الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تذوق الأعمال الفنية تربية الروح

تذوق الأعمال الفنية تربية الروح
14 سبتمبر 2016 19:37
د. حورية الظل تتعدد السبل السالكة للسعادة وتتنوع، والسعي للقبض عليها لا يتوقف، لأنها غاية مطلوبة لذاتها، ونهاية الكمال الإنساني. وتلقّي الأعمال الفنية فعل راقٍ، يعد من مسببات السعادة، وهو أمر له آثار جيدة في المتلقي، حيث يرقى بروحه، ويهذب ذوقه، وييسر له الانسراب إلى ممكنات إيجابية في التعاطي مع الذات، ومع العالم من حوله. ونظراً إلى أهمية الموضوع، فقد شغل الفلاسفة والمفكرين منذ القديم، فاحتفوا به، وقالوا فيه الكثير، فهل أجمعوا على أن الأعمال الفنية تُشبع الحاجة الجمالية للمتلقي، وتمنحه السعادة؟ إن تلقي الأعمال الفنية، في كل زمان ومكان، كفيل بتحقيق السعادة للمتلقي، وهذه السعادة عبارة عن حزمة من المشاعر، تتمثل في المتعة واللذة والانتشاء، وحسب الفيلسوف الفرنسي إتيان سوريو، فنحن: «بحاجة إلى أن نضيف فسحة مشرقة لحياتنا، عن طريق احتكاكنا المتكرر بآثار الفن». لكن على سبيل البدء سأتطرق إلى الآراء السلبية تجاه السعادة والفن، وإن كان أصحابها يؤكدون ترابطهما ضمنياً، فيرى بعضهم أن المتعة التي يحققها الفن هي مجرد استنفاد للطاقة الزائدة عند الإنسان، ومن هؤلاء الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر، كما اعتبرت بعض المذاهب في الفن أن الأمر لا يتعدى أن يكون تحقيقاً وإشباعاً للذة، وتهويمات خيال وأحلام، وقبل ذلك بكثير نفى أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة، حيث رأى أنهم، والمصورين والنحاتين، قد عمدوا إلى بث اللذة وإثارة المشاهدين، من خلال محاكاة الواقع المتغير، الذي هو تضليل عن الحقيقة المثالية التي ينشدها الفيلسوف، وهذا الرأي يؤكد أن الفن وُجد، منذ البداية، ليحقق المتعة الجمالية للمتلقي، وهو الأمر نفسه الذي ذهب إليه هيجل في كتابه «علم الجمال»، حيث لاحظ امتداد الفن إلى الآخر، أو إلى المتلقي، وأكد ذلك بقوله: «مهما حاول العمل الفني أن يبني عالماً متماسكاً، وقائماً من تلقاء نفسه، فإنه بصفته موضوعاً واقعياً، لا يوجد لذاته، بل يوجد لنا نحن، أي من أجل جمهور يتأمله وينتشي به». وتكشف نظرة أرهف على محافل تلقي الأعمال الفنية عن حقيقة مفادها، أن هذه الأعمال سبيل لسعادة المتلقي، سواء أكانت ساخرة أم مأساوية، حاملة للفرح أو للألم، ولا أدل على ذلك من التطهير عند أرسطو، والناتج عن مشاهدة التراجيديا التي تحقق المتعة الجمالية للمتلقي، وتطرق ابن سينا أيضاً إلى نفس الموضوع، لما شرح ولخص كتابات أرسطو، وأكد ذلك بقوله: «الكلام المتخيل (أي الشعر) هو الكلام الذي تذعن له النفس، فتنبسط عن أمور، وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار». أكد دافنشي في كتابه «نظرية التصوير» أن العمل الفني مصدر متعة وسعادة، حيث يقول: «في لحظة يكشف التصوير عن نفسه أمام عينيك، ويقدم إلى نعمة البصر جوهره مباشرة، فيستقبل الحس الأشياء الطبيعية، ويدركها في نفس الوقت الذي تتضح فيه، هذه الهارمونية وهذا التناسب المتناسق بين الأجزاء التي تدخل في تركيب الكل، هو ما يسر الخاطر ويمتع العقل...