الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكنوز البشرية·· حديث الصدور والعصور

الكنوز البشرية·· حديث الصدور والعصور
29 أكتوبر 2008 22:17
إن كل راوية أو شاعر من كبار السن الذين ما زالوا يعيشون بيننا هو شاهد حي على عصرٍ مضى وانقضى، نسمع عنه لكننا لم نعشه، وما لدينا من وثائق مدونة قد لا تفي في كثير من الأحيان وكثير من الحالات بالغرض المنشود في إيرادها أو الاستعانَة بها في مجال البحث العلمي· ولابد أن تعترض الباحث مصاعب، لابد أن يجد أحياناً ثغرات ينبغي سَدّها، وهنا تبرز أهمية الاستعانة بما سميناه بالوثائق البشرية الحية، وفي عصرنا الحالي، أعطت بعض الجامعات ومراكز البحوث الغربية ومنذ زمن بعيد، أهمية خاصة للروايات الشفهية أو التاريخ الشفهي· رغم أن للرواة ''آفة جد خطيرة'' حيث ''يقحمون مزاجهم على النص الأصلي'' وآخرين يقحمون انتاجهم الشخصي على النص التقليدي أحياناً، كما يشير أحمد رشدي صالح في كتاب ''الأدب الشعبي''، إلاّ أن عنايتنا بالرواة تتأتى من كونهم هم أوعية وَحَمَلَة التراث الشعبي، وإن ما يحملونه من كنوز تراثية في الآداب الشعبية التقليدية، والتي نجد أنها تتلاقى في قسمات رئيسية وتمتاز بها على آداب الفصحى، حيث ''تمتاز بالعراقة والواقعية والجماعية والتداخل أو التوظيف مع فروع المعارف والمعتقدات والممارسات الجارية في حياتنا كل يوم''· وتستمد هذه الآداب عراقتها من خلال دراسة تطور المجتمع البشري والحضارة الانسانية، فقلما يُستطاع أن يتفرغ البعض من ضرورات العمل والحياة، فينشئوا أدباً يخدم أغراض الخاصة ويشبع حاجاتهم الفنية باعتبارهم نخبة مثقفة، وبالتالي متميزين على الكافة وقبلما يأخذ ذلك الأدب الخاص في التميز على أدب الكافة كان ثمة آداب عامة للجماعات البشرية المتساوية على الفطرة، أو تلك التي لم يكن قد تأكد جانب الفراغ فيها، وكان ذلك الادب يكفي حاجاتها الفنية والروحية وكان شعبياً دارجاً في محتواه ولغته وطرائق تداوله وكان يتداخل مع السحر والدين والأخلاق والتشريع· ولنا أن نؤرخ لهذا الأدب الشعبي العام باستخدام الإنسان اللغة كوسيلة للتعبير عن خلجات النفس، وإيصال انفعالات الإنسان وخواطره وأفكاره إلى الآخرين في شكل أصوات ترمز لها، وتلك فترة أقدم بكثير من اختراع الكتابة، حافظ عليه هؤلاء الرواة مُتَناقلاً من جيل إلى جيل فقد حفظوه في صدورهم و وعته ذاكرتهم، ومع ذلك فهو بحاجة ماسة إلى تسجيله وتدوينه وحفظه مع تطور تقنيات الأرشفة والحفظ وتنوعها اليوم· حتى لاتضيع خزائن التراث المحفوظة في صدور الآباء والأجداد من الرواة والإخباريين، بين بيروقراطيات عقيمة، وجهل بعض الجامعين بأبسط أساسيات الجمع الميداني وأصول المقابلات التوثيقية، فالزمن يمضي إلى غير رجعة ولاينتظر أحد· ولازال العمل المؤسساتي مع الأسف في جمع التاريخ الشفوي لدولة الامارات ونحن في عام 2008م متواضعاً جداً قياسا بما أنتجه الغرب، وماسُجّل منه بقي حبيس الأشرطة ولم يستفاد من أغلبه رغم تناقص الرواة وشهود العيان كل يوم· فالكثير من تاريخنا الشفوي غير المدون، والذي لم تلتفت اليه الادارات الكولونيالية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لأنه ربما لم يكن ليهمها في شيء، والكثير من كنوز آدابنا الشعبية خاصة درر الشعر النبطي، لازالت حبيسة في صدور الرواة· صدور الرواة إن عملية بحث وتقصي سيرة شاعر شعبي بقامة ومكانة الشاعر ''غَصّاب