الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعر الأوجاع المبدعة··

شاعر الأوجاع المبدعة··
29 أكتوبر 2008 22:19
صدرت قبل أيام عن دار سنابل بالقاهرة أول منتخبات شعرية للشاعر الإسباني المعروف خوان رامون خمينث، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام ·1956 تحت عنوان ''من سيتجول في حديقتي'' اختارها وترجمها وقدم لها الشاعر العراقي المقيم في اسبانيا عبد الهادي سعدون الذي قدم للمكتبة العربية العديد من الأعمال المترجمة عن الأدب المكتوب باللغة الاسبانية، وعلى حد علمنا، لم تصدر لهذا الشاعر أي منتخبات من شعره، أو ترجمات كاملة لكتبه الشعرية باستثناء كتابه النثري المهم ''حماري وأنا'' الذي حظي بأكثر من ترجمة واحدة للعربية رغم أهمية هذا الشاعر وتأثيره في الأجيال اللاحقة، ووجود بعض الدراسات التي حاولت الربط بين هذا الكاتب والكاتب المصري توفيق الحكيم الذي قدم عددا من الكتب عن ''حمار الحكيم''· في هذا الكتاب يطالع القارئ، 80 قصيدة مختارة من نتاج خمينث التي تزيد إصداراته الشعرية على أكثر من 40 ديوانا شعريا، ناهيك عن كتبه النقدية والنصوص النثرية الأخرى· وخلال هذا الاختيار حاول المترجم أن يقدم ما يشبه القراءة لأعمال الشاعر للتعريف به بشكل شامل، وهي تضم قصائد من فترات مختلفة، فلم نغفل أي ديوان دون الأخذ منه، حيث تتفاوت هذه المنتخبات في فتراتها الزمنية كما قلنا، فهناك قصائد تعود لفترته الأولى، وكذلك قصائد كتبها في أيامه الأخيرة، ولعلها ليست بالمنتخبات الكافية، ولكنها على الأقل هنا تشكل حجر أساس لقراءة خمينث وفهم عوالمه الشعرية، وربما أيضاً خطوة تشجع آخرين على تبني فكرة ترجمات قادمة· مؤثرات تحديثية ومعروف أن خوان رامون خمينث (1881 ـ 1958) ولد في بلدة مُغير (Moguer)) التابعة لمدينة والبه (إويلبا Huelva ) في أقصى الجنوب الغربي من إسبانيا، على الحدود الأندلسية المتاخمة للحدود البرتغالية· درس أول أعوامه فيها، ثم انتقل بعدها إلى مدينة قادش ليدرس في المدرسة اليسوعية، وهناك تعرف على أسماء أدبية ناشئة مثله، وكتب في هذه الفترة أولى قصائده وإن لم ينشر منها شيئاً· خلال تلك الفترة قرأ وتأثر بأعمال أبرز شعراء بلاده مثل أدولفو بيكر وغونغورا، والذي سيضيف لهما في فترات لاحقة من حياته، إسم شاعر نيكاراغوا المعروف روبن داريو، رائد مدرسة التحديث (المودرنيزم) في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية، وبعدها تحول من معجب ودارس لمسيرته الشعرية، ليكون صديقا له وتبادل معه الرسائل· وجاء أول كتبه الشعرية بتأثر واضح بملامح الحركة التحديثية التي قادها روبين داريو· أصيب في تلك الفترة بعوارض مرضية نفسية، أجبرته على أن يعود إلى مسقط رأسه· في العام نفسه يتوفى والده، مما ضاعف مرضه وإحساسه بالتوحد في هذا العالم· سافر بعدها إلى فرنسا للعلاج والنقاهة، وهناك قرأ لشعراء الحركة الرمزية الفرنسية أمثال بودلير ومالارميه، مما ترك أثراً واضحاً في كتبه الشعرية التي أنجزها في تلك الفترة· ثم سافر فيما بعد إلى إيطاليا وشرع في كتابة ديوانه الثالث ''قصائد'' لينشره بعد عودته إلى العاصمة الاسبانية· يمكننا القول إن الكتابة والمرض منذ هذه اللحظة أصبحا لصيقين بحياة الشاعر خمينث، إلى درجة أن أغلب