وبهذا التوافق العذب تُسعد العين الحس». عوامل مساعدة؟ لكن ما العوامل المساعدة للمتلقي ليفوز بجائزته التي هي السعادة، عندما يتلقى عملاً فنياً؟ يرى جان ماكاروفسكي أنه الإدراك الجمالي، وهو يتكون حسب رأيه «من القاسم المشترك لجميع الحالات النفسية التي يثيرها هذا العمل..في نفوس أعضاء جماعة ما». و يخضع الإدراك الجمالي للعمل الفني لحالة المتلقي النفسية، وأيضاً للممكنات الجمالية التي يشتمل عليها هذا العمل، وكمّ التمثلات التي يثيرها في هذا المتلقي، ويعطينا ماكاروفسكي مثالاً على ذلك، فيرى أن: «المشاعر الذاتية التي يثيرها الشعر السوريالي أعظم من التي يثيرها الشعر الكلاسيكي، فالأول يحيل إلى القارئ عملية تخيل التفاصيل السياقية للتيمة الرئيسة، أما الثاني فإنه يلغي تماماً حرية التداعيات الذاتية، من خلال صياغة دقيقة ومحبوكة لكل العناصر». وحسب ماكاروفسكي، فإن العمل الفني الأهم هو ذلك الذي يفتح أكبر عدد ممكن من المسالك التي تفضي بالمتلقي إلى عيش لحظات من السعادة، لأنه ينفتح على التأويلات المتعددة، بخلاف العمل الذي لا يفسح للمتلقي مجالاً للتأويل، فتأثيره باهت على هذا الأخير، ويرفض ماكاروفسكي النظريات الجمالية المبنية على الفرضية التي تقول بأن غاية الفن هي اللّذة، ويرى أنه من الخطأ تأكيد أن هذه اللذة تكون جزءاً لازماً وضرورياً من عملية إدراك العمل الفني، لكنه لا ينفي عنه اللّذّة تماماً، لأنه حسب تعبيره: «قد يولد لذة ما، تكتسب موضوعية نسبية، باعتبارها دلالة إضافية كامنة في العمل الفني». وهذا الرأي يحيلنا إلى موضوع العمل الفني، الذي ليس دائماً هو ما يثير المتعة واللذة لدى المتلقي، لأن هناك أعمالاً يغيب فيها الموضوع، وتقوم جماليتها على طريقة بناء عناصرها الشكلية، فبنيتها الكلية هي التي تحمل المعنى، وكمثال على ذلك أعمال السرياليين، أو الأشكال الزخرفية في الفن الإسلامي، حيث يرى كامل محمد عويضة أن العمل الفني يستغني عن الرجوع إلى موضوع خارجي: «فيكتفي بوسائله، ذلك لأن اهتمام المشاهد بالنظر إلى ما يمثله العمل الفني إنما يصرفه عن النظر إلى القيم الفنية الأصيلة المتمثلة في العمل الفني»، ومن ثم، فإن الموضوع يجهز على المتعة الجمالية للمتلقي، حسب هذا الرأي، وفي أخف الحالات يعمل على تقليصها، لذلك فضّل أمبرتو إيكو أن يكون الأثر مفتوحاً على التفاعل الحر للمتلقي: «لأن الأثر الذي «يوحي»، يتحقق، وهو يملأ كل مرة بالمشاركة العاطفية والتخييلية للمؤول». وهذا الطرح تبناه أيضاً الفيلسوف الإسباني أورتيجا جاسيت. وبالإضافة إلى ما سبق، يعيد بعض الفلاسفة والمفكرين المتعة الجمالية المترتبة عن تلقي الأعمال الفنية إلى ذوق المتلقي وخبرته الجمالية، وآخرون يعيدونها للقيمة الجمالية للعمل الفني نفسه، فتتعدد الآراء وتختلف حسب الخلفيات التي ينطلق منها هؤلاء. بين الذوق والخبرة يتفق بعض علماء الاجتماع على أن تحقق المتعة الجمالية، جراء تلقي الأعمال الفنية، يخضع لأذواق المتلقين، فالتأثر بنفس العمل الفني، والتفاعل معه، يتغير من شخص إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، فلا يثير نفس المشاعر في كل الذوات المدركة له، وقد يثير اللّذّة والممتعة لدى متلقٍ معين، في حين يشعر آخر بالاشمئزاز تجاهه، وذلك راجع إلى