السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلمى مطر سيف.. شغب الكتابة والمرأة

سلمى مطر سيف.. شغب الكتابة والمرأة
21 يوليو 2010 20:29
أقلام نسائية إماراتية (4) تحتل الكتابة النسوية مكانة استثنائية في المشهد الثقافي الإماراتي. فهي غنية بأقلامها واسمائها. مبادرة في موضوعاتها. غزيرة في انتاجها. متنوعة في إبداعاتها ما بين الشعر والقصة والرواية والريشة. هنا إطلالات على “نصف” المشهد الثقافي الإماراتي، لا تدعي الدقة والكمال، ولكنها ضرورية كمدخل للاسترجاع والقراءة المتجددة. هي من الجيل الثمانيني ومرحلة الريادة والتأسيس في مسيرة المشهد القصصي المحلي، حينما كانت الكتابة بالنسبة للمرأة في ذلك الوقت بمثابة المخاطرة، أو قل المغامرة، نظرا للظروف الاجتماعية السائدة. وثمة “ثيمتان” هامتان في كتابتها هما: المرأة بكل إشكالياتها وهمومها، والبحر بكل مفرداته وثقافته. نتحدث عن القاصة الإماراتية التي تعرفها الساحة الثقافية باسمها المستعار سلمى مطر سيف، في حين أن اسمها الحقيقي هو مريم أبو شهاب. إحدى أهم كاتبات القصة القصيرة في الإمارات، من خلال تمكنها من استيعاب معطيات “السيكولوجيا” في رسم الشخصيات، والاقتراب بمهارة عالية من معطيات الواقعية، الممتزجة بملامح من التجريب القصصي. ونظرا لما حظيت به سلمى مطر سيف خلال مسيرتها الطويلة مع الكتابة من اهتمام نقدي، ضمن التزامها بقضايا المجتمع متخذة من “المرأة” رمزا تناولت من خلاله العديد من القضايا والظواهر الاجتماعية، في صياغة متمكنة تنحو باتجاه “التغيير الاجتماعي”، على نحو قصتها “العرس” المنشورة عام 1983، وتطرح من خلالها قضية الزواج المبكر وآثاره النفسية السلبية على المرأة، من خلال شخصية “حمامة” الفتاة الصغيرة التي دفعت قسرا إلى قفص الزواج، لتحرم بذلك من التمتع بمباهج طفولتها، في تناول يعكس لنا جماليات النص القصصي حينما يناقش الاعتداء على إنسانية المرأة وحقوقها المشروعة.. نظرا لهذه ولغيره من معطيات الكتابة بأسلوب “السهل الممتنع” فقد حظيت هذا العام وتقديرا لأعمالها ذات الصلة بالإنسان بتكريم خاص من قبل سمو الشيخ عبد العزيز بن حميد النعيمي رئيس دائرة الثقافة والإعلام في إمارة عجمان، وذلك على هامش ختام أعمال الدورة الثانية لملتقى شاهندة للإبداع الروائي. لقد قدمت لنا سلمى مطر سيف واقعية الكتابة القصصية خارج إطارها التقليدي ومن ذلك قصة “ساعة وأعود” التي تكاد تتقاطع في أسلوبها مع فنيات التعبيرية في استخداماتها للرموز والخيال، وفيها نكتشف عند القاصة ملمحا يقترب من “شغب الكتابة” تمثل في استخدامها عنصر الأسطورة، متكئة على بعض كنوز التراث العربي في الملاحم والسير الشعبية، فتصور لنا فتاة مسجونة، لم تخرج إلى النور إلا مرة واحدة، فيما ظل والدها ينتظرها طويلا دون أن تعود. في سير أحداث القصة وما بين مزج الواقعي بالرومانسي المتخيل نتعرف على بطلتها التي تتبع احد الصيادين وتركب قاربه، وعندما تقوم بسحب شبكه صيده، يشعر بأن يدا تشاركه، فيراها ويجزع منها، وفي حركة لا إرادية منه يقفل عليها قاع المركب، وبعد انتهائه من عمله يبحث عنه، فلا يجدها، فقد اختفت مثل جنيات عرائس البحر. في هذه القصة كما يبدو سعي حثيث للكشف عن التحولات في القيم الإنسانية التي أصابت مجتمع الإمارات. ذاكرة البيئة في قصة “النشيد” نجد البيئة تتجسد في ذاكرة الشخصيات، لتصبح بمثابة صدى لواقع تاريخي يؤكد حضوره من خلال استدعاء الماضي في إطار ما يعرف بتكنيك “الحدث الاسترجاعي”، هذا الماضي الذي ما زال مؤثرا في سلوك الشخصيات داخل الزمن الحاضر ويتجسد ذلك في شخصية “دهمه”، المرأة المرفوضة في بيئتها الاجتماعية، لأنها تمثل واقعا اجتماعيا مضى ويبعث على الندم: “كنت أسائل نفسي عن سبب منعه إياي عن (دهمه) وقد لحظته قد تبدلت أحواله لمجرد أن تسامع بأن (دهمه) سكنت بالجوار منا” (من مجموعة “النشيد” القصصية). هذا التساؤل سيفضي إلى نتيجة، وهي أن “دهمه” كانت في وقت ما جزءا من الواقع، وكانت تدخل في دائرة تشكيل الشخصية الاجتماعية، وتجاهلها الآن هو ضرب من الندم. والقاصة كي