين قتل الآخر والحاجة إليه، بين التمترس في الـ أنا المعترف فقط بالشبيه (الذكوري) والرفض للآخر (الأنثوي) الممزق بعشقه له فيه (أي عشق الذكوري للأنثوي الموجود فيه YX). وعليه يصعب اعتبار هذه الرواية رواية أنثوية كونها مبنية على الاختلاف الذي عليه، أي على الاختلاف، يطرح سؤال الهوية حتى بصفته الأنثوية. التضاد والاختلاف تأخذ عالية ممدوح بمفهوم الاختلاف في روايتها “الولع” (1995)، لكن بدل الجنون، جنون الذكر وعذاباته، يتركز السرد على الآلام التي هي، وحسب إحدى شخصيات الرواية، حاجتنا ـ نحن النساء ـ وذلك “كي يزداد تكيفاً مع الوجود والعالم والكون والآخرين”. (ص 5) الألم في هذه الرواية واع، وربما ضروري! إنه ألم وجودي لصيانة الاختلاف الأنثوي المهان في الآخر، الألم هو للحرص على هذا الاختلاف، بل للسمو به إلى ما لا يسمو، ولا يستطيع أن يسمو إليه الذكر. تؤكد هذه الرواية الانتماء الأنثوي، أو الهوية الأنثوية، لا على أساس التضاد، بل على أساس الاختلاف، الاختلاف الذي يأبى أن تتماهى المرأة مع الرجل، والذي يرفض، في الآن نفسه، قمعه لها، أو القبول بمعيار القيمة الدوني. ترتقي المرأة، في هذه الرواية، بجسدها الكتابي فوق علاقات الغيرة بين نساء يجمع بينهن رجل واحد، دون أن تتخلى عن أنوثتها. ربما لأن الجسد الأنثوي يتسع، شأن الإبداع ـ وحسب الرواية ـ للاختلاف، لآخر، هو عطاء هذا الجسد الأنثوي، يحتضنه ثم يلفظه لتكون له الحياة. هكذا يتعزز سؤال انتماء الذات الأنثوية في مسار السرد، هذه الروايات، باتجاه أن تكون هذه الذات، اختلافها، جسدها وقد صار قرين الكتابة والإبداع، الأبداع الذي يثري الرواية العربية، فنياً، وينوع على السؤال الخاص بمعناه العميق. (الذي قد يكون هذا السؤال عن الذات الأنثوية). هذا الإثراء الفني، القائم على التجريب، نجد له مثالاً، إضافة إلى ما قدمناه، في رواية “مريم الحكايا” (2002) لعلوية صبح، فلقد بنت الكاتبة روايتها هذه وفق قواعد وتقنيات تحيل على تراثنا السردي العربي (ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، بشكل خاص)، لتحتفل بالثقافة الشفوية، بالحكايات، ولتقول لنا على لسان الراوية، بأن الشفوي، أي ما ترويه مريم، الأنثى، هو نثر الحياة. أي روايتها. تروي مريم دون مرجعية ثقافية مكتوبة، تأتي بالشفوي المنطوق، وحده، إلى الرواية، كأنها تقول: الرواية هي سرد الحياة كما يعيشها الناس، الناس الكثر، القادمون، كما تاريخهم، من حضارة الأطراف والهامش، إلى حضارة المدن والمتون. الناس الذين تشوه وعيهم، كما تاريخهم. كأن الشفوي، أي ما ترويه مريم الأنثى هو كتابة من جديد، كي يصير لها “اسم ووجه وذكريات، بين الأسماء الكثيرة”، ولتعثر على “أسمائنا الكثيرة وذكرياتنا” و”لتجد ما يؤكد أنها على قيد الحياة، أو بين المفقودين في الحرب، أو بعدها” (ص 426). كأن علوية صبح، المؤلفة، تود أن تشير إلى كتابة روائية، تُكتب من الكتابة، وتفقدنا بذلك، لا فقط كإناث بل كأفراد مجتمع، أسماءنا، ووجوهنا، وذكرياتنا، أي حقيقة هويتنا. الأمر الذي يجعل روايتها تتجاوز سمتها الأنثوية إلى سمة فنية تخص الرواية العربية وثقافتها. الروائية الخليجية وقد تسألون/ تسألن: أين هي الرواية الخليجية أو الإماراتية؟ وهذا حق لكم/ لكن عليّ أنا ضيفتكم. والواقع أنا أتابع هذا النتاج بفضول وفرح وقد أفردت لبعضه القسم الأخير من محاضرتي هذه باعتبار تاريخ نتاجه الذي يلي صدور الروايات التي تناولتها في هذه المحاضرة. بداية يمكن القول إن سؤال الهوية في الرواية الخليجية، يندرج غالباً في مسار التطور التاريخي لهذه البلدان، وكأن سؤال الهوية الذي تطرحه الأنثى على ذاتها هو، في الآن نفسه، سؤال هذا التطور، أو كأن الأنثى تبلور سؤالها عن هويتها فيما هي تشهد تحولات وطنها وتسعى ليكون لها حضور فيه، أو لتحقق ذاتها على قاعدة هذه التطورات. ذلك أن تطور المجتمع تعليمياً وثقافياً وحضارياً يترك أثره على الموقف من الأنثى وبالتالي على حضورها ذاتياً في النسيج الاجتماعي ومشاركتها في صياغته، مما يبرز أهمية السؤال عن معنى الهوية ويدفع بالأنثى إلى طرحه. وفي روايتها “الحياة كما هي” (2011) تتوسل ظبية خميس أسلوب السيرة، لتروي عن مسار طويل تنوعت فيه الأمكنة، والثقافات، وسمح لها بلقاء رجال مختلفين في الوعي والتفكير، وفي الموقف من المرأة. كأنها بذلك تعبر عن انتقالها من محيطها إلى عالم أتاح لها إمكانية النظر في ذاتها وبالتالي التعبير عن هويتها كانتماء إلى هذا العالم. تخرج الأنثى من الغرف الضيقة، أو من نطاق العالم الضيق، عالم الأهل، أو العائلة، تتحرر من إلزامها بالعمل الروتيني، عمل الخدمة في البيت.. والعيش فقط للآخر (الذكر وتحت سلطته) (ص 67). تسعى مهرة لامتلاك جسدها كي تتملك ذاتها، وتشعر بانتمائها السوي، إلى أنوثتها، وكي تكون لها بذلك هويتها كإنسانة (ص 194) تشعر مهرة بحلاوة هذا الانتماء الذي هو، في الآن نفسه، انتماء إلى عالم واسع تشارك في صنعه. تقول: “إنني أعيد خلق عالمي” (ص 200). من هذا الموقع، موقع امتلاك الذات لذاتها، تبادر إلى الحب، وتصوغ هويتها على أساس التكافؤ في العلاقة وحرية الاختيار، وعلى قاعدة الصدق والصراحة المتبادلين (ص 254). كأن الكاتبة في هذه الرواية، تود أن تقول بأن الهوية لا تتحدد، أو تُعرف، بالبيولوجي، أي فقط بأنوثتها، وكما هي في المنظور الذكوري، بل بحضورها، هي الأنثى، في العالم الذي تمارس فيه بحرية حضورها الذاتي. ومن منطلق هذا المنظور الذي ينتقل بالمرأة من زمن ومن محيط إلى آخر، تفسح خوجة الحارثي في روايتها “سيدات القمر” (2010) مجالاً لتعدد الأصوات، وتحتفل بالعشق الذي تعانيه الأنثى كما يعانيه الذكر. وهي بذلك تحيل وضعية اجتماعية، الأب فيها هو السلطة، والتمييز العرقي هو ما يحول دون امتلاك الأنثى (نجية العبدة) لذاتها. يقول عزان الذي يعشق، في السر، نجية: “أنا خائف يا قاضي يوسف، أنا خائف (...) وأنا لا أرى يا قاضي يوسف، لا أرى” (ص 165). عالم هذه الرواية هو بلدة “العوافي”، عالم يتحول بكل مكوناته في زمن انفتاحه على الخارج، يتحول ثقافياً وحضارياً، وليست الأنثى سوى جزء من هذا العالم، تطرح