الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أطلال ليلة مقمرة

15 يناير 2014 21:50
يا فؤادي لا تسل أين الهوى كان صرحاً من خيالٍ فهوى اسقني واشرب على أطلاله واروِ عني طالما الدمع روى كيف ذاك الحب أمسى خبراً وحديثـاً من أحاديث الجوى كان مشغل الأسطوانات (بيك أب) في صالون منزلنا الصغير يصدح بهذه الأغنية و مثيلاتها كثيراً. حالة الإنصات و الطرب التي يصل لها الكبار حولي تُدخلني في حالة تجلي طربيّة مثلهم بالرغم من أنني لا أفهم شيئاً من الكلمات التي تُقال، فقط الجمل الموسيقية تبقى على لساني أهمهم بها أثناء لعبي... وقبل نومي ربما. فجأة، اختفى (البيك أب)، و إطارات الصور التي كانت بجواره على رف خشبي زينته أمي بزهور من خيوط الصوف، ذات تدرج لوني ناعم غزلتها بنفسها، اصبحت خالية من صور العائلة المختلفة. همهماتي المُخلة بوزن الجمل الموسيقية تلاشت هي الأخرى مع تكرار نهر والدتي لي كلما سمعَتها تعلو في محيطي. بدا الرفّ الخشبي حزيناً و كذلك صوتي!. اختفى صوتي، ولكن عينيّ أصبحتا أكثر نهماً وهما تقلبان، كلما تسنى لهما، كتاباً يخفيه باستمرار شقيقي الأكبر في خزانة حديدية بجوار الرف الخشبي، محكمة بقفل أصفر يحمل مفتاحه معه دائماً كلما غادر المنزل. كانت كلمة “الأطلال” المكتوبة بلون بني على خلفية فاتحة هي مفتاح الفضول. فهي نفس الكلمة التي على الأسطوانة التي اختفت مع (البيك الأب) الذي كان تحت الرف الخشبي الحزين. كنت أقلب الصفحات أبحث عن أي دلالة تخبرني لم الأسطوانات اختفت، و الصور أُحرقت في تنور اسعرته أمي بتشفٍ، و لماذا الخزانة الحديدية الزرقاء ذات المرآة على شكل قلب يُغلقها أخي بوجل!؟ لسـت أنساك وقد أغريتني بفـمٍ عذب المنـاداة رقيـق ويـدٍ تمتد نحـوي كـيـدٍ من خلال الموج مدّت لغريق وبريقٍ يظمأ الســاري له أين في عينيك ذيّـاك البريق وضعت تحت هذا الأبيات خطاً بقلمي الرصاص. كان الخط مهتزاً، كأنه يلتفت خلفه خائفاً أن يُوقفه أحد – أمي مثلاً – من الانطلاق بحرية على بياض الأوراق. تضايقت من اهتزاز الخط، أفسد علي في الواقع فرحة انتصاري بأني وجدت الأسطر المتسببة في اختفاء (البيك أب) واسطواناته والصور وفي حزن الرف الخشبي و وجل الخزانة الحديدية وصوتي. تلقائياً مزقت الصفحة و خبأتها في الجيب الأمامي (لبجامتي) الصفراء المزينة بنجوم و أهله زرقاء صغيرة. قرأتها مرة أولى وثانية و عاشرة، وكل مرة أتوقف عند هذه الأبيات و أهز رأسي بيقين من أنها السبب خاصة: “ويد تمتد نحوي كيدٍ من خلال الموج مُدّت لغريق”. أحدث نفسي: نعم إنها السبب في اللون الرمادي الذي صبغ منزلنا منذ أشهر، فيد أمي امتدت بين الموج لتنقذ الغريق ولم تستطع، مات!، و الأغنية تذكرها بعجزها و خسارتها، بدموعنا وصراخنا، همهماتي قد تبدو لها صُراخ الموج وهو يخطف الغريق من أمامها. لم أهتم بعدها بحزن الرفّ الخشبي، ولم أتلصص على أسرار خوف الخزانة الحديدية الزرقاء. لكن الورقة التي أصبح لونها أغمق قليلاً من لون (بيجامتي) التي خبأتها فيها أول مرة كانت تتنقل معي من مخبأ لآخر. قراءة الأبيات تُحافظ على رتم الإيقاع الموسيقي في ذهني و أعود أهمهم بها مُجدداً طيلة عشر