الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نصوص تؤرخ لعشرة قرون من حضور الثقافة العربية في أفريقيا

نصوص تؤرخ لعشرة قرون من حضور الثقافة العربية في أفريقيا
29 أكتوبر 2008 22:29
فى خضم مهرجانات السينما والفنون الإعلامية العربية، نكتشف صوراً مدهشة ''للأفريقي'' في العالم العربي، ليس أحدها فقط سلطان ''شمبونجي'' في إعلان شهير عن الموبايل، أو صور الراقصين هنا وهنالك من الأعمال الفنية، بل ونجدها في الأمثال، ولا نعرف سببا لهذا الإصرار على العرض السلبي لصورة ''الآخر'' بهذا الشكل في ثقافتنا ''الرسمية''· قد دعاني هذا لتأمل بعض الصور المتبادلة من قبل الأفارقة أيضا (في جنوب الصحراء) حيث كنت خلال العامين الأخيرين أعاني من عودة الهجوم الحاد هناك على التاريخ العربي في تجارة الرقيق ممتدا إلى ذكر وقائع دارفور وغيرها حديثا بسبب ''الاحتفاليات'' بذكرى صدور قرارات تحريم تجارة الرقيق التي تذكر مشفوعة بالاستجابة الغربية مقابل استمرار التعنت العربي في المناطق الأفريقية وخارجها· تمثلات الوفاق لا شك أنه قد حدثت أنماط من الهيمنة المتبادلة، كما حدث التكيف مع الصياغة المثقفة للحياة الدينية في أفريقيا على نحو ما بثته الآداب العربية فترة سيادة الأدب الديني أو الشعر العربيين، وذلك حين غالى المثقفون التقليديون الأفارقة بالتزام التعبير شعرا أو فقها باللغة العربية لعدة قرون، ومع ارتباط القداسة الدينية بالإبداع الفني لفترات طويلة على طول ساحة العالم الإسلامي أو ما يمكن تسميته بالعولمة العربية الإسلامية· ولكن شيوع الصوفية وطرقها بطابعها المحلي غالبا، والارتباط عن طريقها بالمغرب لا المشرق العربي، قد يكون دفع التعبير الأفريقي إلى الاستقلال، سواء من خلال ''المريدية'' نفسها أو ''التيجانية'' أو ''الفودية'' (نسبة لعثمان بن فوديو) في غرب القارة على سبيل المثال، وكلها كانت ذات رواج شعبي خاص تخلقت من خلاله نصوص وصياغات شعبية تحفل بها مخازن معهد ''إيفان'' بالسنغال، كما تحفل بها مكتبات ''تمبوكتو'' و''جنى'' الخ··· ولذلك لاحظنا أن لجان منظمة الوحدة الأفريقية (منذ الستينيات) قد أنشأت مراكزها الثقافية تحت مسميات للغات والتراث الشفاهي في نفس الوقت· وأعتقد أن ذلك قد انتقل إلى مجال التاريخ بل وبعض صيغ الفتاوى المحلية التى سجلتها نصوص أفريقية معروفة بالحرف العربي· أما التعبيرات الفنية الشعبية التي عبرت بحق عن طبيعة التأثير الشعبي المتبادل والإيجابي إلى حد كبير وخاصة من الجانب الأفريقي، فقد جاء في شكل نصوص قديمة سادت شفاهة كما سنرى أو كتبت بالحرف العربي قبل غزو الحرف اللاتيني· وقد أتيح لكاتب هذه السطور جمع الكثير منها بل وأصدرناه فى كتاب عن ''تراث اللغات الأفريقية بالحرف العربي'' (العجمي)· من بين هذه النصوص، نصوص شعبية ذات قيمة كبيرة عن ''أصل شعب الأنتيمورو'' (الملجاشيون) وعلاقتهم بالعالم العربي من جنوب الجزيرة العربية ومصر، وكيف قامت ممالك ''المارينا'' مستقلة تماما عن النفوذ العربي المسيطر في المحيط الهندي، مع الحرص على تكوين النخب المحلية، والحاكمة، وفق تعليم وثيق الصلة بالنخب العربية، تجارا ومهاجرين ودون أن يعني ذلك أية علاقة عدائية بين الجانبين حتى الآن· وهذه النصوص الأفريقية العربية، تسمى ''السورابي'' وهي تتخذ طابعا سحريا يستشفى بها أو يحفظها البعض تبركا! وفي غرب أفريقيا فوجئت بوجود نص شعبي آخر عن ''أصل شعب الهوسا''، يربطهم بتفاعلات محلية امتدت من ''بورنو'' و''أروا'' إلى ''كانو'' (شمال نيجيريا) قبل أن يكون للعرب أو الإسلام دخل في هذا التكوين· وما أن يتم اتصالهم بالمسلمين عبر مبعوثين تجارا ورجال دين، حتى تتبنى الممالك الدعوة إلى الإسلام في محيط شعب الهوسا وفي أنحاء غرب أفريقيا، ويتصلون، وفق النص الشعبي، بالمشرق عبرالاتصال بـ (أبو بكر الصديق وعمرو بن