المنصوري'' على سبيل المثال، يمكن أن تقودنا الى البحث الحقيقي الجاد في تاريخ منطقة لازال البحث الميداني فيها بِكراً، ونقصد المنطقة الغربية لإمارة أبوظبي، والتي لم تأخذ حقها من التوثيق المحلي، فقد عاصرت هذه المنطقة، أحداثا تاريخية مهمة أثّرت في كتابة التاريخ وتَشَكّل الجغرافية السياسية لشرق الجزيرة العربية، وعاشت فيها شخصيات مهمة صنعت تلك الأحداث أو شاركت فيها· والغريب ان العديد من رواة تلك الفترة، من شهود العيان، لازالوا احياء ولم نستفد مما يحملوه في صدورهم من مرويات تراثية وتاريخية تلك الفائدة العلمية المرجوّة· فما أحوجنا اليوم الى مشروع مسحي ميداني يوثق لتلك الأحداث التاريخية، ويسجل تلك المرويات الشعبية، وبطرق توثيقية علمية حديثة، وتجنيد باحثين جادّين مؤهلين، لتستفيد منها الأجيال القادمة وليكون هذا الجيل من الباحثين قد أدى ولو جزء بسيط من دوره المفترض· فالإخباريون أو الرواة متعددون ومختلفون من حيث اهميتهم باعتبارهم حلقة اتصال بين الباحث والمجتمع والفترة التي يُزمع دراستها، فهناك إخباريون عاديون يستمد الباحث فهم البيانات خلال المقابلات حول الموضوعات التي يستطيعون التحدث فيها ولكنهم لا يمثلون بالنسبة له مصدراً أساسياً في جمع البيانات، وهناك إخباريون رئيسيون يحتلون مراكز اجتماعية هامة، أو يقومون بأدوار حيوية في الحياة الاجتماعية، أو يتمتعون بثروة من المعلومات حول أحد المجالات الثقافية التي تهم الباحث، وإذا كان من السهل توفر النوع الأول من الإخباريين فإن توفر النوع الثاني يتطلب من الباحث بعض الوقت يتم خلاله التعارف بأكبر عدد من الأشخاص، وإعداد قائمة بالأشخاص الذين يصلحون لهذا الغرض ويكون لديهم الاستعداد للتعاون معه، وفي كثير من الأحيان يرحب الإخباري الرئيسي بهذا التعاون وبالنظر إلى ما يضفيه ذلك عليه من أهمية خاصة في نظر الآخرين، وعلى الباحث بطبيعة الحال أن يحرص على معاملته في ضوء مكانته الاجتماعية· الوثائق الشفهية وتُعد الوثائق الشفهية، وبالتالي حَمَلتها من الإخباريين من كبار السن، أحد المصادر الهامة في كتابة التاريخ بشكل عام، فهذا الشخص المعاصر، أو شاهد العيان، الذي يروي ما شاهده بعينيه أو شارك فيه بنفسه، يمدنا بمعلومات مباشرة تتميز بوفرة التفاصيل الدقيقة· وفي هذه الروايات تصوير لروح العصر، مما قد لا يجده الباحث في الوثائق الرسمية والمراجع التقليدية إذا اقتصر عمله عليها· ويضع كل من لانجلوا وسينوبوس (شارل فيكتور لانجلوا 1929 ـ ،1863 وهو مؤرخ وباحث في منهج التاريخ، قام بالتدريس في جامعة مونبيليه سنة 1886م وجامعة باريس (السوربون) سنة 1888م· وله مؤلفات كثيرة في النقد التاريخي وفي تاريخ فرنسا وشارك في تصنيف كشاف لمحفوظات فرنسا)· وشارل سينوبوس 1942 ـ 1854 الذي عمل أستاذا في جامعة باريس (السوربون) وله مؤلفات كثيرة في المنهج التاريخي وتاريخ الحضارة، وتاريخ شعوب الشرق، والتاريخ السياسي لأوروبا) في كتابهما الهام ''المدخل إلى الدراسات التاريخية'' شهادات المعاصرين في موضع مساوٍ للوثائق· ويستشهدان في هذا المجال بالمؤرخ اليوناني ثيوكيديدس في العصور القديمة، والمؤرخ الفرنسي فرواسار في العصور الوسطى، الذين استعانا بسؤال الأحياء من الشهود في كتابة مؤلفاتهما التاريخية· كما يستشهدان بالمؤرخ الأميركي بنكروفت، الذي عَبّأ جيشاً من المختصين لجمع المواد المتعلقة بتاريخ الجزء الغربي من الولايات المتحدة