الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المشوار الطويل

المشوار الطويل
27 أكتوبر 2008 23:17
لم أكن أعلم بالضبط متى بدأ مسلسل العداء بين أبي وعمي، لست وحدي الحائر في هذا الموضوع جميع إخوتي وكذلك بنات عمي، الكل لا يعرف السبب الذي يجعل الأخ يقاطع أخاه ولا يطيق سماع أي شيء عنه بشكل لا يقبل المناقشة وبلا تفسير معقول· كنا نحاول تبرير تلك المقاطعة بطرقنا الخاصة فنقول مثلاً: ''ربما كرها بعضهما بسبب التدليل، فقد ولدا كطفلين وحيدين لتاجر ثري· أو ربما بسبب التفضيل''؛ لأن جدي -رحمه الله- كان يفضل أبي دائماً، فهو الولد البار بوالده· ترك الدراسة الجامعية، وتفرغ للعمل التجاري مع والده، أما جدتي -رحمها الله- فقد كانت متعلقة بعمي، فهو يتميز بشخصية مرحة بالاضافة لشكله الوسيم الجذاب، وقد كان عمي عكس والدي، لا يحب التجارة ولا يشتهيها، وهو متعلق بالدراسة والتحصيل العلمي، بالاضافة لولعه بالآداب والفنون، ما كان يثير والده ضده لأنه فشل في إقناعه بأن يترك ''الكلام الفاضي'' ويفرغ نفسه للتجارة ليضمن العيش بمستوى مريح· على الرغم من كل الكره وعدم الاتفاق بين أبي وعمي، إلا أنهما كانا متواصلين ما دام أن والديهما على قيد الحياة، ولكن بعد أن انتقل العجوزان إلى رحمة الله، أخرج كل منهما ما بداخله تجاه الآخر ثم انفصلا عن بعضهما انفصالا كاملا، فلا لقاء ولا مجاملات ولا سؤال ولا جواب، إلا بعض الأخبار التي تصلهما عن بعضهما من خلال بعض المعارف· بعد وفاة جدي ورث والدي كما ورث عمي مالا كثيرا، وبالطبع فقد باعا كل ما يمكن أن يربطهما ببعض، وقد قام والدي بإنشاء مشاريع تجارية خاصة به، وضل متفانيا في عمله مخلصا له، يعطيه كل وقته وجهده، حتى يضمن لنفسه البقاء في مستوى يجعله من كبار التجار· أما عمي فقد أنفق ماله على أجوائه الخاصة في حفلات طرب دعا إليها كبار النجوم بمزرعته الخاصة، يتزوج ويطلق بالسر على الرغم من كونه رجل متزوج ولديه خمس بنات، لذلك لم يدم عزه طويلا حتى أنفق كل ما لديه ولم يبق له إلا البيت الذي يضم عائلته· عندها اضطر للعمل بوظيفة حكومية بالشهادة الجامعية التي حصل عليها فكان يكد طوال الشهر ليحصل على الراتب الذي يذهب معظمه لتغطية الديون والسلف التي يقترضها باستمرار بسبب حبه للهو والعبث· الغريب هو أنهما كانا متناقضين حتى من ناحية الخلفة، حيث رزق الله والدي ستة من الذكور وأنا الثاني بينهم، أما عمي فقد رزقه الله بخمس من البنات أكبرهن أصغر من أخي الأكبر بسنتين· اللقاء الغريب كنا نسمع عن عمي وأسرته ولم يصادف أن شاهدناهم يوماً ما طوال فترة طفولتنا، ولكن عندما كبرنا، وأصبح أخي الأكبر في سن الثالثة والعشرين وأنا أصغر منه بعامين، زارتنا زوجة عمي بصحبة ابنتها الكبرى وكانت تبكي بحرقة، وهي تتوسل إلى والدي أن يتدخل ويمنع الكارثة، فعمي يفكر ببيع البيت الذي يسكنون فيه لدفع الديون المتراكمة عليه، فأين ستذهب هي وبناتها إن باعه؟ كما أكدت لوالدي أن زوجها قد فقد عقله بسبب الكحول الذي أدمنه، وهو لا يعي ما يفعله، لقد فقد صوابه ولم يعد يفكر باسرته إطلاقاً· سمع والدي شكواها ببرود تام حتى شعرنا أنا وأخي الأكبر بحرج شديد من موقفه، فعلى الرغم من كل شيء هي امرأة تستنجد به والمعروف عن والدي شهامته وحبه لمساعدة الناس فلماذا يظهر كل هذا البرود واللامبالاة مع زوجة أخيه؟ إنه أمر صعب لا يمكن تقبله· كانت وجوهنا تنطق بالتساؤل والحيرة ونحن ننظر لوالدي ووالدتي التي كانت أبرد من والدي في توجيه نظرات الحقد والاحتقار لتلك المرأة مما جعل الأمر أكثر صعوبة· ماذا يخفيان عنا ياترى؟ بقي هذا التساؤل يتردد بيني وبين أخي الأكبر في ذلك اللقاء الغريب الذي كنا شهوداً فيه على هذه العلاقة العجيبة بين الأخوين· بعد تلك الزيارة، لاحظت بأن أخي قد تغير، فقد أصبح متحمساً بشكل ظاهر لأسرة عمنا، وقد أدركت سبب حماسه، فهو خلال وجود المرأتين في بيتنا لم يرفع عينه من على ابنة عمنا حتى شعرت البنت بالاحراج من نظراته وظلت تنظر إلى الأرض، وكما توقعت بمجرد أن تجاذبنا الحديث أنا وهو حول أسرة عمي، كاشفني برغبته في الارتباط بابنة عمنا· نقلت الخبر إلى والدتي التي رفضت الفكرة بشدة ولكنها انصاعت لإلحاحنا ونقلتها إلى والدي، وكما توقعنا، فهو رافض بشكل تام لأي نوع من الترابط مع عائلة أخيه، ولكن أخي لم يقتنع أبداً، فأخي هذا من النوع اللحوح واللجوج الذي لا يكل ولا يمل من الحنّة والرنّة حتى يحصل على ما يريد· منذ طفولته تعود أن يبكي بشكل متواصل ويصدر أنيناً رتيباً متواصلاً حتى يحدد رغباته حتى لو كانت مستحيلة، فكان من الطبيعي أن يشغّل طاقته كلها في التأثير على والدي حتى تمنى والدي أن يلقي بنفسه في هاوية سحيقة كي لا يستمر بسماع النغمه المملة التي استمر أخي بإلقائها على رأسه· عموماً، ففي النهاية كسب أخي الجولة كما توقعنا وسحب والدي من يده وذهبنا معاً لنخطب له ابنه العم التي يريدها على الرغم من اعتراض والدتي الكامل لمثل هذه الأمر· اللقاء الساخن استقبلنا عمي ببرود أشد من الذي كان عليه أبي وهو يستقبل زوجة عمي، واستمع بملل واضح إلى والدي وهو يعرض عليه المساعدة المالية المطلوبة لتسديد كافة الديون شرط موافقته على خطبة ابنته إلى ابنة عمها· بمنتهى قلة الاحترام والأدب رد عليه عمي ليخبره بأنه ليس بحاجة لصدقة منه وأنه لن يزوج ابنته من هذا لأبله الذي فشل في دراسته والذي يشبه الثور· كانت تلك الكلمات صعبة وقاسية على أخي، فهو فعلاً كبير الحجم كالثور، ولكن شخصيته لطيفة، يحب عمله ويتفاني فيه كوالدي تماماً، وهو لم يكن يحب المدرسة، لذلك فقد تركها وتفرغ للعمل مع والدي منذ أن كان صغيراً· اشتعلت العصبية برأس والدي بعد أن نظر إلى أخي فوجده وهو محرج ويكاد يبكي من شدة الإهانة التي لحقت به، فاخذ يطلق كلاماً جارحاً يقلل فيه من شأن أخيه، وصار يعايره بوضعه البائس وأعماله المخطئة التي