كون درجة المتعة التي يثيرها العمل الفني ليست كامنة فيه، وإنما تخضع لذوق الفرد، ويؤكد عالم الاجتماع الأمريكي هربرت غانز فكرته، ويمثل على ذلك بأمريكا الحديثة، ويقول: «في أمريكا الحديثة مدى بأكمله من الأذواق الثقافية المتباينة، يرتبط كل منها بمجموعة اجتماعية معينة، تمتد من أذواق «الفن الرفيع»، عند الطبقة المتوسطة العليا، إلى ذوق «الثقافة الدنيا»». ويرى غانز بأنه لا توجد ثقافة ذوقية أفضل من غيرها، وكل ما في الأمر أنها تختلف في طريقة التعاطي مع العالم، وهذا يفضي إلى كون فهم الأعمال الفنية وتذوقها يخضع لمدى فهم المتلقي للعمل وطريقة قراءته، وحسب بورديو، فإن الموقع الاجتماعي للشخص هو الذي يجعله قادراً على التواصل مع العمل الفني، وحل شفراته والاستمتاع به، ويؤكد أن البورجوازية الثقافية هي التي تمتلك ذلك الحظ، لأنها تربت على ذلك، حيث تلقت ثقافة رفيعة مكنت أفرادها من تفوق أذواقهم، كما أنهم يقصدون الأماكن التي ترقى بحسهم الفني، وتحقق لهم السعادة الناتجة عن تلقي الأعمال الفنية، وهذه السعادة تتحقق لقدرتهم على حل شفرات هذه الأعمال، وهذا يمكنهم من فرض سيطرتهم الثقافية، في حين يرى بورديو أن افتقار الطبقات الدنيا للثقافة الفنية يجعلها تفتقد التواصل مع الأعمال الفنية، وفك شفراتها والاستمتاع بها، لذلك يفوتها ما يتحقق للطبقة الأخرى. أما الفيلسوف ديفيد هيوم، فقد دعا إلى التسلح بالتربية الجمالية من خلال دراسة الأعمال الإبداعية المتسمة بالجمال والرقي، لأن ذلك كفيل بتمكيننا من رهافة الحس والذوق، الأمر الذي ييسر لنا الاستمتاع بالأعمال الفنية، سواء كانت محملة بالفرح أو بالألم، فهو يربط المتعة الجمالية بالذوق الجمالي المرهف. ومن ثم فإن التربية الجمالية تمكن الفرد من خبرة جمالية، تسمو بذوقه، وتمكنه من اتخاذ موقف تجاه العمل الفني لما يتذوقه، فتتولد لديه نشوة جمالية، فالخبرة الجمالية، حسب الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، هي الأرفع بين الخبرات الأخرى، لذلك: «يتخذ الفلاسفة والمفكرون في تفسيرهم للخبرة الجمالية موقفاً «لاذياً»، بمعنى أنه لا بدّ أن يصحب الخبرة الجمالية شعور بلذة، أو بهجة معينة». وهذه اللذة أو المتعة الجمالية تتجاوز ما هو جسدي، فهي، حسب جورج سانتيانا، تكسبنا شعوراً، أو وهماً، بأننا أحرار من أجسادنا. ومن ثم فإن الخبرة الجمالية تمنح المتلقي مفاتيح العمل الفني، وتمكنه من استنباط قيمته الجمالية، فينفعل به، ويحس بالسعادة نتيجة ذلك، لكن هذه القيمة تختلف من فرد لآخر، حسب رأيهم، لأن مقياس الجميل هو شعور الإنسان تجاهه وانفعاله به، فينسبون اختلاف الأحكام الصادرة في حق الأعمال الفنية إلى الخبرة الجمالية، ويؤكد هذا الطرح الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بقوله: «يحدث أن يعجب الناس بعمل فني معين، ويتجاهلون عملاً آخر، ثم تثبت الأيام أن ما يعجبون به ليس بذي قيمة، وما تجاهلوه أثبت على مر الأيام أنه أكثر قيمة، وتاريخ الفن حافل بروائع لم يقدرها أهل زمانها التقدير اللائق بها». لذلك يمكن القول بإن العمل الفني، حتى وإن أثار إعجابنا ومتعتنا الجمالية، فإنه قد يكون غير حامل لقيمة تذكر، وربما يعود ذلك لاستجابته لأفق تلقينا، أو