الأميركية، وذلك من المعاصرين الذين كانوا على قيد الحياة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين· وتظهر أهمية الروايات الشفهية، في العمل الذي قام به أحد أبرز مؤرخي فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، وهو الأستاذ جول ميشيله Jules Michelet، الذي عمل أستاذاً بالسوربون وكلية فرنسا، وشغل في الوقت نفسه وظيفة رئيس أمناء التاريخ في دار المحفوظات الوطنية National Archives فعندما بدأ كتابة مؤلفه ''تاريخ الثورة الفرنسية'' History of the French Revolution وجد أن الوثائق المكتوبة غير كافية، وبالتالي اعتمد على الروايات الشفهية التي قام بتجميعها من فئات الشعب المختلفة خارج باريس. كما اعتمد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي على الرواية الشفهية لأهميتها في كتابيه: ''عجائب الآثار في التراجم والأخبار'' و''مظهر التقديس في زوال الفرنسيس'' وهما مصدران أساسيان لكل من يتناول تاريخ الفترة الممتدة من الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م حتى سنة 1821م· وتأتي أهمية الرواة المعمرين وما يحملونه من مخزون تراثي شفهي، من أنهم الأقدر على سبيل المثال على تفهم الشعر النبطي بصوره وأخيلته ومفرداته لأنهم أدركوا شظف الحياة التي استمد منها مادته وأغراضه· ويصعب فهم هذا النوع من الشعر دون الجلوس إلى هؤلاء الرواة لمناقشتهم حول بعض الايماءات والتلميحات والرموز والصور الشعرية التي يستعصي إدراكها على معظم الناس في وقتنا هذا ـ حتى لو كانوا من أبنائهم أو أحفادهم ـ وسؤالهم عن بعض المفردات الغريبة التي اندثرت باندثار مسمياتها ومناسباتها· زيارة لراوي وهذا الأمر حصل مع كاتب هذه السطور حين زُرت أحد الشعراء النبطيين من كبار السن، وكنت قد سجلت له شريطاً صوتياً وشريط فيديو، وعند إعادة استماعي للشريط الصوتي لتفريغه وجدت صعوبة في فهم بعض الكلمات التي كان يقولها وهو (يعد) القصيدة بطريقة نوعاً ما سريعة، ففاتني التقاط بعض الكلمات، فعدت إلى زيارته مرة ثانية في منزله وكان أكبر أبنائه حاضراً معنا، وعندما استفسرت عن تلك الكلمات النادرة في بعض القصائد وكنت قد دوّنت مطالعها لأذُكره بها، كان يتذكر القصيدة فيعيد إلقاءها (عَدّها) علينا ولكن بنفس السرعة السابقة في الإلقاء مما تعذر علي أن أتثبّت من النطق الصحيح للكلمة فاستعنت بابنه، ولكني وجدت الابن حائراً كحيرتي في محاولة جعل والده يلقي علينا القصيدة ببطء نوعاً ما، لأن البطء في إلقاء الشعر النبطي يكاد يكون نادراً أو غير مستحب كطقس من طقوس شفاهية هذا النوع من الشعر· كما لا يمكن إيقاف الشاعر وهو يلقي القصيدة لسؤاله عن لفظة كلمة أو عن معناها، لأننا بذلك نقطع عليه تسلسل أفكاره فهو يلقيها حفظاً من الذاكرة، وإذا ما تمت مقاطعته أو إيقافه فلا بد أن يسترجع ويعود من البداية أو على الأقل البيت أو البيتين السابقين، وهذا العمل بالنسبة لرجل كبير في السن يسبب أرهاقاً شديداً بل ويثيره إلى الحد الذي يجعله يتوقف وأحياناً يمتنع عن مواصلة الالقاء أو التعاون· ومع ما كانت تسببه المقاطعة من إحراج لنا غير مستحب، إلا أن وجود ابن الشاعر ساعدنا على تجاوز هذا الحَرج لأنه هو نفسه كان مثلي لا يكاد يفهم الكلمات التي كنت اسأل عنها، وهذا أمر طبيعي لأنه من جيل أصغر ربما لم يسمع ببعض المسميات والكلمات التي ترد في قصائد والده الذي يصف ويتحدث عن زمن لم يعشه الابن