الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغرابة والهجرة والنزوع الأضحوي

الغرابة والهجرة والنزوع الأضحوي
14 سبتمبر 2016 19:28
محمد نور الدين أفاية يستدعي الحديث عن الأجنبي أو عن الغرابة ضرورة الانتباه إلى الأهمية الكبرى للاعتبارات النفسية في البحث عن الهوية، والإصغاء، بموازاة ذلك، إلى طبيعة حضور الغير. وإذا كانت «الغرابة» تعبّر عن المأزق الوجودي الذي يعيشه الكتاب المغاربة باللغة الفرنسية، على سبيل المثال، في علاقتهم بذاتهم وبالآخر، فإنه يبدو من المثير الاقتراب من هذه المفارقة من زاوية نظر المهاجر، أي من منطلق تلك الحالة الوجودية التي تجعل الإنسان كائنًا مُعلَّقًا، يعيش انزياحًا دائما بين الأنا والآخر، وتمزقًا بين الهوية والاختلاف. فكيف يتحمل خطاب المهاجر هويته الإشكالية؟ وكيف تتحرك كتابات، أو سلوكات الشباب في المهجر معبرة عن تمزقهم وعن غرابتهم وعن مفارقتهم الوجودية؟ كانت فرنسا بالنسبة للبلدان المغاربية هي «الآخر» الغازي في الفترة الاستعمارية، امتد احتلالها للجزائر 132 سنة، وللمغرب 44 سنة، وتونس أكثر من ذلك قليلا. أحدث الاختراق الفرنسي للتاريخ وللجغرافيا المغاربية اهتزازًا وجوديًا في الكائن المغاربي، خلخل أنماط النظر، بل وخلق رضَّات واقعية في الجسد، وفي البناء النفسي وفي تصورات المغاربيين. وباسم الهوية العربية الإسلامية «طُردت» فرنسا من المنطقة دون أن تنسحب كلية، وقد تم ذلك باسم هوية مناضلة. إلا أنه، وعلى الرغم من هذه المواجهة، خلقت ظاهرة الهجرة إلى فرنسا معطيات شائكة ومُفارِقة، ولدت علاقة صراعية تتميز بتأرجح مثير بين الانجذاب والاستبعاد، بين الرغبة في تبني النموذج الفرنسي وبين الخوف من الفقدان. وقد أفرزت ظاهرة الهجرة آلياتها الخصوصية عندما أعادت إنتاج ذاتها من خلال الأجيال التي رأت النور على أرض الاستقبال، وبالاختلاط والتمازج تعرضت الذاتية المغاربية، وما تزال، لهزات تاريخية وثقافية مؤلمة، أحيانا، بسبب أبعادها المأساوية. ذلك أن الجيل الثاني أو الثالث يطالب بـ «فرنساته» الخاصة، أي بانتمائه المميز للفضاء الوجودي والثقافي الفرنسي. ولا يكتفي بالمطالبة، فقط، بل يصوغ أنماطا مختلفة من التدخلات المادية والرمزية، قد يتم ذلك من خلال سلوكات عنيفة، كما قد يحصل بواسطة الإبداع. فهناك فن مهاجر «بور» Beur – كما كان يقال في فرنسا في السنين القليلة الأخيرة– هناك سينما ومسرح ورواية وغناء يميز هذه الفئة المغاربية، فأبناء المهاجرين يبدعون أيضا، يكتبون تمزقهم وازدواجيتهم، يتحدثون عن آلامهم وأفراحهم، ويصرخون بتفاصيل «هوية مُقعرة» ومُعلقة. وهم يقومون بذلك لخوض نضال جديد ضد العنصرية المتنامية ورفض الآخر واللاتسامح، بالحركة والفعل والكتابة، محاولين نحت لغة جديدة تبرز طرق اندماجهم في مجتمع الاستقبال أو تظهر تمزق الكائن المهاجر، وتصف غرابته، دون أن تنسى المطالبة بالحق في الانتماء المختلف وفي المواطنة المغايرة. تمزقات الأنا المهاجرة تعيش الأنا المهاجرة، في دواخلها الحميمية، مأزقًا حقيقيًا، ذلك أنه، ولخلق المسافة مع الغرابة التي يشعرني بها الأجنبي، ولحماية هويتي النفسية والجسدية من التحطيم، فإنني سوف أذوب في الجماعة التي تؤمن لي بعض الطمأنينة. وبإعادة التضامن مع شبيهي أستعيد الدرع الواقي لهويتي الجماعية التي تساعدني على استبعاد الآخر، الغازي والمضطهد، الذي سأعمل، بدوري، على الانتقام منه، باكتساحه (من خلال التماثل معه)، أو باضطهاده، سواء في هويته الخاصة (الفردية، الجنسية، النفسية، والعائلية)، أو في هويته العمومية (الجماعية، المهنية، السياسية، والوطنية). يواجه الأجنبي هوية جماعية، أحادية الشكل، متضامنة، أو هكذا