الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حمائم وصقور في 10 داونينج ستريت

حمائم وصقور في 10 داونينج ستريت
26 أكتوبر 2008 23:11
بعد أن غابت الشمس عن الإمبراطورية البريطانية، تناوب على صنع القرار في بريطانيا رؤساء وزارات من أصحاب الشخصيات المتباينة في طرق تعاملها مع الأزمات الأوروبية والعالمية· ومن أشهر هؤلاء تشمبرلين وتشرشل وثاتشر (المرأة الحديدية) وتوني بلير· وبدا التناقض في توجهات هؤلاء وخصائصهم الشخصية واضحاً قبل بداية الحرب العالمية الثانية عندما عادت المشكلة الألمانية إلى واجهة الأحداث في أوروبا كلها بعد أن ظهر الدكتاتور النازي أدولف هتلر على الساحة في النصف الثاني من عقد الثلاثينات وبدأ بتسليح ألمانيا مناقضاً بذلك معاهدة فرساي التي فرض بموجبها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى عليها شروطاً مغالية في قسوتها· وعندما تأزم الموقف في عام 1937 حصل خلاف في مجلس العموم أدى إلى تنازل رئيس الوزراء ستانلي بولدوين عن منصبه وتم اختيار نيفيل تشمبرلين من حزب المحافظين خلفاً له· اتضح من تلاحق الأحداث بعد ذلك أن تشمبرلين كان حمامة تعيش في معاقل النسور· وطرب هتلر لهذه الأخبار لأنه كان يعرف مدى رغبة تشمبرلين في الجنوح إلى السلم، وهو ما هيأ للدكتاتور الألماني فرصة استكمال بناء الجيش الذي كان يستعد لخوض الحرب العالمية الثانية· وعندما تحدى هتلر بريطانيا وفرنسا من خلال ضم النمسا إلى الرايخ، وأعلن عن خطط عسكرية لاجتياح تشيكوسلوفاكيا وبعدها بولندا، أظهر تشمبرلين ميلاً يخلو من الحس الاستراتيجي القويم لمهادنته بعد أن تسرّب إلى عقله الشعور بأنه رجل سلام لا رجل حرب يعمل على احتلال أوروبا كله· وكان يعارضه في هذا التوجّه الانهزامي شخصيات سياسية بارزة في مجلس العموم وعلى رأسهم خلفه المقبل ونستون تشرشل الذي قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية وعرف عنه أنه قائد استراتيجي محنّك· نزل تشمبرلين (10 داونينج ستريت) بين عامي 1937 و،1940 وهو الذي أطلق خطاً لسلسلة لا تنتهي من التنازلات أمام المستشار الألماني العنيد عرفت فيما بعد باسم (استسلام ميونيخ) وكانت جلّها تتم من خلال زيارات مكوكية إلى مقر هتلر في أعالي جبال الألب البافارية ويطلق عليه (عش النسر)· وفي شهر مايو من عام ،1940 استقال تشمبرلين تحت ضغط المعارضة في مجلس العموم وجاء دور ونستون تشرشل خريج الكلية العسكرية الملكية الذي ينحدر من أسرة عريقة حيث كان أبوه رادولف يحمل رتبة لورد· ويتفق معظم مؤرخي الحروب الحديثة على أن ونستون تشرشل هو (صقر) بريطانيا وبطل الحرب العالمية الثانية· وهو الذي تنبأ قبل غيره بالخطط التوسعية النازية ودعا إلى الوقوف في وجهها· وعندما تحققت نبوءات تشرشل عقب اندلاع الحرب، سقطت حكومة تشمبرلين وأصبح تشرشل رئيس الوزراء القوي الذي تمكن من الصمود أمام القصف الألماني العنيف لكل المدن الإنجليزية والذي استمر لنحو خمس سنوات· وهو الذي قاد بريطانيا إلى دحر ألمانيا النازية بمساعدة الحلفاء ، خاصة بعد قراره الصائب بتعيين الفيلدمارشال مونتجمري قائداً للجيش الثامن البريطاني المهزوم في شمال أفريقيا· والذي نجح في هزيمة ثعلب الصحراء الألماني رومل في حرب