الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ربيع سريع

ربيع سريع
23 أكتوبر 2008 00:44
لا أعرف كيف تكون الغنائية، كما يزعم البعض، عيبًا فادحًا فى شعر درويش، فهي في هذا الشعر الذي ينسب إليها مثل الحمرة العاطرة في الورد· لا يمكن أن يخلو منها الشعر وإن احتوى إلى جانبها بعض العناصر الدرامية أو الملحمية· أما الذي قد يخلو من الغنائية فهو لا يعدو في أفضل أشكاله أن يكون لونًا من السرد النثري· درويش يزاوج بين الغناء والحكي، بين الدراما والملحمة، بين الشعر والنثر خاصة في ''أثر الفراشة''، حيث يمسك بناي الغناء الشجي عندما يعود لاستقطار الإيقاعات العمودية في مثل قوله: مرّ الربيع سريعًا/ مثل خاطرةٍ طارت من البال/ قال الشاعر القلقُ في البدء أعجبه إيقاعه/ فمشى سطرًا فسطرًا/ لعل الشكل ينبثقُ وقال: قافيةٌ أخرى/ تساعدني على الغناء/ فيصفو القلب، والأفقُ الغريب أن القلق يظل هو الصفة الدالة الملازمة للشاعر عند درويش منذ أن احتفظ من المتنبي بشطرة بيت جعلها شعارًا لأحد دواوينه تقول: ''على قلق كأن الريح تحتي''· فإذا افتقد الشاعر القلق وركن إلى الدعة والاطمئنان، فعليه أن يودع عالم الشعر برمته هذه الأبيات الثلاثة، بالإحصاء العمودي، والتي تقع في عشرة سطور موزعة تمثل بامتياز حالة الكتابة الشعرية، فهى تبدأ باقتناص الإيقاع الذى ينبثق من شكل القصيدة، كما تنبثق القصة عادة من مشهد بصري محدد· كما أن القافية - وهي الحسناء المرصودة المتأبية المهجورة لعنادها عند شعراء الحداثة - هي في حقيقة الشعر أداة لتنظيم تدفقه وتنمية إيقاعاته وتلوين مادته اللغوية بصور موسيقية فاتنة· وهي فوق ذلك كله ضابط إيقاع الغناء لصفو الروح والفضاء· مرّ الربيع بنا/ لم ينتظر أحدا لم تنتظرنا ''عصا الراعي''/ ولا الحبقُ غنى ولم يجد المعنى/ وأطربه إيقاع أغنية/ ضاقت بها الطرقُ وقال: قد يولد المعنى/ مصادفة ود يكون ربيعي ·· ذلك القلق أن يقترن الربيع بالغناء منذ عصر الرعاة حتى اليوم فهذا من لوازم الطبيعة والفن والجمال، لكن السرعة الخاطفة التي تختزله في لحظات بارقة تمر كالخاطرة الشاردة هي السمة المميزة لفقر العالم وخلوه من المعنى في منظور درويش· ما يبقى من الزمن إنما هو هذا الإيقاع المتسارع الذي تضيق به الطرق، أما مضمون هذا النغم الشرود فقد يولد بالمصادفة، وقد لا يكون في حقيقة سوى هذا القلق الذي يمثل جوهر الشعر ولب الوجود في آن واحد· هل لنا أن نلتمس علاقة وثيقة بين هذه التجربة المستبطنة لانتظام إيقاع الزمن وسرعة دورانه وخلوه من حتمية الدلالة، والإطار العمودي اللعوب في توزيع الكلمات على السطور الذي اختاره درويش، أو لقيه مصادفة مثل المعنى الذي يأتي بضربة نرد مشاكلة للحياة ذاتها؟ بعبارة أخرى: هل فرض الوعي الميتافيزيقي بالرؤية الكلية للشاعر هذا النظام على كلماته، بحيث انبثق الشكل الشعري من جوهر التجربة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©