السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«العدد صفر».. رحلة في احتيالات الصحافة

«العدد صفر».. رحلة في احتيالات الصحافة
26 يوليو 2017 20:32
في الرابعة والثمانين من عمره رحل أمبرتو أيكو «1932 - 2016» مودِّعاً حياة دنيوية شغلته دون ملل، رحل تاركاً لقرائه تراثاً روائياً لا يُستهان بتجربته السّردية، ومنه روايته الأخيرة «العدد صفر»، التي نُشرت في ميلانو العام 2015، وتصدَّى لترجمتها أحمد الصمعي «تونسي»، الخبير بالجُملة الإيكوية في كل حمولاتها الجمالية، لتصدر بالعربية في بيروت هذا العام «يناير 2017» عن دار الكتاب الجديد المتحدة بواقع 172 من القطع الكبير. إلى عالم الصحافة بكل تراجيدياته وتخادعه وخياناته وعمالاته في دهاليز المال والمضاربة بمصائر البشر والمجتمعات والقراء، إلى هذا العالَم يأخذنا إيكو هذه المرَّة؛ إلى «العدد صفر» من جريدة، إلى خلفيات وكواليس الاستعداد لإصدار جريدة لا يُراد لها أن ترى النور سوى أنها مطبوعة ابتزاز تصدر في «ميلانو»؛ فوراء ظهر المجتمع هناك من يخدعهُ (انظر: ص 12)، وتلك هي بنية هذا العالم كما يريد إيكو قوله في روايته الأخير (العدد صفر) قبل وفاته. 1992 تعود أحداث الرواية التي تجري بإيطاليا إلى سنة 1992، تبدأ في لحظة استنفار الخوف عندما استيقظ «كولونّا» ليجد أن حنفية حمامه لا تقطر ماء، ووسط حمّا الشك، تبدأ الرواية أحداثها تكهناً بأن يداً خفية عبثت بذلك، لكنّها الرواية تمضي للكشف عن حياة هذا الإيطالي «كولونّا» العاطل عن العمل سوى أنه يكتب بالأجر للآخرين، ليضعنا إيكو مباشرة في أتون السّرد المفتون بذاته (Metafiction)، فيقول السارد/&rlm البطل: «كنت أحلم بما يحلم به كل الفاشلين بأن أؤلِّف يوماً كتاباً يملأُ قلبي فرحة وجيبي نقوداً، ومن أجل أن أتعلَّم كيف يصير المرء كاتباً عظيماً، اشتغلتُ زنجياً Ghost writer أو«كاتب - ظل لمؤلِّف روايات بوليسية» (ص 12). وهذا أول معطى من معطيات تجريب الكتابة وفق نمط السّرد المفتون بذاته، فالبطل يبدو منخرطاً في عوالم الكتابة وهو دأب إيكو في أغلب سرديّاته عبر الذوات المسرودة في رواياته. تبدو رواية (العدد صفر) قصيرة مقارنة بغيرها من روايات إيكو كبيرة الحجم بعدد الكلمات، حيث جاءت إلى ثمانية عشر فصلاً تداخل فيها الزمني مع المكاني، فهي موزعة بحسب تواريخ الأيام الثمانية عشر، تبدأ من 6 حزيران 1992، وتنتهي في 11 حزيران 1992. وفي هذا السياق، عوّدنا إيكو، وفي كل رواياته، اللجوء إلى متن جسدي متخيَّل يختلف عن غيره، وذلك تنويع مُبهر. ومن دون الاستعانة بملفوظ «الفصل» بل يكتفي، في هذه الرواية، بملفوظ التأريخ، لأنّه بصدد جريدة يومية اسمها «الغد»، جريدة لم تصدر في نهاية الأمر، وهذا ما جعله يختار عنوان (العدد صفر) لروايته هذه، بمعنى أن الرواية تتحدَّث عن خلفيات الاستعداد لصدورها، اللقاءات والاجتماعات والخطط بإدارة «كوستانتسا سيماي»، وتمويل ناشر اسمه «الكومندتدور فيمركاتي» لإصدار العدد صفر منها، ومن ثم صدور الأعداد الآتية: 0/&rlm 1، و0/&rlm 2، وهكذا (انظر: ص 18). مذكّرات في