الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

صلاح طاهر: الانتقال من الكلاسيكية إلى التجريد يشبه الانتقال من الملاكمة إلى التأمل

صلاح طاهر: الانتقال من الكلاسيكية إلى التجريد يشبه الانتقال من الملاكمة إلى التأمل
15 سبتمبر 2016 15:13
مجدي عثمان (القاهرة) كانت رحلة الفنان صلاح طاهر إلى الولايات المتحدة العام 1956، والتي استغرقت نحو ثلاثة أشهر، هي نقطة التحول أو التغير المفاجئ في أسلوبه، بعد أن شاهد طغيان الاتجاه اللا تشخيصي في الأعمال المعاصرة إلى درجة كبيرة من الغرابة والتطرف أحياناً، إلا أن أثر تلك الرحلة لم يكن التماهي مع ذلك التيار المعاصر آنذاك، وإنما الهجوم العنيف في جلساته وحواراته على التجريدية التي لا تبغي غير التجريد في ذاته، وذات مرة وقف بين عدد من الفنانين وقال: «ما حكاية هؤلاء التجريديين.. أيحسبون أنهم يفعلون شيئاً خارقا؟! إنني أستطيع أن أفعل مثلهم في هذه الشخبطة»، ليعلن وبعد أكثر من عشرين عاماً من النجاح المتصل في اتجاهه الفني، تمرده على الأسلوب الأكاديمي وينتقل بغير مقدمات إلى التجريدية. يضاف إلى ذلك شعوره المستمر بعدم الرضا عما ينتجه من أعمال، وعلى حد تعبيره «كنت كلما أقمت معرضاً في تلك المرحلة السابقة، وشاهدت الناس مسرورين مهنئين أحسست بالمرارة»، موضحاً أن الرسالة قيادة وقدوة وابتكار بالمعنى العميق للكلمة، وإنه لم يكن راضياً عن نفسه طوال ما يقارب عشر سنوات إجادة على مستوى الصنعة بالمفهوم الدارج العادي، إلى أن انفجرت الثورة في داخله ضد المألوف العادي، حيث إن معظم الناس أحباء لما ألفوا وأعداء لما جهلوا، وأن أسلوبه انقلب فجأة وبلا تدرج من الأكاديمي إلى التجريدي، وأنه انطلق بذلك الاتجاه الجديد إلى آفاق أعلى يحدوها الصدق والخصوصية، وربما عززت علاقته منذ الصغر بالموسيقى وعزفه على آلة الكمان، تحوله إلى التجريد، فدلف إلى عالمه من باب الموسيقى التي عشقها، كما استفاد أيضاً من قراءته في الفلسفة وعلم النفس، ومن كل المدارس التي مارسها أو درسها، سواء عملياً أو نظرياً موظفاً إياها في أسلوبه الجديد. وقد احتفظ صلاح طاهر - على حد قول الشاعر جورج حنين- في سعيه للعالمية بجوهره القومي بكل امتلائه واكتماله، وأننا لنجد في هذه الصور التشكيلية الأصلية أن القيم الجمالية التي توصلت إليها الفنون الفرعونية والقبطية والإسلامية قد احتفظ بها، والنتيجة النهائية لهذه اللوحات تعبير عن الشوق إلى المطلق، وحرية لا ترفض قوانين الجمال، ولكن هناك عوامل عدة يمكن اعتبارها السبب الفعال في هذه الطفرة، أو بمعنى أدق كانت سبب استمراره في هذا الطريق، ثم إجادته له حتى أصبح أشهر التجريديين في العالم العربي. وكان طاهر عقب زيارته الولايات المتحدة قد قال: «ذهبت لحضور معرض عن الفن الأميركي المعاصر في مدينة بوسطن، وعندما توجهت لمشاهدة اللوحة الفائزة، وكانت لفنان من ألاباما، إذ بي أجدها تحمل اسم «طبيعة صامتة صينية»، ولكنني لم أر فيها أثراً للطبيعة أو الصينية، وأذكر أني حضرت المعرض خمسة أيام متتالية لأشاهد تلك اللوحة وأتأملها، إلى أن اكتشفت بها جميع القيم الفنية، الموضوعة في قالب تجريدي بحت». وكان يشبّه تغيير أدائه الفني بعد تلك الواقعة وانتقاله المفاجئ إلى النهج التجريدي بعد مرحلته الأكاديمية، بهجره الرياضة العنيفة - الملاكمة - إلى الأبد وممارسته رياضة التأمل «اليوجا». وكتب صلاح طاهر فيما يشبه مذكرات شخصية له قائلاً: «حب القراءة المُجدية، وحفظ الشعر بدأ في عمر 11 سنة، وكانت في