مرغت سمعة العائلة بالطين، فما نفع الشهادة التي حصل عليها إن لم تساعد في تهذيبه ليعيش كإنسان محترم بين الناس· اشتبك الاثنان في جدال كان نهايته طردنا من بيتهم ونحن في وضع سيئ للغاية لم نستطع أن ننساه بسهولة· منذ ذلك اليوم، أقفلت الأبواب بين العائلتين مرة أخرى، ولم نعد نكترث لوجودهم على هذه الارض وقد وصلتنا الأنباء عن تردي حالة أسرة عمي بعد أن قام ببيع البيت الوحيد الذي يأوي أسرته، وأنه قد دخل السجن عدة مرات بسبب تراكم الديون عليه· تزوج أخي من أحسن البنات واجملهن وبالطبع لم تقل عنه تلك الفتاة بأنه ضخم وغير حاصل على شهادة فالمال والجاه غطيا على كل تلك الامور وكانت الفتاة وأهلها في غاية السعادة مع أن عائلتهم لا تقل ثراء عن عائلتنا· فتنة جديدة تكرر المشهد مرة أخرى عندما زارتنا زوجة عمي بصحبة ابنتها الثانية، صارت تبكي وتتوسل إلى والدي كي يتوسط لإخراج زوجها من السجن فاعتذر والدي عن تلك المهمة، وأعطاها بعض المال على سبيل المساعدة· كانت البنت في غاية الجمال، فتنت قلبي من أول نظرة، ولكني كنت خائفا أن يحصل لي كما حصل لأخي من قبل فأتعرض للاستهزاء و''البهدلة'' على يد عمي إن فكرت بالتقدم لطلب يدها، ولكني فكرت بأنني لست ضخم البنية كأخي كما أنني جامعي ووسيم، فلربما يؤثر كل ذلك في موقف عمي منّي، لذالك فإنني عندما أوصلت زوجة عمي وابنتها إلى منزلهم قمت بدفع بطاقتي إلى ابنة العم وطلبت منها الاتصال بي لتدبير محام لمساعدة والدها في محنته دون علم والدي طبعاً· لم أكن أفكر بنتائج تصرفي هذا وكان همي الوحيد هو التواصل مع هذه الشابة الفاتنة فلربما تغيرت الظروف وكانت من نصيبي في يوم من الأيام، وكما توقعت فقد اتصلت بي البنت، عندها غمرتني سعادة غير عادية، وكأن هذا الاتصال قد جاء من الجنة بعينها· أخبرتني بأنهن بحاجة ماسة لوقوف رجل إلى جانبهن بعد دخول عمي إلى السجن كما أخبرتني بأن أوضاعهن المادية في غاية الردائة وقد عرفت أنها لا زالت تدرس في الجامعة، وأن أختها الأصغر منها لاتزال تدرس في الثانوية أما الكبرى فقد تزوجت من رجل متعصب منعها من زيارة أهلها بسبب دخول والدها السجن· فكرت كثيرا··· هل يعقل أن أتخلى عن عائلة عمي وهم مجرد إناث لا رجل يقف إلى جانبهن؟ هل هذه هي الشهامة؟ فعلى الرغم من كل شيء فإن البنات من لحمنا ودمنا ولا يعقل أن يتركن وحدهن في مثل هذه الظروف الصعبة· صرت أتردد على أسرة عمي في الشقة المتواضعة التي استأجروها بعد أن بيع البيت وصرت أساعدهم في توفير كل ما يحتاجونه· كانت أحوالهم تعكس فقرا واضحا فصرت أخجل من موقف والدي معهم فليس معقولا أن ننعم نحن بالخير والعز بينما تعيش أسرة عمنا هذا الوضع البائس، مهما كانت الأسباب التي فرقت بين الأخوين فإنها يجب أن لا تصل لحد المقاطعة فالله لا يرضى بمثل هذا الأمر وسيحاسبنا حسابا عسيرا على هذا الموقف· كشف الحقيقة كانت زوجة عمي سعيدة باهتمامي وسؤالي عن أسرتها وفي إحدى زياراتي قالت لي: هل تساءلت يوماً ما عن سبب الجفاء والعداوة بيننا وبينكم؟ وافقتها وقلت: بالفعل، هذا التساؤل كان يقلقنا أنا وإخوتي ولكننا لم نجد رداً عليه من والدتنا أو والدنا، لذلك وضعنا بعض الاحتمالات والتفسيرات لنقنع بها أنفسنا ولكن بصراحة··· الوضع غير مفهوم إطلاقاً··· أتمنى أن توضحي لي حقيقة المشكلة· سكتت قليلاً وكانها تستحضر الماضي ثم تغيرت ملامحها وكأن هناك شيئاً مؤلماً ستضطر لكشفه وتتخلص من عبئه على ذاكرتها· تنهدت بحرقه ثم قالت: لم نرزق بذرية أنا وعمك في بداية زواجنا وقد رزق الله والديك بطفلة جميلة سعد بها قلب جدك وجدتك··· اضطرت والدتك للبقاء في المستشفى لفترة طويلة لاعتلال صحتها، فأخذنا الطفلة إلى البيت لرعايتها والعناية بها، وكنا كلنا نسكن في بيت جدك· في ذلك اليوم المشؤوم، استيقظت صباحاً فذهبت إلى غرفة جدتك وأخذت منها الطفلة وقمت بتحميمها وإرضاعها، ثم نامت فوضعتها فوق سريري وغطيتها خوفاً عليها من الإصابة بالبرد وشاءت الظروف أن يعود عمك مخموراً من إحدى سهراته فألقى بجسده المنهك على السرير دون أن يفطن لوجود الطفلة· دقائق قليلة كنت خارج الغرفة، عدت مهرولة وبمجرد أن شاهدته نائماً صرخت بكل قواي فنهض مرعوباً· رفعت الطفلة فوجدتها قد فارقت الحياة··· كانت حادثة رهيبة، وقد حاولنا جاهدين أنا وعمك بتبرير موقفنا ولكن الكل اتهمنا بالإهمال وعدم أخذ الحيطة· أما والدك ووالدتك فإنهما لم يصدقا أن ما حدث كان مجرد حادثه وإنما كانا متقنعين بأننا قد تعمدنا قتل الطفلة حسداً منّا لأننا لم نرزق بالأطفال، وهكذا بدأ العداء بين والدك وعمك، وقد اشتبكا أكثر من مرة في عراك شديد ولولا وجود والديهما لقتل أحدهما الآخر، وبمجرد موت جدك وجدتك انفصل الاثنان بشكل كامل· بعد سماعي لتلك الحكاية، عرفت السبب الحقيقي وراء موقف والدي من عمي، وقد عذرت والدي وأعطيته الحق وقدرت له الموقف في نسيان كل ما حدث ومحاولته للتصالح مع عمي عند خطبته لابنته لأخي، ولكن قلة ذوق عمي وكلماته الجارحة هي التي تسببت في تراجع والدي عن رغبته في نسيان كل شيء··· يبدو أن عمي قد فقد أشياء كثيرة بسبب إدمانه على الكحول· كنت حائراً في موقفي من أبي وعمي، فعلى الرغم من قناعتي بأن والدي على حق، إلا أنني فكرت أيضاً بأنه لو أن أي حادث حصل بين الأخوين ومهما كان فظيعاً، فهو لا يستحق المقاطعة النهائية فأين العفو؟ وأين التسامح؟ وأين الصبر على الابتلاء؟ لو فكر والدي بكل تلك الأمور التي أوصانا بها ربنا سبحانه، فلن يقاطع أخيه ولضل إلى جانبه ينصحه ويعطف عليه حتى لا يضيع بهذا الشكل الفظيع· بعد تفكير طويل اتخذت قراري بإصلاح ما أفسده الشيطان بين أبي وعمي· أعلم أن الطريق شائك وطويل ولكني واثق بأنني سأصل إلى نتيجة طيبة بتوفيق من الله تعالى ولن أتخلى عن عمي وعائلته مهما كانت الظروف ومهما طال المشوار· سعاد جواد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©