السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثيمة الغياب في شعر درويش

ثيمة الغياب في شعر درويش
23 أكتوبر 2008 00:44
''لقد ناضلنا ضدك أيها القدر، ضد هجماتك السريّة الكاسرة، والمعلنة· لكن حين يأتي موعدُ رحيلنا، سنمضي باصقين على هذا العالم مرددّين أنشودة نصر مجيد: لقد عشنا حياةً طيّبة''· أبيقور إلى أي مدى تتلاشى الحدود والبداهات في هذه الحقيقة الإبداعية الملتبسة، ان الشاعر الأكثر حضوراً في الجماهير والقضيّة والأكثر احتشاداً وغناءً بالمعنى الملحميّ النبيل، هو الشاعر المجبول في عمق كيانه وصميم صنيعه الإبداعي، على الغياب والموت والتلاشي، من: ''خديجة لا تغلقي الباب لا تدخلي في الغياب'' وأيضاً: ''مطر ناعم في خريف بعيد والعصافير زرقاء، زرقاء والأرض عيد· لا تقولي أنا غيمة في المطار فأنا لا أريد من بلادي التي سقطت من زجاج القطار غير منديل أمي وأسباب موت جديد'' البلاد/ الأم منذ تلك الفترة المبكرة محاطة بهالة السقوط بالمعنى التراجيدي وأطياف الموت المتطاولة·· الغياب والموت يهيمنان على روح الشاعر الكبير ولُبِّ وجوده كثيمة أصيلة استمرت وتعمّقت في عالمه الشعري والحياتي فرداً وجماعة، حيث الفلسطيني الذي وُلد من صدمة الغياب والموت وانتشر بأرجاء الأرض في رحلة تِيهٍ وبحثٍ عن ضوء العودة الشحيح، إلى أرضه الأولى التي اقتُلع منها عنوةً وقسراً وبأسلحة الحضارة الحديثة وقيمها وإنجازاتها، وبأسلحة الاخوة وأبناء العم، والسلالة بكل معانيها، وأبناء القضية الواحدة والخندق الواحد· الفلسطيني الأعزل المشرد لا يجد ما يسند كيانه الذي تفترسه الضواري والوحوش من كل حدْب وصوب، إلا ذلك الحلم العصي البعيد، ما زال يتسلل من نوافذ مغلقة وآفاق مدلهمة· تستمر هذه الثيمة في شعر محمود درويش، حتى أعماله الأخيرة حتى ''الجدارية'' وما بعدها، دافعاً بها إلى فضاءات تعبيريّة قل مثيلها في الثراء والدلالة والسطوع المأساوي·· الشعر الذي يقيم مضاربَه وسُكناه على أرض الخطر والهواجس التدميريّة، على صحراء القسوة والموت الزاحف لا محالة، والفناء· وذلك الإحساس العبثي الذي يصل حدَّ العَدَم العاتي إزاء الوجود برمته، ما أخصب شعريته بحشد المعاني والدلالات المتناقضة المتصادمة في ظاهرها كونه شاعر الانبعاث والثورة، لكن في العمق أعطى هذا الإحساس غنى التجربة واتساعها، أعطاها بعدها الجوهري الكبير· منذ بداياته المبكّرة على تلك الأرض التي ستتحوّل لاحقاً إلى رمز لغياب أزليّ أصيل للكائن في كل زمان ومكان وتفيض عن شرطها التاريخي العاتي والمحدّد - وحتى ''الجداريّة'' وما تلاها من أعمال شكّلت مرحلة حاسمة في تاريخ الشعريّة العربيّة قاطبة· على تلك البقعة الصغيرة الخضراء من أرض البشر، ظل الحنين يكبر ويحشد أدواته وقواه الخلاّقة عبر ذلك الخيال الشعري الذي بقدرته المدهشة يحوّل ما لا يتحول قاذفاً به إلى قفار وعوالم غير مسبوقة ليبني أسطورته الخاصة المشتبكة والموازية والمتماهية مع أسطورة الوطن السليب··
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©