الدراسات النقدية عنه لا بد لها من الدخول بتحليلات عميقة لأثر المرض في كتاباته· وبعد خضوعه لعلاج طبي مستمر في مصحة نفسية عاد إلى قريته عام ·1905 ليكتب مطولته النثرية المعروفة ''بلاتيرو وأنا'' بتأثير مباشر لطبيعة المنطقة الأندلسية المدهشة المحيطة به· أتبعه بعدد من المجموعات الشعرية مثل: أغنيات الربيع أو قصائد مدهشة ومؤلمة· ومن الناحية الفنية بدأ خوان رامون خمينث خطواته الأولى تحت لواء الحداثة الإسبانية واللجوء إلى الأوزان والأنماط الملازمة للنظام الشعبي (الرومانث)· وتمثلت تجربته الحداثية في ''بادرة واسعة وحرة ومتحمسة نحو الجمال'' على حد تعبيره، والحقيقة أن قصائده الأولى تعكس هذا الهدف المبني على الشكل على حساب المضمون· في عام 1911 يعود خمينث مجدداً إلى مدريد، ليعيش في السكن الطلابي المعروف، الذي أقام فيه العديد من أدباء وفناني اسبانيا المعروفين أمثال فيدريكو جارثيا لوركا، وسلفادور دالي أو المخرج السينمائي لويس بونويل· وفي تلك الفترة التقى خوان رامون خمينث بالمرأة الوحيدة المعروفة في حياته، زنوبيا كامبروني، إذ لم يعرف عن الشاعر علاقات بنساء أخريات· وهي ابنة لأم من بويرتو ريكو وأب إسباني، فكانت بمثابة قشة الإنقاذ والأمل الوحيد في حياة خوان رامون خمينث· لم يكن بالطبع طريق التقائهما سهلاً، فإضافة للفارق العمري ومعارضة عائلة الفتاة، لم تكن الفتاة متحمسة للزواج من رجل انعزالي وشاعر مصاب بالجنون والوهم· ولكن لقاءاتهما المتكررة ونقاطا ثقافية مشتركة عديدة أزاحت العديد من عراقيل ارتباطهما الرسمي الذي سيتم في عام ·1916 يوميات أميركية سافر بعدها للولايات المتحدة الأمريكية لتمضية شهر عسل· ولخص وقائع رحلته إلى نيويورك في ديوان ''يوميات شاعر حديث الزواج'' (1917) ومثلما يدل عنوان الكتاب فقد ألفه بما يشبه اليوميات بمزيج من النثر والشعرية وأدخل فيها موضوعا عاد إليه لاحقا شعراء من أمثال فيدريكو غارثيا لوريكا ألا وهو نيويورك رمزا للعصر الصناعي الجديد· ثم واصل سيره نحو ''الشعر الصافي'' الذي كان بمثابة ابتكار وعلامة مميزة لأغلب نتاجه الشعري اللاحق كما عليه في ديوانه ''أبديات'' الصادر في العام 1918 ويحتوي هذا الديوان على بيت شعري شهير يلخص رؤيته التامة ومفهومه الشعري، إذ يقول فيه: ''أيها الذكاء امنحني الاسم الحقيقي للأشياء! ··· أن تخلق الكلمة نفسها مجدداً من روحي''· وباستقرار حالته الصحية نوعاً ما، بالكتابة الشعرية أصدر حتى عام 1936 عشرات الكتب من بينها: حجارة وسماء، أشعار، جمال والمحطة الشاملة· أثناء ذلك كان الشاعر قد دأب على جمع نتاجه الشعري في منتخبات كاملة، وهي نتاج مرحلته الإبداعية الأولى، وطبعت في 1922 بعنوان ''المجموعة الشعرية الثانية''· ولم تلبث أن اكتسبت هذه المجموعة أهمية فريدة من نوعها في الشعر الإسباني فتعد أحد الأعمال الشعرية المكتوبة باللغة الإسبانية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين· مع نشوب الحرب الأهلية الإسبانية عام ،1936 فضل خمينث بصحبة زوجته الهروب إلى الأراضي الأمريكية· رغم أنه كان متحمسا للجمهورية ورافضا للانقلاب العسكري عليها الذي قاده الجنرال فرانكو· في البدء أقاما في نيويورك، ثم توجها إلى بويرتو ريكو، ليسافرا للاستقرار في كوبا لأكثر