بداية الأمر، يطلب الوسيط التنفيذي «سيماي» من كولونّا تأليف «كتاب أو مذكّرات صحفي» عنوانه «الغد: أمس» (ص 15) باسم الأول بشرط أن يختفي كاتبه الحقيقي وهو كولونّا (ص 16) مقابل راتب شهري لمدة سنة غير مُصرَّح به يصل مجموعه إلى 6 مليون ليرة إيطالية. يوافق «كولونّا» على هذا العرض، ويبدأ بكتابة فصوله عبر الانخراط بالعمل في الجريدة - سيذكر ذلك في الصفحة 104 - بُعيد ينخرط كمدير أو رئيس تحرير في الجريدة المزمع إصدارها. وبذلك يفتح إيكو أفقاً للسرد المفتون بذاته كون البطل سيتحوَّل إلى كاتب مقابل مال، وما عمله في «جريدة الغد» سوى يوميات صحفي سيؤلف مذكّرات بعنوان (الغد: أمس) مقابل أجر. إن العمل في جريدة يعني الكتابة، وتأليف «كتاب» عن تجربة هذه الجريدة، كلاهما يمثل عنصراً من عناصر ما وراء السّرد أو السّرد المفتون بذاته كما هي ترجمتنا لمصطلح «Metafiction» (انظر كتابنا: السّرد المفتون بذاته، الشارقة 2015). في يوم الأربعاء الثامن من أبريل، يلتقي المدير «سيماي» مع طاقم الجريدة للتعارف المشترك، ويشرح لهم فلسفة الجريدة ضمن موجِّهات، ومنها أن «الأخبار ليست هي التي تصنع الجريدة إنما الجريدة هي التي تصنع الأخبار» (ص 45)، وأن «الخبر نصنعه نحن» (ص 46)، ومنها أيضاً دعاهم إلى التفكير بالقارئ، وتنفيذ رؤيته بصدد فن تكذيب الخبر للحدث، وإلى عدم ذكر المصادر إنما يُوحى للقراء بأن للجريدة «مصادرها الخاصَّة» (ص 48)، ويشرح لهم أيضاً أساليب تكذيب «التكذيب» في صناعة الخبر الصحافي. كذلك طلب من «كولونّا» تعليم رفاقه بأن ينظروا إلى «الأحداث منفصلة عن الآراء» (ص 43). بُعيد فض الاجتماع، ينخرط «كولونّا» مع زميله «برغادوتشيو» الذي راح يتحدث عن حياته، والأهم عن جوانب مثيرة لأحداث صراعات وعنف أيديولوجي مرَّ بها والده الذي علمه بأن «الصحف تكذب، والمؤرخون يكذبون، واليوم التلفزة تكذب» (ص 31). وأن «ماو قتل أناساً أكثر من ستالين وهتلر معاً» (ص 32)، ولذلك يرى هذا الزميل بأنه نذر حياته ليكون صحافياً يكشف عن المؤامرات أينما تكون. أنوثة ذئبية وليس بعيداً عن ذلك، يدخل كولونّا في رحلة حميمية مع زميلته «مايا» تحدثت فيها عن حياتها مقابل حديثه عن حياته الشَّخصية، «مايا» التي سيصفها «برغادوتشيو» تالياً بأنها: «انطوائية» (ص 78)، حيث تحدَّثت في اجتماع تال لهيئة التحرير بأنها لو تبنَّت صفحة الوفيات، فستكون جديرة بابتداعها، وأكّدت قائلة: «أعشق أن أُميت شخصيات ذات أسماء غريبة وأسر مستسلمة للموت» (ص 69) لتنتقل المجموعة في الاجتماع ذاته إلى مناقشة مواخير الدعارة وبيوتها. وبُعيد الانتهاء من الاجتماع همَّ «كولونّا» بانتظار زميلته «مايا» ليهدِّئ من روعها عمّا جرى في الاجتماع عن المرأة والجنس والدعارة، رغم أن «سيماي» سيرفض تعابير صريحة عديدة وردت في تقرير كتبه زميلهم «كوستانتسا»، «سيماي» الذي دعاه إلى استعمال التورية حفاضاً على حياء القراء (انظر: ص 5). يمضي السّرد في الكشف عن طبيعة الصراعات السياسية، ولعل «برغادوتشيو» من أكثر أعضاء الفريق تثويراً لذلك (حول موسُوليني، انظر: ص 80 وما