تبدو في أزمنة التوتر، حين يتطلع إلى اختراق دائرة هوية جماعية غير تلك التي تحمل أصلا. لكي يختلط بالغير ويندمج في الهوية الجماعية المستقبلة، عليه أن يقر، في مقابل ذلك، باحتمال فقدان هويته الأصلية. هنا يجد الأجنبي، المهاجر المغاربي، نفسه أمام اختيار مقلق، فهو إذا رفض التسليم بفقدان هويته الفردية- الأصلية- فإنه يعاند عملية التجانس الجماعي ويتبرم من الانصهار فيه. إنه يتقدم، هنا باعتباره اختلافا في مواجهة هوية جماعية، وباحتلاله فضاء الاختلاف الذي يؤكد مغايرته، ينتزع من الآخر مبادرته ويوجه، بذلك، للهوية الجماعية الفرنسية تحدي هويته الخاصة. وهكذا يموضع ذاته بوصفه آخر المواطن – حتى ولو حصل على الجنسية – وكتهديد، إن لم يكن كعدو للهوية الجماعية المركزية. إلا أن خطاب الاختلاف كثيرًا ما يكون إشكاليًا، كما هو شأن خطاب الهوية المُغلق، لاسيما حين يريد استعراض مكوناته داخل سياق من الانسداد والصراعات الرمزية. فالعنصرية نتاج عدواني لعملية المطالبة بالهوية، بل للهوس الباثولوجي بالاختلاف، إذ الاختلاف عند العنصري أمر لا يمكن تخطيه أو التطابق معه، لأنه بيولوجي أو وطني، أو اختلاف في العرق وفي العادات. غير أنه يمكن أن يكون الاختلاف شعارًا نضاليًا في اتجاه اللقاء الإنساني والتسامح. فالشعار الذي رفع في فرنسا قبل أربعة عقود: «كلنا سواء في اختلافاتنا» كان يعني اعترافًا بالغير من دون فقدان تفاصيل الذات. لذلك فإن تسامح الغير «الشبيه والمختلف» في آن، يمثل إحدى أكبر الفضائل التي تسعف «على الاتحاد في التمايز، وعلى التعايش في الاختلاف، وعلى مُواطنية مفتوحة داخل الخصوصية، أي أن تقبل ذاتك وتقبل الغير عملية مرهونة باعتراف هذا الغير بكونه أجنبيًا لذاته وللآخر»، كما قال «جاك بيرك» في تقريره الشهير عن «المهاجرين في مدرسة الجمهورية». طرح سؤال الذات والآخر، الشبيه والمختلف، من زاوية وجودية لا يمنع من الإقرار بخطورة الوضعية المأساوية للأجنبي وللمهاجر. يتعلق الأمر بوجود صعب الاحتمال وبظواهر مرضية متنوعة، بل وبعملية تثاقف غير مضطلع بها تمامًا. يصعب العيش حتى داخل اللغة الواحدة والعادات المشتركة، بل تتأجج الصعوبة بتمزقات داخلية، غالبا ما تفرق المهاجرين إلى أصول مغايرة وذات تراتبية تزيد من تعميق الفارق مع الجماعة ذات الأغلبية، هذا فضلا عن أنه لا يوجد مهاجر نوعي، هكذا في المطلق. ذلك أن أوروبا الجنوبية، بحكم موقعها الجغرافي وبسبب كونها نقطة عبور، مثلت دائما قطبًا جاذبًا لحرمانات الجنوب، فقد كانت وما تزال منطقة مهاجرين. لذلك فالقول إن فرنسا كيان خالص هو مجرد تخيل خادع يعجز حتى الخطاب العنصري عن البرهنة عليه. فسيفساء هويّاتية تعبُر مجتمع الهجرة، من ناحية أخرى، اختلافات هائلة، ويتميز بتباينات معقدة، إذ تختلف وضعيات المهاجر، بسبب نسبة نجاحه أو فشله، بحكم أقدمية تواجده، بل بالشعور الذي يحمله إزاء بلد الاستقبال. في هذا السياق تتشابك الأوهام بالأحكام المسبقة إلى درجة لا توصف. فسيفساء من الهويات والأصول. أن تطالب بالاختلاف كأساس لهوية، في هذا الإطار، يمثل مصدرًا لكل أنواع سوء التفاهم والشكوك، سيما في «المختبر» الاجتماعي والسياسي والثقافي الفرنسي، لأنه في الوقت الذي يحتفظ فيه الأجنبي، بقوة، بغرابته في وعيه بسبب الخطاب الجماعي المركزي (الفرنسي هنا)، قد تؤدي، في هذه الحالة، صفة الغرابة بالأجنبي إلى السقوط في نوع من «الانغلاق الباثولوجي» الذي يفرز سلوكات ومواقف تعوق كل تواصل تثاقفي إيجابي. وتبين النزوعات وأشكال الاعتقاد الجديدة التي بدأت بالانتشار في أوساط شباب المهجر، وخصوصا المغاربيين منهم، باسم إسلام متخيّل، انطلقت بقراءات أصولية، ثم أصبحت هذه الأصولية «سلمية» جدّا في نظر دُعاتهم الآتين من خارج بلدان الاستقبال، وتحوّلت بعد ذلك إلى سلفية جهادية، ثم إلى إعلان القليل منهم، بشكل مدوّ، الولاء للداعشية. وهو ما طرح ويطرح سؤالا مقلقا عن هذا النزوع «الأضحوي» الذي استولى على العديد من الشباب، بحيث ينتقلون بسرعة كبيرة من موقع إلى آخر يكون فيه، أو يتصور فيه الشاب أنه يعبّر عن وفاء فريد للإسلام، وعن كرامة استثنائية للمسلم من خلال سلوكات وعمليات يريد أن يبرهن فيها على أنه أكثر إسلامًا، حتى ولو «ضحّى» بنفسه، وقسا، بعنف رهيب، على الآخرين. تختلط الأسطورة بالواقع، وينخرط «الجندي الجهادي» في عقيدة جماعية أقرب إلى «أسطورة هوياتية»، كما يقول المحلل النفسي «فتحي بن سلامة»، تغذّيها الواقعة الحربية الجارية في بعض البلدان العربية، حيث يُقترح عليهم نوع من «الانضمام البطولي» إلى هذه الحرب الشاملة مقابل «امتيازات» مادية، وسلطات واقعية ومتخيّلة. يحصل ذلك بفضل تلاق مثير ما بين «الهشاشة الهوياتية» وإغراءات «العرض الجهادي». لم يعد الحديث عن الإسلام الوسطي والاعتدال يُقنع شرائح من الشباب الحامل لبعض أسباب الانحراف، بحيث يعبرون عن استعداد ملغز للبرهنة عن «قوة الإيمان» باعتبارهم «مسلمين خارقين» Surmusulmans، يملكون ما يلزم من الإرادة للخروج على القانون باسم قانون يعتبرونه أعلى وأسمى من كل القوانين، تحركهم النزوعات القاتلة ويمجدونها، من خلال محاربة و«قتل» الأعداء الخارجيين (الغربيين)، والداخليين (المسلمين المتغرّبين). هكذا تتموضع ممارسة «المسلم الخارق» على صعيد نوع من «الرجاء الديني» من خلال النفور من التماهي مع الإنسانية والتطلّع إلى الموت اعتمادا على سلوكات عصابية، كما يقول بن سلامة في كتابه الذي صدر في الأسابيع القليلة الأخيرة بفرنسا بعنوان «رغبة هائجة في التضحية: المسلم الخارق». لا جدال في أن الوضعية الحالية محيّرة للغاية، سياسيًا وفكريًا. ومع ذلك هل يمكن للبعد التثاقفي أن يكتسب مضمونه الحواري دون تكسير غطرسة الهوية المركزية؟ كما أنه لا أحد يمكنه إيقاف هجرة الرموز والصور والأجساد. تنتقل في كل الفضاءات وتتخطى الحدود والحواجز، على الرغم من المقاومات والمواقف المتشنجة. فإذا كانت العنصرية تشكل أحد العناصر المكونة للوعي الأوروبي، كما يقول «كلود ليوزو» («العرق والحضارة، الآخر في الثقافة الغربية»، 1992)، فإن خصوصيتها تتلخص في كونها تركز على الاختلافات بشكل مثير. ذلك أن هوية المغاربي والعربي والمسلم تبدو صعبة المعالجة، أحيانا، وكيفما كانت المظاهر، فهي تتقدم، في كل مرة، باعتبارها سؤالا مُزعجًا ومُقلقًا، بل وبوصفها معرضة، دوما لخطابات تبسيطية تصل حد التطرف. ويتأكد، يوما عن يوم، هذا الأفق في فهم «الهوية المغاربية» في المهجر، سيما بعد الأحداث الدامية التي شهدتها باريس في يناير ونوفمبر من سنة 2015، ونيس في شهر يوليو 2016، وعمليات صغيرة أخرى في ألمانيا، وبلجيكا، أعلنت داعش مسؤوليتها عن هذه العمليات البربرية، فضلا عن تداعيات المزايدات والمساومات التي دارت صيف هذه السنة حول «البوركيني» (المايو الإسلامي) في الشواطئ، حيث اختلط الأمر على النخب، وحتى على شرائح واسعة من بين الفرنسيين، في كيفية تسمية ما جرى، وتقديم فهم مناسب للواقعة الإسلامية في المجتمع الفرنسي. نضال ضد العنصرية أبناء المهاجرين يخوضون نضالاً ضد العنصرية المتنامية ورفض الآخر واللاتسامح بالحركة والفعل والكتابة، محاولين نحت لغة جديدة تبرز طرق اندماجهم في مجتمع الاستقبال أو تظهر تمزق الكائن المهاجر، وتصف غرابته، دون أن تنسى المطالبة بالحق في الانتماء المختلف وفي المواطنة المغايرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©