من ثلاث سنوات· عمل خلال تلك الفترة في أكثر من جامعة وكتب العديد من المقالات النقدية في الشعر الإسباني والأميركي اللاتيني، والتي تم جمعها بعد وفاته وصدرت في كتابين· وعمل كأستاذ زائر في الولايات المتحدة والأرجنتين حتى عودته النهائية عام 1951 لبويرتو ريكو، ليستقر فيها بسبب تردي وضعه الصحي· في بويرتو ريكو، انضم مع زوجته إلى كادر التدريس في الجامعة الوطنية، حيث احتفي بهما بشكل لا مثيل له، وأطلقت الجامعة اسميهما على قاعة دراسية· اشتدت وطأة مرضه وبدأ يمر بحالات مرضية عصبية متكررة· أثناء ذلك ستصاب زوجته زنوبيا بالسرطان، وعلى الرغم من علاجها المتكرر، إلا أن المرض قضى عليها لتموت بعد ثلاثة أيام من تلقيهما خبر منح خمينث جائزة نوبل للآداب عام ،1956 وهي التي عملت كل جهودها خلال سنين طوال من أجل التعريف بشعره لدى الأوساط الأكاديمية لجائزة نوبل· بعد رحيل زوجته، لم تستقر حالة خمينث المرضية، فكان يمر من حال سيئ إلى وضع أسوأ، وحادثة السيارة التي تعرض لها في عام 1958 عجلت بموته، ليرحل عن العالم في 29 من شهر مارس عام ،1958 ليدفن في بويرتو ريكو دون أن يحلم ولو بالعودة إلى بلده إسبانيا، التي مازال على العديد من أبنائها المنفيين أن يصبروا حتى عام 1974 وهو عام وفاة الدكتاتور فرانكو ليهيئوا أنفسهم للعودة· على الرغم من أن الفترة الثانية من حياة خمينث الإبداعية - بعد خروجه من إسبانيا - لم تكن بغزارة المرحلة الأولى، إلا أنها برأي خمينث نفسه والعديد من النقاد، هي المرحلة الأكثر التصاقاً وحميمية بمفهومه الشعري ورؤيته الحقيقية للحياة· هذا المنحى الشعري الجديد أتاح له الإبحار في خضم الشعر الحر لتحقيق إنجازات تعبيرية جديدة تدفع به شيئا فشيئا إلى ما سيكون ملجأه الأخير وهو النثر الشعري المليء بعلامات التعجب وإشارات النفي والتشديد وكأنه راغب في إطلاعنا على مخاض تجاربه الخاصة· وفي الوقت ذاته، طور خوان رامون خيمينيث ضربا شخصياً من التصوف أو السعي إلى الاتصال بكائن سام لم يعرفه بأحد الآلهة المعهودة وكأنه يعتبره كائنا غير محدد الملامح· وعلى الرغم من أنه بدا دائما واجما لا يتدخل في السياسة وفي مماحكات زمانه الاجتماعية إلا انه ترك لنا مذكرات صدرت في 1941 تحت عنوان ''أسباني من ثلاثة عوالم'' إلى جانب مسودة لكتاب صدر بعد موته بعنوان ''حرب في إسبانيا'' حيث تحدث عن معتقداته السياسية المؤيدة لنظام الجمهورية واستعرض شخصيات الأدباء الأسبان وظروفه وقال صراحة ما رأيه في عدد منهم· يعد خوان رامون خمينث أهم صوت شعري لما يسمى في الأدب الإسباني الحديث، بجيل عام ،1914 وإن جاء هذا الجيل تابعاً لممثلي جيل كبير مثل جيل الـ ،98 فقد كانوا على صداقة وتلاحم وتبادل ثقافي مشترك، إلا أن هذا الجيل، وعلى رأسه خوان رامون خمينث، لم يقعوا تحت تأثيرهم الكبير والتقليد لهم دون دراية ومعاينة حقيقية· ففي محاولاتهم النشرية الأولى نجد الكثير من الإشارات التي تدل على وقوعهم في دائرة سحر شعرية حداثيي جيل الـ ،98 ولكن هذا التأثير لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما عني أفراد هذا الجيل الجديد ومنهم خمينث في البحث عن مصادرهم الخاصة، ذائقتهم المغايرة، وصوتهم المتفرد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©