وربما لم يكن قد ولد بعد· لذلك فإن أهمية العناية بالرواة تزداد اليوم أكثر فأكثر عن ذي قبل، ففهم القصيدة النبطية في الحقيقة لا يتوقف على فهم مفرادتها فحسب بل أيضاً على إيجاد تصور واضح وشامل للمحيط الثقافي والاجتماعي الذي يستمد منه الشاعر النبطي صورة وأخيلته· أي أننا في تفسيرنا للقصيدة النبطية لابُد أن نضيف البُعد اللغوي، وهذا الأمر لا يتم دون الرجوع والعناية بهؤلاء الرواة والاخباريين والشعراء النبطيين من كبار السن· القصائد ''السوالف'' أضِف الى ذلك أن القاء القصائد في سياقها الشفهي لا يقتصر على الشعر بل يتضمن أحياناً نصوصاً نثرية ''سوالف'' قد لا تقل في قيمتها اللغوية والأدبية عن النصوص الشعرية، القصيدة النبطية عادة وليدة ظروف اجتماعية وأحداث تاريخية محددة لذا نجد الرواة الجيدين حينما يتحدثون في المجالس يراوحون بين الشعر والقصص وقبل كل قصيدة يسردون الاحداث التي أدت الى نظمها أو ما يسمى مناسبة القصيدة أو السالفة· والسالفة على لسان الراوية المتميز لا تقل في كثير من الأحيان عن القصيدة من الناحية الفنية والبلاغية ومن حيث القيمة اللغوية وقد تتضمن معلومات قيمة عن مجتمع الجزيرة والخليج وحضارتها وتاريخها في العصور الماضية· وفي كثير من الأحيان تشكل السالفة جزءاً عضوياً من القصيدة من الناحيتين الفنية والتاريخية وعدم إيراد السالفة في تلك الحالة يترتب عليه خلل جوهري يعيق عملية الفهم والتذوق، وهذا جانب واحد من جوانب كثيرة يمكن الاستفادة فيه من مخزون الرواة التراثي· وفي عصرنا الحالي، أعطت بعض الجامعات ومراكز البحوث الغربية أهمية خاصة للروايات الشفهية أو التاريخ الشفهي Oral History· ومن مظاهر هذا الاهتمام، إنشاء مراكز أبحاث خاصة بهذا النوع من التاريخ، وتنظيم المؤتمرات البحثية، وإصدار الدوريات العلمية التي تتناوله· ومحور اهتمامها إجراء التسجيلات والبرامج والمحادثات، مع الأفراد الذين شاركوا في التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في الفترة المعاصرة· والاهتمام بالمواد والكتب والأفلام التي تتعامل مع هؤلاء الافراد الذين نعدهم وثائق بشرية· كما أنشئت أقسام لحفظ مواد التاريخ الشفهي، وقدمت أبحاث ونشرت مؤلفات تتناول أهمية تدوين هذا النوع من التاريخ· وإذا كانت للروايات الشفاهية هذه الأهمية في تناول الأحداث التاريخية في العصور المختلفة، فإن أهميتها تزداد إلى الباحث والمهتم بتاريخ الإمارات في القرن العشرين، إذا تعرّض لتاريخها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في تلك الفترة· ففي مثل هذه الموضوعات، يجد الباحث أو المهتم نفسه في حاجة ماسة للرواية الشفهية، التي يرويها المعاصرون الذين مازالوا على قيد الحياة· خاصة وأنه يواجه عندما يريد تأصيل بحثه أو قراءاته، بوفرة طاغية من الوثائق البريطانية وغير البريطانية كالهولندية والبرتغالية· وهذه الوثائق منظمة ومرتبة ومفهرسة ويسهل الاطلاع عليها· ولكنها ـ ولكونها نتيجة تدوين الإدارات الاستعمارية الإمبريالية ـ تركز على الأمور السياسية، خاصة العلاقات مع بريطانيا، والمعاهدات التي عقدتها مع شيوخ المنطقة· وكذلك على النشاط البحري لأهلها، الذي كان يتعارض في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، مع محاولات بريطانيا ـ آخر قوة إمبريالية كانت مهيمنة على المنطقة ـ وفي فرض سيطرتها البحرية على المنطقة· ويجد الباحث أيضاً كثيراً من هذه الوثائق