بيتنا مكتبة، ثم كان اهتمامي بالرياضة البدنية منذ التاسعة من عمري في المدرسة الابتدائية، ثم ركزت على الملاكمة في سن 15، وحصلت على بطولات في سن 18 و19، وبعد العشرين تركت الملاكمة للأبد، بعد ذلك انتابتني إلى سن 23 سنة حالات نفسية سيئة بعد أن قرأت فلسفة شوبنهاور التشاؤمية، وأنا في سن 19 سنة كنت أعزف كمنجة والتقيت بالعقاد، وظلت معي أبوة العقاد الروحية، بعد ذلك التحقت بمدرسة الفنون الجميلة العليا في سن 29، وكان العميد والمدرسون أجانب، ومنهج التعليم أكاديمي بحت من الجميع، احتوت رأسي في مضمار الفن كل المنجزات الفنية من العصر الحجري القديم إلى عصرنا الحاضر في جميع بقاع الكرة الأرضية، لكن أين أنا من ذلك الطوفان الرهيب في مضمار الفن والثقافة، أجتر المعلومات ولا يمكن أن أخدع نفسي والآخرين، فكثير من المشتغلين بالفن ينطوون تحت لواء أحد الفنانين مقلدين أو متأثرين، قد يكون هذا الأمر طبيعياً عند الآلاف، ولكنه لا يمكن أن يكون عند صاحب رسالة في الفن أو في غير الفن». وكان صلاح طاهر يؤمن بأنه حين ندرك الأشياء التي نعايشها عن طريق الحواس، والبصر هو أكثر الحواس التي نتعامل معها طوال يقظتنا، وعملية الإدراك هذه تختلف وتتفاوت في مستوياتها بين جميع الناس، كل حسب تكوينه الثقافي وآفاقه الإنسانية، كل ذلك من الأمور البديهية المفروغ منها، ولا شك أن البصر عنصر مهم جداً في حياتنا اليومية وأساس رئيس كخطوة أولى للمعرفة، ولكن البصيرة هي التي تصنع السمو اللانهائي للبشرية، فهي أبعد وأعمق وأوسع وأشمل وأبدع وأعجب من البصر، وحين لا يستطيع الإدراك البصري -المباشر- أن يتخطى حدود الواقع المحدود، فإن البصيرة تنطلق إلى آفاق أخرى بالغة السمو، مذهلة لا تخطر على بال، ترتفع بالإنسان إلى مستوى حضاري لا حدود له، إن البصيرة هي عماد الروحانيات والحب والإبداع في الفن. في مرحلته التجريدية، لم يكن يهم طاهر التأكيد على انتمائه العميق لتراثه الإسلامي العربي واستلهامه الحروف العربية والخط العربي في إبداع لوحاته، وإنما التأكيد على تلك الصلة الحميمة بين الخطوط العربية والفن التشكيلي المعاصر، والوصول بالأداء اللوني إلى المعنى غير الظاهر للعلامة المستندة إلى الإيحاء الكامن في المعنى، فلم يكن من تلك الفئة من الفنانين الذين يدخلون الحرف العربي إلى اللوحة كعنصر تشكيلي أساسي في اللوحة، أو الفئة الثانية التي لا ترى علاقة للحرف بمضمون اللوحة، وإنما يكون الحرف فيها عنصراً تشكيلياً فحسب. قال طاهر: «إنني مدين في كل هذا للمراحل السابقة في فني، إذ كنت شغوفاً إلى أبعد الحدود بالطبيعة، بكل ما تصوره هذه الكلمات من معانٍ، كما كنت شغوفاً أيضاً بالإنسان إلى حد كبير، وقد صورت في سني حياتي الفنية الأولى عشرات بل مئات اللوحات عن الريف والصحارى، والجبال والفلاحين والحيوانات، وغير ذلك من مظاهر الطبيعة النابضة، وأضيف إلى ذلك أيضاً شغفي بالآثار والحضارات القديمة في مطلع حياتي، وقد كانت الفترة التي أمضيتها في مرسم الأقصر، فترة الترهب والقراءة والتأمل». إرادة الله الطبيعة في حركة دائمة وفي خلق مستمر، ولو شئنا تعريف «الله» لقلنا إنها إرادة عظيمة جبارة لا تهدأ ولا تكل، فهو العامل وهو الفنان الأعظم وهو الحافز الحيوي للخليقة كلها، لا ينفك يبدع ولا ينفك يخلق ويفتن، ومن ذلك مر طاهر بمرحلة من التصوف دفعته لإنجاز ما يقرب من 600 لوحة تصور لفظ الجلالة «الله» وأسماء الله الحسنى. من مفكرة صلاح طاهر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©