الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يعود الشَّعر إلى قارعة الحياة

15 يناير 2014 21:50
تغدو كتابة الشّعر في الألفية الثالثة نوعاً من فكّ رقبة للمعنى وإعادته لقارعة الحياة، فالشّاعر يتخفّف وينسحب لخلف السّتارة ويترك لعرائس المسرح أن تأسر المشاهد/ القارئ. يترك للغة أن تنتج دورتها الإحيائية ليس كما افترضت البنيوية بأنّها تجريد تام بذاته بل وفق رؤية باختين حيثُ اللغة أصوات عديدة وإرساليات وكليشات وبداهات تعيش بيننا، تكتسب وتعطي، تنقص وتكتمل، تُوجد وتموت، تتجلى وفق مشهدية أو تُنحت أو تُرسم أو أيّ شكل آخر، فإعادة التدوير سواء للمصنّع أو الخام تتم بلحظة واحدة تجمع زمكانية الوجود وتقدمها للقارئ كما تقدمتْ للشّاعر قبلاً كقارئ صامت لنصّ الحياة عبر سيرورته وصيرورته أو ككاتب فيما بعد عبر نصّه الصائت الحبري أو المرقون. “قدم في الرمل وقدم في الماء هكذا ينجو الشّعر من موتته الأولى” “لأقيس وهم الأشياء: أدخل قدمي نهر المسافة” “ال التعريف تحيط بالكون كخاتم من حديد” الجمل السّابقة المختَارة من ديوان الشّاعر عاشور الطويبي بعتبة عنوانية “البرقوق لا ينتظر طويلا”، وهي تعتبر مفاتيح دخول لطقس الديوان مع التّنبُه لكلمة “البرقوق” وهي ثمرة سريعة العطب وتحمل إشارة لرواية باتريك زوسكند “العطر” حيث يحاول جان باتيست غرونوي شخصية الرّواية الرئيسية، والذي يملك حاسة شمّ هائلة تكاد تجبّ غيرها من الحواس، أنْ يحتفظ برائحة أنثى تشتغل بثمار البرقوق، لكنّه يقتلها وهكذا تقودنا المفاتيح السابقة لفهم فكرة الديوان، بأن التحصّل على المعنى/ الحياة يكاد يشبه عملية التنفس؛ حيازة بالشهيق وتحرير بالزفير وفي كلتا الحالتين تصبح اللغة آسرة ومحرّرة بنفس الوقت سواء لذاتها أو ذات الشّاعر أو ذات القارئ. الشّبهة والحدود يقول الشّاعر تميم بن مقبل: “ليت الفتى حجر...”، ويتناول ابن الوردي في خريدته الحجارة وبينهما يأتي عاشور الطويبي ليهذب غشيم حجارة ابن الوردي ووجودية الشّاعر تميم فيقول: الحجر الأحمر/ هو مفتاح/ لا دم له ولا نفس/ الأبيض يمدّ الطرق أمامه والمسالك/ إن اسودّ وهب القدرة وكثرة نسل الأحلام/ إن اغبرّ أو اصفرّ أَدلقَ/ من فم الإبريق المحبة/ إن اخضرّ دُكّت النِّصال وفشلت ريحها”... يستعرض الطويبي أحجاراً أخرى متنفساً نحاتها الذي كطلع الخصب، ليستكمل في جملة أخرى وفي نصّ آخر القول: “كنت أصعد التلّ كل مساء/ أُلقي البلاغة فوق حجارة غير مهذبة”، وهذه الجملة من نصّ معنون بـ “ارتجالات شارلي باركر” وهو عازف لموسيقى الجاز من ملوني القارة الأمريكية الذي تعود أصوله لأفريقيا عبر أجداد شُحنوا للعالم الجديد؛ ليصبحوا عبيداً في مزارع اليانكي الأبيض، والجاز الذي يعود بأصوله لموسيقى البلوز والتي تعتبر موسيقى الشجن والحزن للعمال في مزارع القطن وقصب السكر حيثُ كانت للألوان تراتبيتها الوجودية القاهرة. هكذا تتبدى الحياة كحجارة لا تنبو عنها الهموم إلا بقدرة النحّات على إنطاقها وتدويرها في محجر الحجارة اللغوية. الهايكو والكانتا الهايكو ليس قصيدة قصيرة بقدر ما هي حركة تنسيق للزهور كما عبّر عنها الشّاعر والمترجِم محمد عضيمة المقيم في اليابان، فهي لقطة سريعة للحياة، رغم هشاشتها إلا أنّها قد تختزل عمراً قبل أن تذوي كما ثمار البرقوق التي لا تنتظر طويلاً.. ويبدو من طبيعة الحال أن يتضمّن الديوان هذا النّوع من القصائد، فهي تتفق مع روحه وطرحه للقلق الوجودي وكيفية حيازة الوجود وإعتاقه عبر اللغة من جديد، نختار من نصوص الطويبي: “لسانٌ واحدٌ عارياً يجرّ بداياته هكذا ينجو المجاز وهو الميّت أبداً”. “العصا أطول من عمر السمكة الماء في العتمة يتلون” “أغفو في سرير الرائحة برهةً فتسألني: من بعثر في الكون شظايا الشّجن”. البرقوق لا ينتظر طويلاً كما حاولنا في البداية تحديد السّمت الدلالي للقراءة، سننهي بالقول: بأنّ نهر الحياة لا يجتاز بالسّدود ومع استحالة الاستحمام بماء النهر مرتين، تكون الحياة وقلقها وسؤالها الدائم حجراً يتدحرج مع مجرى المياه ليصبح دائرة؛ عود على بدء. وأختم بهذا المقطع من الديوان: خببٌ، خببٌ يا أفراس اللذة خببٌ، خببٌ يا أحصنة النارنج الهائجة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©