تتعرض لتجارة الرقيق وتجارة السلاح، وأساليب مكافحتها، والمعاهدات التي عقدت بشأنها مع شيوخ الإمارات، ويمكن تفسير ذلك في ضوء اتخاذ بريطانيا من مكافحة الرق وتجارة السلاح، وسيلة من وسائلٍ السيطرة على المنطقة· ويجد كذلك قدراً لا بأس به من المعلومات عن قبائل المنطقة وأسرها الحاكمة، وظروف تولي الحكام مناصبهم· وهذه الوثائق بصورة عامة لم تكن سوى تعبير عن حاجة السلطات البريطانية للمعلومات، والإجراءات والوسائل اللازمة لفرض وتدعيم سيطرتها على المنطقة· الوثائق البريطانية لذلك ولما كان اهتمام بريطانيا مركزاً على البحر وشواطئه، فإنه لم يكن يعنيها كثيراً ما يجري في الداخل، الإ في حالة تأثيره على مركزها، لذلك نجد أن الوثائق البريطانية التي تتعلق بالأمورالثقافية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية في الإمارات، تكاد تكون نادرة إن لم تكن معدومة، لذلك كان لجوء الباحث إلى الاستعانة بالرواية الشفاهية يُعَد هو الخيار الأمثل·'' ولا ريب أن هذه الروايات الشفاهية تعد وسيلة من وسائل السرد أو القص التاريخي المتصل الذي يهم المجتمعات بمختلف أجناسها وثقافاتها، لأن هذا النوع من السرد التاريخي، يحفظ لهذه المجتمعات أحداث التاريخ الذي لم تعاصره الأجيال التي تعيش في مراحل عمرية مختلفة، حيث تعتبر هذه الروايات الشفاهية بالنسبة لهم عن تاريخهم الماضي، ثقافة تاريخية جماهيرية، تعطي لهم صورة عن النسق الخلقي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، الذي كان سائداً في بلدهم، في الحقبة التاريخية التي تحكي عنها الرواية ولم يعاصروها، ولم يروا معظم ما يُروى فيما يرونه مكتوباً، وهذا يجعلهم يقفون على مدى صحة المقارنات الثقافية المتداخلة، والمقارنات التاريخية، وذلك في ضوء المسائِل التي امتدحت أو قللت من شأن أي موضوع شائِع بينهم· إن للتاريخ الاجتماعي أهميته، فالحياة اليومية للناس تحمل في طياتها صوراً متعددة تتمثل في العلاقات الإنسانية والظروف الاقتصادية، وطبيعة حياة الأسرة، والحياة المنزلية، وحياة القبيلة، وعاداتها وتقاليدها وإرثها الثقافي، وتأتي الشعارات التي ترفعها القبائل والعشائر على سبيل المثال، وشعارات العائلات الكبيرة و''نخوة'' الأفراد بشقيها النثري والشعري في أعلى قائمة المأثورات أو المتواترات في هذه المنطقة، وتمثل بعد النقد، مصدراً قيماً للتاريخ· فتحليل ''نخوة'' قبيلة ما، أو عشيرة ما، يكشف عن حجم ارتباطها ونوعيته بالقبائل والعشائر الأخرى في المنطقة وخارجها، وكثيراً ما نجد النخوة ذاتها عند قبيلة أو عشيرة تبعد عن الأخرى مئات أو آلاف الأميال، مما يدل على انشقاقات أو هجرات من هذه المجموعة القبلية أو تلك، وكثيراً ما تكشف ''نخوة'' الشيوخ عن قيم أخلاقية يعيشها ذلك الشيخ أو يتطلع إليها· شعر وغناء وهناك الشعر الملحمي أو الغنائي الذي يؤدى في ''العَرْضَة'' أو ''العيالة'' وغيرها من الرقصات التي تكشف عن استعراض القوى والافتخار بالمآثر· هذا إضافة إلى العديد من القبائل لا يزال يحتفظ بأجزاء من تاريخها في صورة أغُنيات وأهازيج تؤدى مع الرقصات أو بدونها، فتثير في الرجال الحماسة بما تتضمنه من معاني الفروسية والبطولة· ويعد هذا الشعر من المصادر التاريخية الثّرة· وإذا ما كانت مثل هذه الأشعار تسبب نوعاً من الحساسيات، أو تنكأ جراحاً قديمة، وربما قد تثير الإحن والثارات بين القبائل، وهي القصائد التي يغلب عليها استعمال