سنوات. يا حبيباً زرت يومــاً أيكه طائر الشــوق أغني ألمي لك إبطـــاء المدل المنعم وتجني القـــادر المحتكم وحنيني لك يكـوي أضلعي والثـواني جمرات في دمي أعطني حريتي أطلـق يديّا إنني أعطيت ما استبقيت شيئا آه من قيـدك أدمى معصمي لم أبقِه ومــا أبقى عليّـا ما احتفاظي بعهود لم تصنها وإلام الأسـر والدنيا لديَّ ؟! في العشرين، وضعت الورقة العتيقة بداخل أخرى زهرية اللون تعمدت أن أضع عليها قطرات من عطر تكاد قنينته تفرغ مما فيها. قطرات العطر محت بعض الأحرف ولكن الفكرة مازالت واضحة في محتواها. دسست الورقتين المغلفتين بإحكام بين حجرين كبيرين بالقرب من مدخل المبنى الذي نسكنه. كانت تفاصيل الرسالة الزهرية مكتوبة بجدية موجهة لخالد ابن الجار الذي يسكن على بعد شارعين من شقتنا في المبنى الأبيض ذو الأدوار الأربعة. والد خالد يعمل في أحد المتاجر و لديه سبع فتيات شقيقات لخالد. كنت أظن في البدء أن تحذير أمي لنا من اللعب مع بناته أو المرور بمنزله في طريق العودة من المدرسة كان بسبب لون بشرتهم السمراء. لكن حينما كنت أغطي وجهي تفادياً لكف أمي التي انهالت عليّ و شقيقتي بعدما حضرنا خلسة احتفالاً يضج بالضحك والغناء في فناء منزلهم، سمعتها تكرر أن كيف ندخل منزل يوجد فيه “فيديو و استريو أغاني” و “منزل صاحبه يعمل في محل لبيع أشرطة الغناء” و “ابن مدلل يمني الجنسية”. افزعني أنها قالت ألا تعلمون أنهم (اليمنيون) لديهم عضوين تحت ملابسهم يجعل ملاحقة الفتيات هدفهم”. وضعت الرسالة لخالد بعد مُضي أكثر من خمس سنوات على قصة العضوين هذه، حذرته فيها من أي محاولة للتحرش بي لقاء موافقتي لزيارة “أيكِه”، و إلا فضحت أمر عضويه بين بنات الجيران و حتماً سيفسد هذا السر الذي استأثر بمعرفته وأختي، سيفسد جاذبيته السمراء في الحي. ذكرته أيضاً بطلبي الذي يدفعني لهذه الزيارة، و لأيكه مضيت. أين من عيني حبيب ســاحر فيه عز وجلال وحيـــاء واثق الخطــوة يمشي ملكـاً ظالم الحسن شهي الكبرياء عبق السـحر كأنفاس الربى ساهم الطرف كأحلام المساء أين مني مجلس أنت به فتنــة تمت ســــناء وسنى وأنـــا حب وقلب هائــم وفراش حائـر منك دنــا ومن الشـــوق رســول بيننا ونديم قدم الكأس لنـا هل رأى الحب سـكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنــا ومشـــــينا في طريق مقمر تثب الفرحة فيه قبلنـا وضحكنـا ضحك طفلين معــــاً وعدونا فسبقنا ظلنـا كان جبينه الأسمر يتعرق تحت ضوء المصباح المُضاء في غرفته التي توجد في ملحق المنزل الخالي من عائلته التي ذهبت لليمن في ذلك الصيف. من النافذة المشرعة في إحدى جهات الغرفة استطيع أن أرى العمارة البيضاء ذات الطوابق الأربعة التي فيها شقتنا. رفضت أن أنزع غطاء و جهي، فرفض أن يناولني الغرض الذي اتيت من أجله. كنت أريده أن ينزعه هو، أردت أن يقارن لوني بلونه مثلاً أو حتى يمسح التعرق الذي شاركته فيه من على جبيني. تسمر قليلاً بعدما أزحت الغطاء أخيراً، ثم أخرج “الكاسيت” الأبيض الصغير من جيب ثوبه. تناولته بلهفة و قرأت اسم “الأطلال” عليه و شعرت بالرضا. أخذ الشريط من يدي و قال: هيّا نسمعها معاً. رفضت لأني أريد أن أعود قبل