لنوع الخبرة الجمالية التي نباشره بها. ويرى كانط أن تفاعلنا مع العمل الفني يخضع للذات، وحدد الجميل بأنه ما يسرنا بطريقة كلية، وبغير أن يترتب على سرورنا به منفعة. لكن هناك آراء أخرى تعيد سعادتنا جراء تلقي الأعمال الفنية، إلى تلبية هذه الأعمال لحاجتنا الجمالية، والتي تمتد إلى الأطفال أيضاً، وتلبية هذه الحاجة هي ما يمنحنا المتعة الجمالية. الحاجة الجمالية لكل منا حاجة جمالية يتم إشباعها من خلال تلقي أعمال فنية محددة، فتتحقق لنا المتعة الجمالية، وحسب الفيلسوف الفرنسي إتيان سوريو، فإن هناك أعمالاً تلبي هذه الحاجة، لكن هناك أعمال أخرى لا تستطيع أن تفعل ذلك، والسبب، وحسب سوريو دائماً، يتلخص في وجود أعمال فنية تشبع الحاجة الجمالية في عصر محدد، لكنها تصبح غير قادرة على فعل ذلك في عصر آخر، ويمثّل على ذلك بالفن القوطي في العصور الوسطى، حيث كانت الكنائس في هذا العصر تشمل كل الفنون، لأنها أُنجزت بطريقة فيها عظمة وجمالية وفن أيقوني عن قصد، ولكي تحقق التأثير الروحي في المسيحيين، كما أن ضخامة البناء وأناقته ونقاءه، وإبداعه المفصح عن دقة متناهية في إنجاز كل التفاصيل، قد سيطروا وقتها على المدينة، مادياً وروحياً، وكانوا يبعثون الشعور بالخشوع والسكينة والطمأنينة والصفاء، فكانت تلك الكنائس، بكل الفنون التي تشتمل عليها، تساعد المؤمن على التسامي الروحي، وتحقق له متعة جمالية أكيدة، وسعادة كاملة، لكن مع عصر النهضة، والتطور العلمي والفلسفي والسياسي والاجتماعي، أضحى المتلقي في حاجة إلى أشكال جديدة من الفن، قادرة على التأثير فيه، وتمكينه من التفاعل معها، وإشباع حاجته الجمالية منها، لتكون مصدر سعادته، فلم يعد يتفاعل مع الفن القوطي أو يحقق له المتعة الجمالية، التي كان يحققها لمن عاشوا في العصور الوسطى، وإنما أضحى المتلقون للفن القوطي في عصر النهضة يحسون بالاشمئزاز تجاهه، فأبدوا احتقارهم له، وإمعاناً في عدائهم له،أطلقوا عليه اسم الفن البربري، والسبب في ذلك كون الحاجة الجمالية لإنسان عصر النهضة ارتقت وتجاوزت ما كان سائداً في العصور الوسطى، واستجابة لذلك تبنى فنانو عصر النهضة، حسب روبرت دبليو ويتكين، «أسلوباً في التصوير يهدف فيه الرسم إلى تحفيز القيم البصرية، التي يمكن اكتسابها بالملاحظة الحسية للطبيعة». وقد طوروا أدواتهم لمسايرة تغير الأذواق، فظهرت موجة فنية جديدة مع دورر ودافنشي ورافاييل، تم من خلالها الرجوع إلى الطبيعة، وما قاله ليوناردو دافنشي، أعظم فناني عصر النهضة: «إن حقيقة الأشياء هي الغذاء الأسمى للنفوس المرهفة»، فأصبح النحت والرسم تزيينياً فقط ومنزاحاً عن أي وظيفة، ومعبراً عن الفنان، وأضحت الأعمال الفنية، بالنتيجة، ترضي أذواق المتلقين، وتحقق لهم مشاعر السمو والرضا والمتعة، لكن مع نهاية القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر، وبعدما بلغت هذه المرحلة الجمالية أوجها، سقطت في التكلف والتصنع والمبالغة والفردية المفرطة، فبدأت مرحلة كسوفها، ثم توالت المدارس الفنية كالكلاسيكية والرومانسية والطبيعية والواقعية، لكن مع بداية القرن العشرين، تغيرت القيم الجمالية وبدأ الفنانون في ابتداع أشكال فنية جديدة، كالدادائية والوحشية والمستقبلية والسريالية، ويرى الكثير من الدارسين أن الأمر يعد تحولاً روحانياً في الفن، لأن الأنواع الفنية جنحت للتجريد، ففتحت للمتلقي باب التأويل، فهل استطاع الفن التجريدي بكل أنواعه أن يلبي الحاجة الجمالية للمتلقي، وهل منحه فعلاً متعة جمالية أكبر؟ لكن قبل التطرق إلى التجريد لا بأس من تناول الحاجة الجمالية لدى الأطفال، لأن للفن أيضاً سحره عليهم، ولا يقتصر تأثيره على الكبار فقط، والأعمال التي تشبع حاجتهم الجمالية بكثافة تتمثل في القصص المصورة والأساطير، التي تحوي في بعض الأحيان الكثير من السوداوية، أو العنف أو المرح، وكلها تثير أحاسيسهم، وتفتح لهم آفاقاً جديدة للمعرفة، وتمكنهم من لحظات السعادة والمرح، لذلك تبدو متطلباتهم من الفن مختلفة عن تلك التي للكبار. التجريدي أكثر إسعاداً يكاد يُجمع الفلاسفة والمفكرون والنقاد على أن الفن التجريدي، هو الأكثر تحقيقاً للمتعة الجمالية للمتلقي، ويُرجعون ذلك إلى كون الفن التجريدي يتجرد من الموضوع في الغالب، ويتمركز حول الذات، وقد أكد ذلك روبرت دبليو ويتكين، بقوله: «إن رفع مستوى التجريد في الفن يصبح مرادفاً للارتقاء بمستوى تمركز الفن حول الذات»، لذلك يحظى بحمولة روحية، فيحقق متعة أكبر للمتلقي. وينتمي الفن البدائي أيضاً إلى الفنون التجريدية وحمولته الروحية كبيرة، وذلك ما حدا بالتكعيبية والسريالية إلى النهل منه، وإغناء التجربتين من خلاله، وجعل متعة تلقيهما أكبر، وهذا الفن يتمركز حول ذات الإنسان البدائي، فالأقنعة الإفريقية مثلاً لها وظيفة رمزية، تتمثل في ما هو جمالي وديني واجتماعي، فيتم ارتداؤها في الأعياد والجنازات والطقوس الدينية، وتلعب دور الوسيط بين الآلهة والبشر، فتُستحضر من خلالها سلطة الآلهة، وأرواح الأجداد، لنيل بركتهم، واستجلاب الخير والحظ السعيد، لأن القناع، حسب معتقداتهم، حامي القبيلة الفعلي من الأمراض والأرواح الشريرة، وهو الوسيلة المثلى لإفزاعها وطردها أو استرضائها، وبالإضافة إلى كونه جزءا من المقدس، ووعاء له، فإنه يتم ارتداؤه أيضاً كوسيلة ترفيهية في الاحتفالات، فيوفر الدعم للراقصين والمغنين، ويسهم في التفريج عن النفس والتسلية، كما يساعد على تمثيل القصص، سواء الدينية والواقعية والساخرة، لمنح المتعة للمتلقي. يعدّ الفن الإسلامي من الفنون التجريدية، ويمكن اعتباره سابقاً للتجريد في الغرب، لذلك لا بأس من التطرق إلى ما يخلفه في النفس من متعة جمالية، ناتجة عن حمولته الروحية وطبيعته التجريدية، حيث يشعر المتلقي بسكينة صوفية وطمأنينة روحية وهو يتأمل الزخارف والخطوط، وتلك أسمى درجات السعادة، وسبب ذلك التأثير طبيعة هذا الفن، الذي جنح الفنان المسلم من خلاله إلى تصوف يبتعد من خلاله عما هو عرضي وحسي، وإلى وحدة أسلوبية عُدت جوهر هذا الفن، ومن ثم دفعت هذه الرؤية الفنان إلى الانزياح عن نقل ما هو ملموس ومتحقق في الواقع، فجرد الأشياء من قيمتها، بنقلها إلى الفن، وعكف على إبراز قيمة الأشكال، بدل التركيز على مظهرها الخارجي، ومضامينها، لأن قيمة العمل الفني وجماليته، تتضح من خلال جوهره، وليس عرضيته، وأيضاً من خلال تلك اللّمسة الروحية التي يضفيها عليه الفنان، فتتجاوب معها النفس، وتشعر بانتمائها إلى عوالم روحانية، توحي بالسلام والطمأنينة، ومن