العاص) كما يتصلون بالمغرب عبر (عبد الكريم المغيلي) وفي هذه الانتقالات والاتصالات تقفز بنا النصوص لعشرة قرون في جمل قصيرة لها جمالها الخاص في الحكي· وفي نصوص أخرى تبدو مسجلة عبر مؤلف معروف ولكنها تحمل طابعا شعبيا ملحوظا نجد نصا شعريا باللغة السواحيلية (الإنكشافي) يعتبر من نوع البكائيات على الأطلال في أوائل القرن التاسع عشر أمام هجوم الرعاة من داخل القارة، وهجوم الاستعمار من السواحل على سلطنة ''باتي'' على الساحل الأفريقي الشرقي، فتدمر هذه السلطنة التي مثلت نهوضا ثقافيا أفريقيا وعربيا مشتركا· ويعبر عن كل ذلك يوضوح نص القصيدة الغني بالمعتقدات الشعبية عن أشباح الغابة، ومخاطر البحار، ودرجات الجحيم، وأسماء الله الحسنى··· وبالمثل نجد على الجانب الآخر من القارة ''مخطوطة الأخضري'' باللغة ''الماندنجية'' أوردها أحد أشهر الكتب السيارة شعبيا وهو كتاب ''زهور البساتين فى تاريخ السوادين'' (أوائل القرن التاسع عشر) المنتشر في أنحاء غرب أفريقيا، مليئا بالنصوص الشعبية التي كتبت باللهجات المحلية وترجم بعضها بالحرف العربي بل وباللغة العربية· وليست المخطوطات المكتوبة بالحرف العربي وحدها أحد مصادر التعريف الهامة بأصول الشعوب الأفريقية قبل وأثناء اتصالهم بالعرب، وفي أجواء سلمية لاعدوانية، فالسير الشعبية الشهيرة في منطقة مثل غرب أفريقيا مثل سيرة الإمبراطور ''سونجاتا'' مؤسس مملكة ''الماندنج'' (مملكة مالي لاحقا) تعتبر نصا شعبيا أخاذا يرد بقوة على الكتابات السائدة عن تدمير العرب لغانا الأفريقية وقيام مالي الاسلامية على أنقاضها على نحو ما تتفجر به الثقافة الغربية المفروضة على أهل المنطقة· والسيرة الشعبية لتاريخ ''الماندنج'' المعروفة باسم ''سونجاتا'' أو أحيانا باسم ''سوندياتا'' وفق اللهجات السائدة في منطقة غينيا والسنغال ومالي حاليا، هي سيرة شعب ''ماندنج'' نجدها مسجلة عن راو شعبي (''الجريو'' أو الجيل)، وهي ملحمة حقيقية بكل معايير الملاحم الشعبية الشهيرة، قد تساعد بعض فقراتها فقط في كشف العديد من أبعاد التراث الأفريقي في علاقته بالموروث الديني العربي دون أن يعني ذلك الهيمنة التي يتحدث عنها البعض··· ففي الجزء الأول من النص يقول الراوي: ''انصتوا يا أبناء ماندنج·· وأطفال الشعب الأسود·· سأحدثكم عن سونجاتا·· أب البلاد المضيئة، وبلاد السافانا، والجد الأكبر والسيد لمائة ملك من الملوك المظفرين··''· كانت ''ماندنج'' مناطق لملوك ''بامبارا''، هؤلاء الذين يسمون اليوم ''بالماننكا'' لم يكونوا من أبناء البلاد الأصليين فقد قدموا من الشرق، وكان للبيلالي بوناما (بلال) وهو الجد الأول للكيتا، والخادم الأمين للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) سبعة أبناء··· رحل الابن الأكبر من المدينة المقدسة·· واستقر في ''ماندنج''·· (كما أن) ابن أحدهم هو أول أمير أسود ذهب إلى مكة للحج، وفي عودته نهب من عصابات الصحراء، ولأنه كان رجلا عادلا·· ابتهل إلى الله، فظهر له الجن واعترفوا به ملكا، وعاد إلى ''ماندنج بعد سبعة أعوام''··· هكذا تمضي السيرة بعد ذلك لأكثر من مائة صفحة تروي مغامرات بناء مملكة ''سونجاتا'' العظيم (مالي) وذهابه وعودته سالما من البلاد المقدسة (للحج) ولا تكشف عن صراعات مع عرب أو مسلمين، بقدر ما تتعرض أحيانا لصدامات مع الطوارق أو عصابات الصحراء· وقد يريد البعض أن يعرج عن أثر السيرة الهلالية أو سيف بن ذي يزن في مثل هذه الملاحم الأفريقية، ولكن الهلالية نفسها لم تعد مجرد أثر عربي عرقي بقدر ما تشيع آثارها كنص أدبي إنساني على مساحة قارتين الآن من الجزيرة العربية حتى أقاصي غرب أفريقيا والجنوب الأوروبي· المقابل العربي ماذا على الجانب العربي؟ كيف تصور مثل هذه الانواع الأدبية الشعبية معايير الصراع أو الوفاق بين الكتلتين الأفريقية والعربية متمثلة في سير شعبية عربية كبرى أو في القصص والحكي الشعبي؟ لاشك أننا لانستطيع بدورنا أن ننطلق من موقف دفاعي، أو نتجاوز وقائع ما حفظ من نصوص هذا التراث، ولكننا نلفت النظر إلى أن القراءة المعمقة يمكن أن تصل بنا إلى جوهر النصوص لا مجرد ظاهرها من جهة، كما أننا مثلما اكتشفنا في النصوص الأفريقية عدم مصداقية كثير مما تنقله الثقافة الرسمية يمكننا أن نجد انعكاسا لروح وفاقية خلافا لما ينقل عن صورة الأسود والعبيد··· فلو راجعنا مثلا نصا مثل ''عنترة بن شداد''، نجده هو نفسه في بداية النص، العبد الأسود ابن الأمة السوداء في أدنى مراتب مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، يرعى الإبل للعائلة العربية الكبيرة، ويرفض الأب، السيد، الاعتراف ببنوته لفترة طويلة لأنه مولود من ''أمة''، ويقف لونه الأسود عائقا أمام صلف عربي حول اللون والجنس الأسود، ولكن سرعان ما تتطور أحداث النص، لتطلق ''عنترة'' مع العرب ضد الروم والفرس، وقائدا لفرسان القبيلة الذين لم يعترفوا به لفترة، فيحتجب ''عنترة'' عن الدفاع عنهم احتجاجا ومؤكدا لمطلب حريته ما دام قام بمسؤولياته، وبانتصاره البطولي يتأكد وضعه في القبيلة كما يتأكد في الجزيرة العربية كلها، بتعليق أشعاره بين المعلقات العربية الشهيرة، بل إنه خلال قيادته يؤكد مبادئه السامية مطبقة على فارس قبطي (مقري الوحش) كان قد أسره ''عنترة'' على حدود الشام، فحرره وواصل رعاية أسرته بعد وفاته، كما أن السيرة تصل بـ ''عنترة'' إلى غزو الحبشة ليكتشف أن أمه ''العبدة'' هي أخت ملك الأحباش· وينقل فاروق خورشيد في كتابه ''أضواء على السيرة الشعبية'' بعض أبيات ''لعنترة'' يعبر فيها عن حقيقة أساسية في العلاقة الوفاقية: فإن عابوا سوادي عند ذكري وجاروا من عناد في ملامي فلي قلب أشد من الرواسي ولوني من لون المسك نامي وما أسمو بلون الجلد يوما ولكن بالشجاعة والكلام وفي مقابل روح التسامح التي تقدمها سيرة ''عنترة''، كروح نابعة من تطور اجتماعي داخلي ناهض، فإن رائحة ''الصراع الإقليمي'' تفرض روحا أخرى لنوع من التعصب العربي، في سيرة ''سيف بن ذى يزن'' وهي سيرة شعبية تتناول جولات قتالية لذلك القائد الفارس من بلاد ''اليمن'' ضاربا بسيفه ضد الصليبيين في الشام، والأحباش في القرن الأفريقي، رغم زعم انطلاقها مما قبل الأديان السماوية، ولكن ضعف البلاد فترة حكم المماليك من القرن الثالث عشر الميلادي حتى السادس عشر، يجعل الأسطورة الشعرية تجول في العصور والأمكنة بحثا عن الروح الدفاعية لإنقاذ ''كتاب النيل'' الذي هو في بلاد الأحباش مقابل محاولات الاحباش لانقاذ ''القبط'' في مصر· والواقع أن ذلك يعكس أجواء الحروب الصليبية الأوروبية ضد العرب في تلك الفترة، بأكثر مما يعكس حروبا لم تكن بهذه الشدة مع الأحباش فترة الصراع الفارسي الروماني· وهذا معنى التعويض في السيرة بانتصارات ''عربية'' في وادي النيل، مقابل خيبات عربية في المشرق! وإن كانت السيرة تقدم أيضا أبعادا أخرى اجتماعية وأسطورية جديرة بالتحليل، لأنني أتصور أن بداية الصراع العربي ضد الأحباش في جنوب الجزيرة وعلى أرض اليمن ونجران، كانت سببا في وجود الدفعات الأولى من الأسرى الأحباش الذين اشتغلوا في الزراعة بالجزيرة العربية وفرضوا صورة العبيد السود في التراث العربى عموماً· ومع ذلك فإن المنهج الاجتماعي في فهم أحداث مثل هذه السيرة وأخريات قبلها يمكن أن يفيد الدراسات الاجتماعية العربية الأفريقية كثيرا· لا نحتاج هنا للإشارة مرة ثانية إلى أن كثيرا من الأدبيات العربية المكتوبة مثل كتب الجاحظ في دفاعه عن ''فضل السودان على البيضان''، أو الصورة المرتبكة عند ابن خلدون وابن بطوطة إنما كانت فى معظمها تعكس صورا وتصورات شعبية رائجة قابلة للتحليل بأساليب منهجية مختلفة وليست التاريخية وحدها
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©