كلمات مثل ''الذبح'' و''السّلخ'' وما إلى ذلك من كلمات قد تعبر عن العنف، فإن جمع مثل هذه الأشعار يبقى ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ويستطيع المؤرخ الواعي أن يتعامل مع هذا الشعر بقلم ناقد، ونعتقد أن مثل هذه المصادر الحساسة يجب على المؤرخ تسجيلها دونَ نشرها، وذلك لن يتم دون الاستعانة بالرواية الشفهية· حيث يمكن أن تُبرز هذه الأحداث بعد تسجيلها وليس بالضرورة نشرها مَعْلماً للمجتمع، يسبر به غور مسيرته القاصدة لتحقيق الرفاهية والسمو فوق الممارسات القبلية· ويرتبط بالأغاني والأهازيج والرقصات وما شاكلها أغاني البكائيات أو النواح، فمع كل فَقْد جَلَل في القبيلة أو المنطقة تنطلق ألسنة الشعراء بالرثاء· فإذا قدر لهذه المراثي التي صاغها الإبداع الشعبي على وجه الخصوص أن تعيش على ألسنة الناس زمناً حتى تصبح في المتواترات، فإن الأخذ بها في ظننا في كتابة التاريخ جائز، والقياس عليها واجب، فمعانيها لم تُحفظ وتخلّد في الذاكرة الاّ لأنها تشكل شيئاً من قيم المجتمع، وهي في تقديرنا روحاً إن لم تكن نصاً، أحرى بالتصديق من الوثيقة المسجلة، التي قد لا تتسق مع المعاني المذكورة· فالمؤرخ لا يستطيع أن يطرح جانباً شهادة مجتمع بأسره، ويأخذ بشهادة أخُرى لفرد، لا لشيء إلاّ لأنها مسجلة· ويمكننا أن نلحق بهذه الغنائيات القصص الشعرية أيضاً، الذي صاغته قرائح أمُية '' وقد وَقفنا على نماذج مبدعة من هذه الأعمال بأنفسنا فيما دوّناه لبعض الشعراء النبطيين من كبار السن من الأميين من أمثال: الشاعر عبيد بن معضد النعيمي في منطقة الوجن، والشاعر المعروف بالحزيمي في قرية الفقع، والشاعر عيد بن نايع المنصوري في مدينة العين وغيرهم· وقد أخذته عنهم طوائف أخُرى، راحت عبْرَ الزمن، تتناقله الأجيال اللاحقة عن الاجيال السابقة· وهذا ما سيحصل إن شاء الله بعد مرور فترة من الزمن على ما جمعناه ودوّناه لشعراء لازالوا يعيشون بيننا هذه الأيام أطال الله في أعمارهم· ليس من سمع كمن رأى وأحيانا كمن شارك يُعد الرواة من كبار السن بالنسبة للمؤرخ مصدراً مهماً في تدوين مادته التاريخية، بل إن استعانة المؤرخ بمصادر شفاهية معاصرة للحَدَث أو الفترة التاريخية، يكشف عن مقدار الجهد الذي بذله ذلك المؤرخ، ويكشف أيضاً عن مدى عمق ثقافة المؤرخ وسعة اطلاعه· فالشاهد هو المصدر الأول والأساسي للمعلومة التاريخية، وعن طريقه تتم عملية نقل المعلومة وتداولها، وهذا يعني هجر المؤرخ للعنعنة والإسناد، وتركيز عدّته في المشاهدة والمعاينة للأحداث ومواقعها لكونه حاضراً لها ومعايشاً لزمن وقوعها أو قريباً منه· وتظهر قيمة المشاهدة والمعاينة أنها تطبع رواية المؤرخ المستعين بها في الغالب بطابع الصدق والدقة؛ ذلك لأن الكتابة التاريخية المعاصرة لزمن الأحداث تعتمد كثيراً على هذه المعاينة والمشاهدة والسماع من مصادر مباشرة حية، إذ أنها تجنّب المؤرخ عادة الأخطاء المتوقعة من النقل المجرد عنها· وحتى يقترب مفهوم المشاهدة والمعاينة من الذهن، ويمكن أن نشير إلى ثلاثة مفاهيم متقاربة يتكرر إطلاقها على هذا المصدر وتتقارب مدلولاتها لتمتزج الصورة أحياناً في صورة واحدة، وهي: المشاهدة: التي تعني معاصرة الراوي للحَدث وتصويره عن طريق مشاهدة مجرياته أو الرؤية الشخصية له عن قرب، ويمكن أن تقيّد المشاهدة أحياناُ بمشاهدة الحدث مباشرة حال وقوعه· ودلالاتها: شاهدت، حضرت، رأيت، لقيته، وهم سائرون، ونحن