عودة أمي من عند جارتنا في الشارع نفسه. “عشر دقائق، اسمعي معي مقطعاً واحداً فقط “، قالها، و أومأت برأسي موافقة. جلسنا بالقرب من السماعة اليمنى للمسجل الأسود الكبير في ركن غرفته، يمرر الأغنية للأمام و يتوقف ليختار البداية التي يُريد، توقف عند هذا المقطع، لم يخيل لي أن هذه الأبيات موجودة ضمن الورقة المنزوعة من الكتاب الذي كان في الخزانة الحديدية الزرقاء و التي كنت أظنها السبب في اختفاء مشغل الأسطوانات و فراغ إطارات الصور و حزن الرف الخشبي. طلبته أن يُكرر المقطع مرة أخرى، لم أركز هذه المرة كثيراً في الأبيات، ولم أهمهم بيني و بين نفسي كالدقائق السابقة، انشغلت بمتابعة عيني خالد حتى أغافله و انظر تحت ثوبه الأبيض جيداً لأتأكد – كما وصتني أختي التي تُغطي غيابي – لأتأكد هل هناك فعلاً عضو آخر؟! وانتبهنا بعد ما زال الرحيـق وأفقنـا ليت أنّا لا نفيــق يقظة طاحت بأحلام الكـرى وتولى الليل والليل صديــق وإذا النـــور نذيـرٌ طالعٌ وإذا الفجر مطلٌ كالحريــق وإذا الدنيــا كما نعرفهـا وإذا الأحباب كلٌّ في طريــق يا حبيبي كل شيءٍ بقضاء مـــا بأيدينا خلقنا تعســاء ربما تجمعنا أقدارنــا ذات يــوم بعد ما عز اللقـــاء فإذا أنكــــر خل خله وتلاقينا لقـــاء الغربــــاء ومضى كل إلى غايتــه لا تقل شئنا فإن الحظَّ شــــاء عشرٌ أُخرى بعد العشرين. القصاصة بادلني خالد بها بالشريط الذي حلمت به كثيراً و الذي أحضره من محل والده لبيع الأشرطة و الأسطوانات الغنائية. الرف الخشبي نُزع من الجدار و وُضع مع الأثاث القديم الذي كان من بينه الخزانة الزرقاء الحديدية ذات المرآه الوحيدة على شكل قلب. الطرقات تضج بعربات الصفيح الفارهة و منها تُسمع أغنيات تُزعج الهمهمات التي تتردد داخلي. الشوارع تنوء بحمل الخطوات و أطلال الذكريات تُطل برأسها من بين المقاهي و تقفز ساخرة على الأرصفة المتسخة بآثار العابرين. أضغط على زر الإعادة في جهاز التحكم عن بعد في السيارة التي تسير ببطء يفرضه عليها زحام هذه المدينة، و أرفع صوت الهمهمات لتُصبح دندنة واضحة كتجلي الطرب في صالون شقتنا القديمة، في العمارة البيضاء، في مدينة على أطراف صحراء بعيدة، تصدح من جهاز تشغيل اسطوانات قديم، يقع فوقه مبتسماً رفّ خشبي، زينته سيدة البيت بزهر غزلته بنفسها من كرات صوفيه ذات ألوان زاهية، و وضعت العائلة عليها إطارات بسيطة، تضم صوراً مختلفة لهم، يتكئ أحدها على خزانة حديدية زرقاء، لها مرآة على شكل قلب. أغني أكثر وانسلخ من ركام الاسفلت الساخن الذي تتمدد فوقه السيارات ببطء، أصعد للسماء أكثر، حيث أنتمي للغيم باتجاه القمر المكتمل بحزن فوق مدينة لا يلاحظه سكانها، بعيداً عن ملح البحر و مرارة الأطلال، أصعد أكثر لأفيق على رسالة نصية تهدم الأطلال و تتساءل: أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدي يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا كنت أستدنيه لكن هبتهُ لما أهابا وأهلّت فرحة القرب به حين استجابا هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا مهجة حرى وقلباً مسه الشوق فذابا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©