ثم فإن جمالية الفن الإسلامي تدرك حسياً وروحياً، أو جمال يدركه البصر، وآخر تدركه البصيرة، ويفضّل الغزالي الجمال المدرك بواسطة البصيرة، لأن: «البصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر»، حسب تعبيره، وبذلك يتكون جوهر الفن الإسلامي من أنساق علائقية تؤدي إلى الانسجام والاكتمال. ومنطلق الفنان المسلم لتحقيق ذلك، إخضاع الخطوط والأشكال، لتنظيم هندسي ورياضي، ومنطق داخلي يطبعه التوازن والتداخل والتوالي، والتكرار والانعطاف والانتظام والتشابك، والتناسق، والتناسب بين الأشكال، وارتباطها في بنيتها، بعضها ببعض، حيث تستجيب لتصور الفنان الجمالي القائم على إظهار عظمة الخالق، فتبتعد عن المحاكاة، وترقى إلى التجريد، فتكون باعثاً لإحساس المتلقي بالسمو والصفاء والغبطة الروحية. ويرى عالم المصريات الفرنسي، ألبير غايي في كتابه «الفن العربي» أن الأشكال الهندسية في الفن الإسلامي: «توقظ في النفس مشاعر عميقة مطبوعة بطابع الصفاء العذب». ومن خلال ما سبق، يتأكد أن اهتمام الفلاسفة والمفكرين بأثر الأعمال الفنية في المتلقي، وما تحققه من متعة جمالية لهذا الأخير، يفشي بتشجيعهم على تلقي هذه الأعمال، لما يحققه ذلك من سعادة للمتلقي، وتمكينه بالنتيجة من العبور لمفاوز جديدة، تغيره للأفضل وللأرقى. ................................................ المصادر والمراجع: - إتيان سوريو، الجمالية عبر العصور، ترجمة ميشال عاصي، ط 2، 1982، منشورات عويدات، بيروت، باريس. - هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي، ترجمة رشيد بنحدو، نشر سليكي إخوان، ط1. - ليوناردو دافنشي، نظرية التصوير، ترجمة عادل السيوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب. - جان ماكاروفسكي، الفن باعتباره حقيقة سيميوطيقية، ترجمة سيزا قاسم، ضمن كتاب مدخل إلى السيميوطيقا، الجزء الثاني، إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، منشورات عيون. - روبرت دبليو ويتكين، نموذج جديد لسوسيولوجيا الجمال، سوسيولوجيا الفن، طرق للرؤية، ترجمة ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 341. يوليو، 2007 - ديفيد إينجليز، التفكير في الفن سوسيولوجيا، ضمن كتاب سوسيولوجيا الفن، طرق للرؤية، ترجمة ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 341.يوليو، 2007. - مقدمة في علم الفن والجمال، إعداد الشيخ كامل محمد محمد عويضة، سلسلة علم النفس، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1996. - أمبرتو إيكو، الأثر المفتوح، ترجمة عبد الرحمن بوعلي، دار الجسور، وجدة، المغرب، ط1، 2000. لا بدّ من التربية الجمالية ديفيد هيوم دعا إلى التسلح بالتربية الجمالية من خلال دراسة الأعمال الإبداعية المتسمة بالجمال والرقي، لأن ذلك كفيل بتمكيننا من رهافة الحس والذوق، الأمر الذي ييسر لنا الاستمتاع بالأعمال الفنية، سواء كانت محملة بالفرح أو بالألم، فهو يربط المتعة الجمالية بالذوق الجمالي المرهف. ومن ثم فإن التربية الجمالية تمكن الفرد من خبرة جمالية، تسمو بذوقه، وتمكنه من اتخاذ موقف تجاه العمل الفني لما يتذوقه، فتتولد لديه نشوة جمالية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©