نشاهدهم، وغير ذلك من عبارات تفيد معنى الرؤية عن قرب والمشاهدة الشخصية بحضور الحَدَث ومشاهدته· المشاركة: وتعني حضور الراوي للحَدَث، والاشتراك في أحداثِه ومجرياته· ودلالاتها: مثل، حاصَرنا القلعة، اجتمعنا بهم، كنت ضمن الحاضرين، رافقته في حملته، وقد شددنا عليهم، وغير ذلك من عبارات المشاركة في الأحداث، وربما التأثير فيها· المعاينة: وتعني في الغالب الوقوف على موقع الحَدَث بعد حدوثه، ومعاينة آثاره ودلالاته أو التأكد من صحة ما ذُكِرَ عنه من وَصف أو تحديد بالوقف عليه ومعاينة آثاره· ودلالاتها: وقد وقفت عليه، ومررتُ به، وقد عايناه وعاينته، واتفق لي في هذا الموقع، وهذه الصورة تكثر عند الرحالة والبلدانيين ومَن يدرس مواقع الأحداث الماضية ومشاهدتها· وقد تمتزج صورتان أو أكثر من هذه الصور في صورة واحدة فيكون الراوي مشاهداً للحَدث مشاركاً في صنع أحداثِه، وقد يكون شاهداً له واصِفاً لما عاينه من أمور فيه· ولما كانت آفة الأخبار تكمن في رواتها، فإن الإخباريين العرب حاولوا قدر الإمكان ضبط هذه الروايات، من خلال إيراد أكثر من رواية للخبر الواحد، وبأكثر من إسناد، تعرض جميع وجهات النظر من الأحداث التاريخية أمام القارئ· ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل فرقوا في أحوال كثيرة بين ألفاظ متشابهة، وتقديم لفظة على أخُرى، حسب منهج المحدثين أو الإخباريين مثل: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت، وقال لي، وقال· إن أهمية الرواية الشفهية أنها تبعث الحياة في الخبر عندما نطّلع على الخلفية التي تقف وراءها، لأن التاريخ الحقيقي هو الذي تكمن فيه المرونة والتنوع والاستثارة، فليس للتاريخ إيقاع واحد، أو خطة واحدة، وإنما له إيقاعات وخطط ونماذج· إن أغلب المؤرخين اليوم يهتمون بالتاريخ من واقع كتب تُقرأ، أو وثائِق تٌقَدّم، ولكن الحقيقة أن الأشياء التي نَراها ونسمعها كلها وَثائق تاريخية، لا تقل أهمية عن المراسيم والسجلات الحكومية، وهنا تصدق المقولة التي تقول: إن لكل شي تاريخه· وقد التقى كاتب هذه السطور ببعض الرواة من المتعلمين والأميين من كبار السن، لازالوا يتمتعون بذاكرَة قوية، ووعي بأهمية توثيق تاريخ وتراث الإمارات، وهم حريصون جداً على التعاون لإنقاذ هذه الشهادات التي يحملونها عن زمن ما قبل النفط، وزمن ما قبل الاستقلال والاتحاد، فقد كانوا شهود عيان ورأوا وحضروا بل وشاركوا في بعض أحداث ذلك الزمن، لازالت إلى اليوم هذهِ الشهادات حبيسةَ الذاكرة فقط ولم تَلْقَ العناية اللازمة المفترضة لتسجيلها، وتدوينها، وبالتالي إخضاعها لمناهج التوثيق العلمية المطلوبة وحفظها لتستفيد منها الأجيال القادمة· والنصف الآخر من هذه الشهادات لازال حبيس أشرطة التسجيل المركونة في بعض مراكز الدراسات والبحوث، مهملة، علاها غبار النسيان، جُمِعت لمجرد أن يُقال أن المركز الفلاني يمتلك أرشيفاً سمعياً وبصرياً دون الالتفات والاهتمام الجاد بتفريغ هذه الأشرطة ووضع محتواها أمام الباحثين الجادين، أو وضع خطط وبرامج للاستفادة منها، ولازال كبار السن من المتلهفين لخدمة بلدهم ممن يحملون الكثير من المخزون المعرفي والتراثي والتاريخي يتناقصون يوماً بعد يوم، ولازالت أرشيفات مراكز البحوث والدراسات موجودة دون تفعيل أو مشاريع جادة للاستفادة منها· لذلك، لا نكاد نلمس أو نرى شيئاً من هذه الشهادات يُنشر في كتب واصدارات صاردة عن هذه المراكز· وما