بعدها، وكذلك فيما بعد: ص 106 وما بعدها)، لكن «كولونّا» سيوزع وقته بين هذا العاشق للمؤامرات وزميلته «مايا» التي يدخل معها في علاقة غرام، وكذلك حضور جلسات هيئة التحرير بحسب مقترحات «سيماي»، الذي سيطلب من أحدهم، وهو «بلاتينو»، كتابة تقرير عن قاض يرغب «الكومندتدور» بفضحه عبر مراقبته ميدانياً، ووفق فلسفة: لنجعل الآخرين يشعرون بالشك. شغل «برغادوتشيو» أهمية كبيرة في هذه الرواية، فحواره المستدام مع «كولونّا» جعله سارداً لحكاية موسُوليني، موته وجثته، ما حدا بالراوي، وهو هنا «كولونّا»، يقول: «لم أكن أعلم أكان برغادوتشيو راوية مسلسلات ماهراً يقص عليَّ في كل مرة حلقة من حلقات روايته مع العبارة المألوفة (يتبع)، أم كان بحق لا يزال يُعيد تركيب حكايته قطعة بعد قطعة؟» (ص 123). حكاية موسُولوني والواقع إن «برغادوتشيو» يفعل الأمر نفسه منذ تعرّفه إلى السّارد «كولونّا»، رغم أن «برغادوتشيو» نفسه سيقول في فصل يوم الخميس 28 مايو/&rlm أيار بأنه يأسف «ليس كاتباً رواية ويعيد تركيب أحداثها التأريخية» (ص 129)، وبدلاً من ذلك، يعترف «برغادوتشيو» بأن رويه لحكاية موسُولوني إنما هو من قبيل التعبير عمّا «يغلي في داخله وإلّا سيفقد صوابه» (ص 129 - 130). وههنا يبدو لي أنَّ إيكو يدفع بهذه الشخصية - برغادوتشيو - لتأكيد جمالية السّرد المفتون بذاته، فما تقدمه من حكايات متواصلة، إن هو إلّا حكاية من داخل حكاية الرواية المركزية، بل فعل الروي ينخرط في طبيعة المذكّرات التي يريد «كولونّا» كتابته، فالسّرد من الداخل يتخذ حضوراً تتضاعف كينونته. في نهاية الأمر، سيتم اغتيال «برغادوتشيو» بطريقة بشعة، حيث يُلقى في أحد الشوارع مرمياً على وجهه. عندها دب الرعب في الجريدة، حيث رجال التحقيقات، يسارع «سيماي» بدفع مرتب شهرين لكل العاملين ليهرب بجلده ويعلن إغلاق الجريدة التي لم تصدر، كذلك ينهي موضوع كتابة مذكّرات من جانب «كولونّا» هذا الإيطالي الذي دب فيه الرعب مرة أخرى، ليتفق مع «مايا» التي بدت «ذئبة مخلصة»، حسب وصفه (ص 163) له على الهرب خلسة إلى مكان آخر، ويعود إلى ترجماته من الألمانية إلى الإيطالية، بينما تعود الذئبة المخلصة إلى الكتابة في مجلات صالونات حلاقة النساء لتصبح الأنوثة الملاذ الأخير لرجل عاش الرعب حتى قشعته امرأة لولا الصحافة لما تعرَّف بها. ومع ذلك، وفي نهاية الأمر تبقى رواية أمبرتو إيكو (العدد صفر) رحلة في أسرار الصحافة واحتيالاتها وخدوعها عبر جمالية سردية روائية متخيَّلة آسرة الوجود. جريدة لم تصدر من دون الاستعانة بملفوظ «الفصل» يكتفي إيكو، في هذه الرواية، بملفوظ التأريخ، لأنّه بصدد جريدة يومية اسمها «الغد»، جريدة لم تصدر في نهاية الأمر، وهذا ما جعله يختار عنوان (العدد صفر) لروايته هذه، بمعنى أن الرواية تتحدَّث عن خلفيات الاستعداد لصدورها، اللقاءات والاجتماعات والخطط بإدارة «كوستانتسا سيماي» وتمويل ناشر اسمه «الكومندتدور فيمركاتي» لإصدار العدد صفر منها، ومن ثم صدور الأعداد الآتية: 0/&rlm 1، و0/&rlm 2، وهكذا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©