الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الباحثون عن الوفاء

الباحثون عن الوفاء
15 يوليو 2010 20:27
يذكر أن الخنساء، ابتليت في الجاهلية بقتل أخيها صخر، فبكت عليه بكاء شديدا حتى كاد أن يذهب بصرها، ثم من الله عليها بالإسلام، فشوهدت ذات يوم تبكي وتذكر أخاها، وعندما سألها الناس عن ذلك قالت: كنت أبكيه في الجاهلية لفراقه، واليوم أبكيه لأنه مات على غير دين الإسلام، وتذهب القصة، وتبقى العبرة التي تكمن في تلك العملة النادرة، والقيمة الثمينة التي يبحث عنها الإنسان في عالم اليوم، وهي قيمة الوفاء. تلك القيمة التي ترسخ بوجودها أن الخير لا يزال موجوداً في دنيا الناس، والتي لأجلها رأت الخنساء أن من حقوق الأخوة أن ترى أخاها يرتع معها في الجنة، فلما مات الأخ كافرا بكته وفاء لحقه، ولا غرابة في ذلك، فالوفاء خلق وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه فقال «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله» التوبة 111 ولعلنا نلحظ في هذه الآية أمرين: الأول أن الوفاء خلق من أخلاق الله، ومن ثم فينبغي على المسلم أن يتأسى بما وصف الله به نفسه وذاته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «تخلقوا بأخلاق الله» . الثاني أن الوفاء خلق منصوص عليه في التوراة والإنجيل والقرآن، مما يدل على أهميته في المجتمعات البشرية على مر العصور. أضف إلى ذلك أن أنبياء الله ورسوله عليهم السلام قد تأسوا بما وصف الله به نفسه وذاته، فتخلقوا بأخلاق الله، فكان الوفاء لهم شرعة ومنهاجا، يقول سبحانه في وصف خليله إبراهيم عليه السلام «وإبراهيم الذي وفى» النجم 39 . فمدحه الله بهذا الوصف، وبهذا الخلق الطيب لأنه عليه السلام لم يعهد إلى أحد عهدا إلا وفى به. ومن أمثلة ذلك أن إبراهيم عليه السلام عهد إلى أبيه أن يستغفر له كما حكى القرآن الكريم «قال سلام عليك سأستغفر لك ربي» مريم 47 . فوفى بعهده معه، واستغفر له كما وعده، بيد أنه لن يغفر الله له، فعلم أنه «ليس للإنسان إلا ما سعى» النجم 39. وبمثل هذا الثناء تأسى الولد بوالده، فكان إسماعيل عليه السلام من الموفين بالعهود، يقول سبحانه «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا» مريم 54 وقد وعد إسماعيل أباه أن يصبر على ذبحه تصديقا لرؤياه، فوفى لوالده بما وعد، فشرفه الحق سبحانه وتعالى بالنبوة والرسالة جزاء وفاقا على وفائه بوعده . أضف إلى ذلك أن الوفاء بالوعد من صفات أولى الألباب والنهى، يقول سبحانه «إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق» الرعد 19 – 20 . وإذا أتينا إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نجد الوفاء بالعهد مظهرا من مظاهرها، فقد كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا الخلق النبيل في كل لحظة من لحظات حياته، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم اختار في يوم الفتح مكاناً إلى جوار قبر السيدة خديجة ليشرف منه على فتح مكة، وليقيم فيه قبة ضربت له هناك، تؤنسه روح خديجة، ثم تصحبه من بعد الفتح وهو يطوف بالكعبة ويحطم أصنامها، ولا غرو فخديجة هي التي صحبته في أيام المحنة عند الجهر بالدعوة، فمن الوفاء إليها أن يتذكرها عند المنحة، وقد من الله عليه فدخل المسجد الحرام وفتح الله عليه مكة، وأذعن له أهلها. ويذكر القاضي عياض في الشفاء أن الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاعة لما جيء بها في سبايا هوازن، وتعرفت له، بسط رداءه، وقال (إن أحببت أقمت عندي مكرمة محببة، أو متعتك ورجعت إلى قومك، فاختارت قومها فمتعها، فكان صنيعه صلى الله عليه وسلم بها من باب الوفاء لها ولأمها. وللوفاء أنواع منها: وفاء مع الله تعالى، ووفاء مع الناس، ووفاء مع النفس؛ أما الوفاء مع الله فيتمثل في الإذعان له سبحانه بالعبودية، والإقرار له بالربوبية، يقول سبحانه «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون» الذاريات 56-57. وأما الوفاء مع الناس فيتمثل في أمور كثيرة منها: أن يفي الإنسان بعهد أقرب الناس إليه وهما والداه، وذلك بطاعتهما في حياتهما، والدعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما وصلة رحمهما، وإكرام صديقهما بعد موتهما. ويشمل كذلك الوفاء بحقوق الزوجة التي حلت منه محل النفس بالبدن، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن حبان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم». ويندرج في هذا النوع الوفاء بالعهود بين الدول في المعاهدات والمصالحات، فيروي الإمام البخاري في صحيحه أن الإمام على رضوان الله عليه كان يكتب شروط صلح الحديبية، وكان مندوب قريش في الصلح (سهيل بن عمر) فإذا بابنه أبي جندل بن سهيل يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الالتحاق بالمسلمين، فقام سهيل إلى ابنه يضرب وجهه، وأخذ بتلابيبه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، فقال النبي صلى لله عليه وسلم: صدقت. فجعل سهيل يجر ابنه ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعلا لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم». أما الوفاء مع النفس فيكون بالحرص عليها، والنجاة بها من موارد الهلكة في الدنيا والآخرة، مما يستدعى محاسبتها لمنعها على الشر، وحثها على عمل الخير، وهذه شيمة أهل الإيمان الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم «يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» الحشر 18. من أجل هذا كتب عمر بن الخطاب إلى أحد عماله يقول له: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة. وهكذا يوقن الإنسان أن محاسبته لنفسه نوع من أنواع الوفاء لها لأنه يعلم أن هذه المحاسبة تجعل الأعمال الصالحة له زاداً، وتجعل بينه وبين الذنوب والمعاصي ستراً وحجاباً. د. محمد عبدالرحيم البيومي أستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©