نُشِر منها كان يتم بجهد شخصي من المهتمين بتدوين وتوثيق الشفاهية وهي أعمال لا يَتعدى عددها أصابع اليد الواحدة· هذا إذا أضفنا إلى ذلك العقليات الإدارية البيروقراطية وما يفعله الروتين في هذه المراكز من قتل لكل رَغبة أو توجه جاء لدى الباحثين والمهتمين بتدوين وتوثيق الرواية الشفاهية، وما يوضع من عقبات مادية في سبيل إحباطهم وبالتالي توقفهم عن اللجوء إلى هذه المراكز لطلب العون أو المساعَدَة· إن الأدب الشفهي يعبر عن شخصية الشعبِ ويرصد وجدان الناس ويسجل اهتزازات الضمير الجمعي· كذلك فهو يساعد على الاستمرارية الحضارية بين الأجيال ويساهم في تثقيف النشء ويسهل عليهم عمليات التكيف الاجتماعي والثقافي· أما أصحاب الاتجاه الإنثروبولوجي فينصب اهتمامهم بالدرجة الأولى على أن هذه الرواية الشفاهية، هي وثيقة تاريخية اثنوغرافية، خصوصاً في المجتمعات الأمية التي لا تملك وثائق مكتوبة، وهي كذلك صورَة للواقع الاجتماعي ومرآة تعكس أنماط الثقافة من جميع جوانبها· وفي وقتنا الحالي تحتل دراسة الشفاهية، ولا سيما في حقلي الأدب الفولكلور، مكانة مرموقة في الأوساط العلمية، وذلك بعد أن نجح العالمان الأميركيان ملمان باري Milman Parry وألبرت لورد Albert Lord في فرض نظريتهما التي سمياها نظرية الصياغة الشفهية Formulaic Theory وهي نظرية تعد الآن من إحدى النظريات في مجال البحث الأدبي وأكثرها رواجاً· والعلماء الغربيون الآن يتجشمون المصاعب ويتكبدون الخسائر للقيام برجلات ميدانية إلى المجتمعات التي توجد فيها طبقات أمُية تحتفظ بتراث شعري شفهي من أجل دراسته· ونحن، حيث لا تزال هنالك في مجتمعنا قلة قليلة وبقية باقية من الأميين في البادية والقرى النائية ـ بل وحتى في المدن الكبيرة والحواضر ـ ممن لا يزالون يحفظون الكثير من القصائد النبطية والملاحم ويلقونها (يعّدونها) بالطريقة التقليدية، فإنه يجدر بنا أن نغتنم هذه الفرصة النادرة وأن نسارع إلى دراسة هذه الشرائِح الاجتماعية التي توشك أن تزول تماماً من مسرح التاريخ الإنساني وتختفي إلى غير رجعة· ويحضرني هنا مثال حي عن راوية وشاعر مشهور من شعراء النبط حريّ بنا أن نتدبره وهو الشاعر محمد بن عبيد بن نعمان الكعبي، فالرجل متعلم تعليماً جيداً، وإضافة لشهرته كشاعر من كبار الشعراء النبط، فهو أيضاً راوٍ يحفظ الكثير من ''السوالف'' والحكايات والمواقف وأشعار لغيره من الشعراء، ولكن ما يميزه كونه رَجلاً متعلماً ويقرأ ويكتب في مجتمع غَلبت عليه صفة الأمية قديماً وكونه من بيت علم ودين حيث كان جده قاضياً من القضاة المعروفين، فهو يتذكر ليس فقط الحادثة أو الواقعة التي يتحدث عن تفاصيلها خاصة عن تعامل الإنجليز الضباط منهم والمجندين من أبناء المنطقة بما كان يُعرف بقوة كشافة ساحل عُمان، وبما كان قد رآه منهم عندما كان مجنداً في شرطة إمارة أبوظبي أواخر سنوات التواجد البريطاني على أرض الدولة قبل الانسحاب البريطاني ممكا كان يعرف بالساحل الهادن قبل ظهور دولة الإمارات بشكلها وكيانها الحالي· والطريف أنه كان يتذكر زيارات صاحب السمو رئيس الدولة لمقر شرطة أبوظبي في ذلك الوقت بالساعة واليوم و الشهر والسنة إضافة إلى تفاصيل الحياة اليومية في ذلك الوقت· وهو مثال واحد من أمثلة مشّرقة كثيرة لازالت بيننا لم تسجل شهاداتها عن ذلك الزمن، رغم كونها شهادات من شهود عيان aalsanjari@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©