الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في 25 فبراير اجتاز رولان بارت خط الموت

في 25 فبراير اجتاز رولان بارت خط الموت
16 سبتمبر 2016 23:18
ترجمة - أحمد عثمان بالنسبة لي، تنبجس الذكرى حينما أحاول إدراك سخرية القدر أو أسعى لإقناع طلابي بضرورة الذهاب إلى أقصى حد. هذا يتعلق برولان بارت، الناقد الأدبي الذي سافرت للدراسة على يديه في باريس خلال عام 1974. عصرذاك، شارك خمسة عشر طالباً فقط في حلقته الدراسية الأسبوعية. كنت الأميركي الوحيد في مجموعة غالبية أعضائها من الفرنسيين. كان صوت بارت يثير اهتمامنا أكثر من أي شيء آخر. نبرته الهادئة والعميقة تصقل الكلمات التي ينطقها، وتجعلها واضحة. يسحر عقلنا بكلماته. كانت كلماته تدور في عقلنا، تفتح فضاءات خيالية راجعة دوماً إلى فكره. كان كل واحد منا مسجلاً للحصول على الدكتوراه من الدرجة الثالثة. قررت كتابة أطروحتي حول اللغة والموت، حول خطاب الموت في وسائل الإعلام الأميركية. أجهل تماماً ما الذي دفعني لاختيار موضوع مرعب مثله. الموت، قابلته حينما التحقت بالمارينز، غير أنني كنت أسعى لفهم شكل آخر للموت. الموت حاضر في الحياة، في كل اللحظات التي لا نحياها، الموت يلغم الحياة. بدأت أجري أبحاثي في المكتبة الوطنية، وأدون المراجع على بطاقات (×85). لم أتمكن من الكتابة، ولكنني كنت مسحوراً من جراء القلق من الصفحة البيضاء الذي سوف يتبدد عندما أثابر على العمل. لم أنجح في إتمام جملة على الصفحة البيضاء. ربما كانت لهذه الإعاقة علاقة بالخوف من الكتابة بلغة أخرى. كنت أتحدث الفرنسية بطلاقة، ولكن لم أعمل من قبل على الكتابة بها على صفحة بيضاء. مضت خمس سنوات. كل ما جهزته لأطروحتي، علبة من الورق المقوى مملوءة ببطاقات (×85)، مواد ثانوية مجمعة من المراجع التي قرأتها. ولكن لم أبدأ بعد في كتابة أطروحتي عن الموت واللغة. كانت حياتي موزعة ما بين صالة القراءة في المكتبة الوطنية، والملهى الليلي في (حي) مونبارناس حيث أعمل حتى الفجر. كل صباح، عندما أجتاز البون - نوف لكي أرجع إلى مسكني، ألقي نظرة إلى نهر السين، وأدرك أن نهاراً جديداً بدأ في الانسيال. لم أبدأ بعد في كتابة أطروحتي عن الموت واللغة. ماذا سأفعل في حياتي؟ أشعر بأنني واقع في شرك. عقدة الأب مدركاً أنني أحتال على نفسي، وأنني لن أكتب أبداً هذه الأطروحة، توجهت إلى محلل نفساني. رأى الأخير أن بارت هو الأب الذي لم أعرفه أبداً، وأنني، إنْ لم أكتب أطروحتي، سأظل رمزياً مرتبطاً به، كأنني ابنه. هذه النظرية تبدت لي بسيطة للغاية، وحررتني من أي مسؤولية. في يناير من عام 1979، غادرت باريس ورجعت إلى سان فرانسيسكو، من دون أن ألقي تحية الوداع على بارت. لماذا أعلن فشلي؟ غادرت باريس من دون إنهاء ما كنت أتيت بسببه. وصلتني رسالته في أكتوبر. ذكر بارت أنه ترك مدرسة الدراسات العليا. وأنني إذا وددت إنهاء أطروحتى تحت إشرافه، من الضروري أن أكاتبه وأن تكون رسالتي بين يديه في موعد أقصاه 15 ديسمبر القادم. التأجيل غير ممكن. التاريخ صدمة، «خط موت». «الكرة بين يديك»، كتب لي. أنزلت ستائر شقتي، جلست إلى المكتب، وقررت أن الوقت أزف لمواجهة أطروحتي. تناولت صندوق البطاقات. راح العرق ينسال على ظهري، كما كان يجري في المكتبة، في باريس. انتابني القلق، أعرف أنني – هذه المرة – يجب أن أواجه أطروحتي. تلك هي فرصتي الأخيرة. خلال ثمانية أسابيع، أخذت أكتب من الصباح حتى الليل. الصفحة الأولى منحت الحياة للثانية، وهكذا. اكتمل فصل. وبالتالي جاءت اللحظة التي أخذت أطروحتي تنكتب بمفردها. في الساعة الرابعة من صباح 13 ديسمبر، وضعت نقطة النهاية في «تمثل الموت المجهول في الصحف الأميركية». كانت أطروحتي جاهزة. ولأنني استقلت من وظيفتي للكتابة، لم أكن أمتلك أي مال لكي أستقل الطائرة متوجهاً إلى باريس. في 14 من ديسمبر، حسب التوقيت في فرنسا، اتصلت هاتفياً بشركات الخطوط الجوية لكي أعرف إنْ كانت هناك رحلات إلى باريس. لم تكن هناك أي رحلة مباشرة مبرمجة، ولكن سيدة من موظفي TWA ذكرت لي أن هناك رحلة «شارتر» تنطلق من مطار أوكلاند في المساء. اجتزت «باي بريدج» بالسيارة وأطروحتي على ركبتي. حينما دخلت إلى المطار، تفحصت الوجوه ورأيت امرأة تطابق ملامحها ما كنت أبحث عنه: شخصية حالمة، ودودة ومتفتحة. قدمت نفسي لها، وأوضحت لها أنه من الضروري أن تكون أطروحتي في الغد في باريس، وأنني لا أتوافر إلا على خمسين دولاراً. هل يمكنها تسليمها؟ ألقت نظرة على الاسم والعنوان، ثم ابتسمت: «أعرف رولان بارت. سوف أكون سعيدة بحمل أطروحتك». كانت لحظة كبيرة، لقد انتهيت من أطروحتي. لم يتبق إلا الذهاب إلى باريس لاجتياز الفحص الشفهي والمدافعة عن الأطروحة. كاتبني بارت في الأسبوع نفسه. حياني لإتمامي أطروحتي، وأضاف أن اللجنة سوف تنعقد في 27 فبراير، في الساعة الثانية بعد الظهر، في السوربون، شارع دي زيكول، «مرحى، ستيورات، تهانيّ»، أضاف في نهاية رسالته. ذات شتاء باريسيّ كانت باريس غارقة في المناخ الشتوي عند وصولي. في 25 من فبراير، سعيت إلى لقاء بارت في شقته. لا رد. هاتفت مدرسة الدراسات العليا التي أوصلتني بمساعده. فأجابني أن بارت في اجتماع، بيد أنه ترك رسالة تبين مدى تقديره لأطروحتي، وأنه يسعده مقابلتي في الغد. طلب مني الاتصال في الصباح لكي يعلمني بعدم حدوث أي تعديل في البرنامج. في الواقع، من المألوف أن تقوم السلطات الجامعية بتغيير صالات المناقشة في اللحظة الأخيرة. في الساعة الحادية عشرة، كنت في «كابينة» هاتف مقهى أتريوم، بولفار سان- جرمان. أحدق بثبات إلى نسخة من «عباد الشمس» لفان جوخ منتظراً أن تجد السكرتيرة مساعد بارت. بدأ المساعد في الكلام: «ستيورات، لدي خبر سيئ. صدمت شاحنة رولان. إنه في غيبوبة». لا أعرف كم بقيت من وقت في «الكابينة»، ولا أعرف كيف خرجت منها. بعد شهر، رن الهاتف في شقتي. كانت باريس. «مات رولان بارت»، قال مساعده. قطعت الاتصال الهاتفي. العالم ينهار. بعد مرور ثلاثة أشهر، تلقيت رسالة مختصرة يخبرني فيها المساعد بأنني سوف أناقش أطروحتي في فبراير القادم. علي أن أرجع، وأن تكون لأطروحتي نهاية، وأرفض موت رولان. نعم، أصبح (رولان) منذ وفاته. حينما وصلت إلى جامعة نانتير، في الضاحية، أدخلوني إلى مدرج خالٍ يحتوي على مئات المقاعد. ثلاثة أساتذة، من أصدقاء وزملاء رولان بارت لفترة طويلة، ينتظرون خلف طاولة طويلة. مقعد خالٍ موضوع إلى جانب. بدأ الأول في إبداء رأيه حول أطروحتي، وهو يتطلع إلى هذا المقعد. الثاني صاغ بعض الملاحظات النقدية، ثم توقف لكي يتأمل المقعد الخالي قبل أن يطرح أسئلته علي. علق الثالث على عملي ناظراً إليّ وإلى الحضور الصامت القابع بيننا بالتبادل. وجهت إجاباتي عن أسئلتهم إلى المقعد. كنت أعرف، مثل الآخرين، أن الغائب ملأه بحضوره. انتظرت خمس دقائق على الأقل خارج الصالة قبل استدعائي. «دكتور ليند، لقد حصلت على درجة جيد جداً». بالعودة إلى سان فرانسيسكو، احتفظت ببارت في داخلي، أعماله على أرفف مكتبتي، صورته على الحائط، يرتدي معطفاً، تحت المطر، ويطأطئ رأسه لكي يشعل سيجاراً، ورسالة تهنئته. أصبح متحفاً في ذاكرتي. بعد فترة طويلة، اندهشت حينما تلقيت مقالاً من صديق باريسي يبدأ على هذا النحو: «مضت خمسة عشر عاماً على اليوم المشؤوم الذي دهست شاحنة فيه رولان بارت، بينما يتهيأ لاجتياز شارع دي زيكول». ولكن، عندما قرأت هذا المقال بأكمله، أدركت بأن بارت كان سيضع تحت ذراعه يومذاك أطروحة عن الموت واللغة. وهكذا أنصح طلابي بأن لا ينصتوا لمن يقول لهم إن الوقت تأخر. دوماً، الوقت متأخر، ولكن من اللازم على كل حال المحاولة. الموت يلغم الحياة قررت كتابة أطروحتي حول اللغة والموت، حول خطاب الموت في وسائل الإعلام الأميركية. أجهل تماماً ما الذي دفعني لاختيار موضوع مرعب مثله. الموت، قابلته حينما التحقت بالمارينز، غير أنني كنت أسعى إلى فهم شكل آخر للموت. الموت حاضر في الحياة، في كل اللحظات التي لا نحياها، الموت يلغم الحياة. Stewart Lindh، La «deadline» franchie par Roland Barthes un 25 février…، Libération، 29 avril 2015 (*) ستيورات ليند، كاتب أميركي وبروفيسور الأدب. آخر طلاب رولان بارت. ** في الخامس والعشرين من فبراير 1980، في الساعة 15.45، بينما كان السيميولوجي رولان بارت يتوجه إلى الكوليج دو فرانس، دهسته شاحنة، في شارع دي زيكول، توفي على أثرها في 26 مارس، بمستشفى سالبيتريير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©