العلمين· دبلوماسية السيجار وكثيراً ما كان السير ونستون تشرشل يجد في تلك الأوقات العصيبة فرصته السانحة لإثبات مواهبه في القضايا الاستراتيجية والعسكرية· وكان ''السيجار'' لا يفارق فمه أو يده في كل أوقات هذه الأيام العامرة بالأحداث الجسام حتى أصبح من المفردات التاريخية لتلك الفترة كلها وليس لسيرة هذا الرجل العملاق فحسب· ولسيجار تشرشل قصة مثيرة، ففي عام ،1895 ذهب كجندي إلى كوبا التي كانت في ذلك الوقت تناضل للتحرر من الاستعمار الإسباني· ويبدو أن هذا البلد الكاريبي البعيد امتلك على تشرشل عقله فكتب فيما بعد في مذكراته الشهيرة يقول:''إن كوبا هي المكان الذي يهيئ لك رؤية الأشياء على حقيقتها· وهي المكان الوحيد الذي يستحق أن تُدفن فيه عظامي''· وكانت هذه الزيارة وراء ولع تشرشل بالسيجار الكوبي حيث استهلّ به عادة التدخين حتى أصبح سيجاره لصيقاً بشخصيته التاريخية خلال فترة حياته المتبقية التي امتدت لأكثر من نصف قرن· وعندما وصل إلى هافانا لأول مرة في شهر نوفمبر من عام 1895 برفقة ضابط زميل يدعى ريجينالد بارنيس، فضل أن يقضي بضعة أيام في واحد من أفضل فنادق المدينة وهو يستمتع بأشهر الاختصاصات الكوبية ·· البرتقال والسيجار· وقال لاري آرن، مساعد مارتن جيلبيرت الذي تخصص في كتابة مذكرات تشرشل متذكراً ما حدث بعد ذلك فقال:''عقب هذه الفترة، أصبح السيجار ومعه كل المصنوعات الكوبية دون استثناء، شيئاً مقدساً في حياة تشرشل''· وكان شغوفاً باختيار أفخر أنواع السيجار الكوبي مثل ''روميو وجولييت'' و''لارمورا دو كوبا''· وحرص على إقامة علاقات وطيدة مع بعض تجار هذه الأنواع من السيجار الهافاني حتى يضمن وصول إمداداتها دون انقطاع حتى خلال فترة الحرب العالمية الثانية التي أصبح بطلها الأول· وفي شهر فبراير من عام ،1945 وعقب انتصاراته الكبرى التي حققها في الحرب العالمية الثانية عندما دحر جيوش هتلر بمعونة الدول الحليفة، كان على تشرشل أن يمتثل لأمر ملكي يتخلى بموجبه عن عادتيه المحببتين، تدخين السيجار واحتساء الكحول، وذلك لأنه كان بصدد استقبال ملك المملكة العربية السعودية الراحل عبد العزيز آل سعود· وأودع بعد ذلك في مذكراته وصفاً لما حدث فقال: ''لقد وجدت نفسي أمام جملة من المشاكل الاجتماعية في وقت واحد· فلقد طلب مني قسم البروتوكول في القصر الملكي الامتناع عن التدخين واحتساء الكحول في حضرة صاحب السمو الملكي السعودي· وباعتباري المضيف في حفلة الغداء هذه فلقد قررت التمسك بموقفي حيث أخبرت مدير البروتوكول بأنه إذا كان الدين الإسلامي الذي يؤمن به الملك عبد العزيز يحظر عليه التدخين واحتساء الكحول، فإن تعاليمي الدينية لا تمنعني من ذلك· ومن حقي إذن أن أفعل ذلك قبل أو بعد أو أثناء الغداء· وتمّ بعد ذلك إبلاغ جلالة الملك بهذا الموقف فعبّر عن تفهمه له ووافق على الجلوس إلى مائدة تشرشل حتى في حالة ممارسته لعاداته المحببة''· وخلال فترة انشغال تشرشل بالقضايا السياسية المعقدة التي كتب له أن يتحمل مسؤولياتها الكاملة فيما بعد، لم يتخلَّ عن ''سيجاره'' للحظة واحدة· وكان واقعاً تماماً تحت تأثير الشعور بأنه غير قادر على التخلي عن سيجاره حتى لأقصر فترة ممكنة· ويذكر كاتب مذكراته جيلبيرت أنه فيما كان يشغل منصب رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، كان يعتزم ركوب طائرة في رحلة طويلة تتطلب التحليق على ارتفاع عال، وكانت مقصورة الركاب غير مكيفة الضغط مما يقتضي منه ارتداء قناع الأوكسجين، فطلب من خبير كان يرافقه على الرحلة أن يتدبر طريقة تسمح له بالجمع بين التدخين وارتداء القناع· ولم يتأخر الخبير عن تنفيذ طلبه حتى تمكن من التدخين عبر فتحة هوائية خاصة تخترق القناع· وكان تشرشل يدخن يومياً بين ثمانية وعشرة ''سيجارات'' بالرغم من أن تدخينه ''ليس تدخيناً'' بالمعنى الدارج لأنه نادراً ما يستنشق الدخان إلى رئتيه بل كان يضع السيجار في طرف فمه ليطلق دخانه كيفما اتفق· وكان يتضايق من ترطيب طرف السيجار مما يجعله يطلق بعض خلاصة التبغ الذائب في اللعاب إلى فمه، فابتدع لذلك حلاً، حيث كان يلفّ طرف السيجار بنوع من الورق البني الجاف والعازل· ويقول العارفون بعادة التدخين لدى تشرشل إنه لو لم يتوصل إلى ابتكار هذه الطريقة لانخفض معدل استهلاكه من السيجار إلى النصف· هدايا تشرشل المفضلة كثيراً ما كان كبار السياسيين العالميين يقدمون لتشرشل علب السيجار الكوبي كهدايا لأنهم يعلمون مدى حبه له· ويسجل المتابعون لسيرته السياسية أن تدخين السيجار في الاجتماعات المهمة التي كان يعقدها مع بعض رؤساء الدول كان في بعض الأحيان يثير نوعاً من التوتر والحرج السياسي· فلقد اشتكى الكثير من الزعماء من رماد سيجاره الذي كان يسقط على المقاعد والسجاد الوثير في غرف الاجتماعات التي كانوا يستقبلونه فيها· وهذه العلاقة الغريبة بين تشرشل وسيجاره دفعت بعض المحللين إلى التساؤل: هل كان لتشرشل أن يسجل كل هذه المآثر القيادية التي غيرت تاريخ العالم لو منعه أحد من تدخين السيجار؟· وإذا كان الجواب هو كلا، ألا يعني ذلك بطريقة ما أن سيجاره أسهم في إعادة كتابة التاريخ· وتشاء الأقدار أن يختتم تشرشل السنوات الأخيرة من حياته وهو يعاني من حالة اكتئاب مؤلمة حتى توفي في الرابع والعشرين من شهر يناير من عام 1965 عن 81 عاماً· امرأة من حديد مارجريت ثاتشر هي أول امرأة تتقلد منصب رئيسة وزراء بريطانيا· وتسلقت سلم المسؤولية بإرادة صلبة وتفكير استراتيجي يعزّ حتى عند الرجال· ارتقت إلى منصب قائدة المعارضة في مجلس العموم في 18 سبتمبر من عام 1975 · وفي انتخابات عام 1979 سحبت الثقة من جيمس كالاهان كقائد لحزب العمال ورئيس للوزراء وفاز حزب المحافظين بقيادة ثاتشر بأغلبية 44 صوتاً لتصبح أول امرأة تنزل (10 داونينج ستريت)· واشتهرت ثاتشر بلقب (المرأة الحديدية) من خلال موقفها المتصلب من مشكلة مستعمرة جزر المالوين (أو الفوكلاند) التي حصل بشأنها خلاف مع الأرجنتين باعتبارها تحاذي مياهها الإقليمية وتبعد أكثر من 15 ألف كيلومتر عن بريطانيا· وفي عام 1983 اندلعت بين الطرفين حرب شهيرة حقق فيها البريطانيون نصراً ساحقاً بعد أيام قليلة وأثبتت ثاتشر من خلالها أنها من صقور 10 داونينج ستريت بامتياز· حلاّل المشاكل يبدو أن توني بلير من الزعماء البريطانيين الذين تأثروا بشخصية تشرشل وكان ذلك واضحاً من خلال تأييده للحرب على العراق بالرغم مما يبدو عليه في بعض الأحيان من ميل للسلام والعمل على حل المشاكل المستعصية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©