سؤال هويتها على مستوى جسدها الأنثوي بما يعنيه من أمومة، وما يحيط به من تقاليد تحتفل بخصوصيته الأنثوية. إلا أن هذه الأنثى تؤكد، في الآن نفسه، على حرية جسدها في العشق، العشق الذي لا يعني تملك الذكر لجسدها كونه أنثوياً. ولعل اللافت في هذه الرواية هو أن مثال هذا التحرر، أو سؤال الهوية المطروح على مستوى الجسد يتمثل في نجية، المرأة العبدة، التي تمتلك هويتها على مستوى جسدها لتبقى بلا هوية على مستوى انتمائها إلى مجتمع لا يعترف بها كإنسانة. الخضوع والجرأة بالمقابل نجد، مثلاً، المواطنة الكويتية، ناديا، بطلة رواية ليلى العثمان “صمت الفراشات” (2007)، نجدها تنتقل بقدراتها الشخصية، إلى حد كبير، من خضوعها شبه المطلق لإرادة أبويها، ولتسلط الرجل العجوز الذي أكرهت (من قبل والديها) على الزواج منه لثرائه.. تنتقل إلى امرأة متحررة، تسكن وحدها، وتتحمل مسؤولية التصرف بشؤونها، بعد أن خرجت للعمل في الحقل العام. تفك ناديا، كما تقول، عقدة لسانها، تقول لأمها: “هذا شأني الخاص ولا أسمح لأحد بالتدخل فيه” (264) أو “يا ماما هذه حياتي ومستقبلي...” (ص 264). تتحرر بطلة رواية “صمت الفراشات”، تكسر قيود الفوارق العرقية بذاتها (وليس عن طريق نجية العبدة)، تتجرأ، هي نفسها، على حب العبد الذي كان يغتصبها نيابة عن زوجها العاجز، ويبدو تحرر المرأة هنا، معادلاً لانتمائها لذاتها، وتعبيراً عن إعلانها لهويتها الأنثوية بصفتها هوية مستعادة. تتنوع طروحات سؤال الهوية في الروايات التي تكتبها المرأة الخليجية، ولكنه بالعام، سؤال يرتبط، غالباً، بوضعية اجتماعية، تاريخية، أي بتحولات عرفتها هذه المنطقة العربية مؤخراً، خاصة الإمارات، فرواية سارة الجروان “طروس إلى مولاي السلطان، الكتاب الأول” (2009) هي مثال بارز للرواية التي تحتفل بالمكان والزمان ما يجعل سؤال الهوية لدى الأنثى ينوس في تفاصيل الحكاية، وقد يتبدد في مسار هذا التحرك المجتمعي الشمولي. وعلى خلفية ارتباط سؤال الهوية في الرواية الخليجية بالوضعية الاجتماعية، تبرز رواية “بنات الرياض” (2005) لرجاء عبدالله الصانع التي عرفت رواجاً ملحوظاً. ذلك أن سؤال الهوية لا يطرح في هذه الرواية بشكل مباشر، بل من خلال الموقف النقدي المضمر في روية تتناول عالم النساء، وما فيه من أسرار. هذا الموقف النقدي هو بمثابة تعرية لعالم شبه مغلق على ذاته. عالم تتبدد فيه الهوية، أو تحتجب، قابعة فيه بلا سؤال. أخلص إلى القول بأنه يصعب علينا اعتبار مثل هذه الروايات، على تنوعها واختلافها، وتفاوت تميزها الفني... روايات أنثوية. ذلك أنها، وبالنظر إلى بُنى متخيلها الروائي، تندرج إما في روايات التجريب، أو تمثل إلى أن تكون رواية حداثية (تتوسل وسائل الاتصال الحديثة وتعتمد التقطيع، الرسائل الإلكترونية... وتعدد الأصوات، والحوارية...).. وإما أنها أقرب إلى الرواية التاريخية، أو ما نسميه: السيرة الذاتية الروائية. فالرواية كما سبق وذكرت في بداية هذه المحاضرة، تُعرف بهويتها الفنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©