تعطي شخصية “دهمه” ذلك البعد الإنساني الشفيف، كان عليها النبش في إشكاليات اجتماعية متعددة، ولإثرائها فنيا، لجأت إلى صورة فنية غنية بالمفردات والمشهدية المزدوجة المعنى، مستدعية روح الأسطورة والخيال الواعي وقد أضفيا على جماليات السرد الوصفي واقعية سحرية على الزمن الاجتماعي الحاضر: “عندما رجعت ذات يوم بعد عملها وجدت طفلها مذبوحا، بدأت دهمه تطرق على طبلها طرقا خفيفا، وما يلبث يتعالى والنار تتقافز كأنها طيور حمراء تختفي في المدى”. هذه الحركة الصوتية الداخلية التي استخدمتها سلمى مطر في “النشيد” تسجل حركة أسطورية تعكس جانبا من الثقافة الشعبية وبخاصة مما لدى بعض شعوب أفريقيا. و(دهمه) كما رسمتها لنا تتماهى لنا ضمنا بجذورها الأفريقية: “وعندما اقتربت منها رأيت رقبتها السمراء مجدولة بضرب قاس كأنه كشط سياط لم تعرف الرأفة البشرية” (المصدر السابق). و”دهمه” حين تفرح مع كل وليد تلجأ إلى النشيد، إلى الغناء، تستخدم بدايات التكوين التعبيري الأول لمشاعر الفرح لدى الإنسان، وتسمية القصة بالنشيد، له دلالة عميقة في كشف مظاهر البيئة في زمن محدد تمهيدا لإدانته: “وعندما تخرج وليدها، يُسمع في البلدة دوي يتغلغل في كل مكان، في البيوت والسكك، ويتسرب إلى فؤاد كل فرد في البلدة، ويظل النشيد الى أن تنتهي المرأة من رضاع وليدها، ثم تحمله إلى بيت ابيه، والأب يستر ملامح وجهه، في حين يكون متخلقا بتلك الملامح، واللون لون دهمه، ويغد الرجل كخرقة منقوعة في الماء”. كتب الدكتور ثابت ملكاوي عن البيئة في تحليله لقصة “النشيد” يقول: “البيئة في قصة “النشيد” واقع إنساني ميثيولوجي، اجتماعي سيكولوجي، في تداخل تم نسجه في تكوين الشخصيات: الإبنة الباحثة عن دهمه، الجد القاسي النافر من دهمه، الأم، والناس المحيطين بدهمه والأرض التي تدور عليها فصول مأساة دهمه. وقد نسج هذا التكوين برؤية ومهارة، والفنان المبدع حين يخلق نموذجا فنيا يكشف فيه عالمه الداخلي، يحلل محتواه الواعي، ويفرز ما هو اجتماعي ويحدد خصائصه ويبين علاقته وتفاعلاته، يجزئها ويشيّئها ليصل إلى الذات، إلى الأنا الفردية بارتباطاتها بكل الدوافع الاجتماعية ليكشفها من جديد، واعتقد أن القاصة سلمى مطر قد نجحت إلى حد كبير في خلق هذا النموذج الفني والذي ارتسمت ملامحه البيئية على نحو خارج من أتون هذه البيئة”. نحن إذا في محور “المرأة” الذي تناولته القاصة بمهارة وجرأة عالية المستوى، ندرك تماما مدى بشاعة “الاستلاب” الذي تعرضت له، فهي إما ضحية للظروف الاجتماعية والبالية السائدة في العادات والتقاليد في مرحلة ما قبل النفط، وإما ضحية ذلك الخلل الاجتماعي وفقدان التوازن الطبقي وشيوع النماذج الاستهلاكية والثراء ما بعد مرحلة النفط والانفتاح المادي الواسع. في هذا السياق كتبت الناقدة التونسية ريم العيساوي حول محور المرأة في قصص سلمى مطر سيف تقول: “سلمى مطر اتخذت هي الأخرى من المرأة رمزا تناولت من خلاله العديد من القضايا الاجتماعية والمشكلات التي يعاني منها مجتمع الإمارات، ومعظم قصصها تدور حول هذه الفكرة، وقد تتخذ عدة أشكال منها ما يتصل بواقع التمييز الذي يؤكد على استمرار القيم التقليدية والتي تتناقض مع ابسط حقوق الإنسان والمرأة بشكل خاص. ففي قصتها “النشيد” نجد صورة المرأة المتمردة على قيود من بقايا الماضي، كما أنها تهتم برسم عدد من الشخصيات النسوية، وتتفرد بمعالجة جريئة لظاهرة تاريخية مرتبطة باللون والشعور بالدونية، وهي جزء من التاريخ السحيق، لكن ما زالت رواسبه مختبئة في عقلية المجتمع الراهن”. صفحة مظللة وهكذا تفتح القاصة سلمى مطر، بمعالجتها لمثل هذه المواضيع الخاصة بمشكلات المرأة، صفحة مظللة في الإنتاج الكتابي الخليجي النسوي لمعالجة قضية خطيرة في مجتمع يعتمد في بيئته الاجتماعية على أفكار بالية، إن لم تكن ميتة، حينما تصف في قصة “النشيد” وحشية المجتمع الذي يحلل رجم “أم دهمه” وضربها بقسوة بالغة، ثم العثور عليها مقتولة في إحدى الخرائب، لترث ابنتها “دهمه” العبودية، بعد اعتداء سيدها عليها في أبشع صورة، وتدرك سيدتها الحقيقة بعد فوات الأوان، وهو تكوَر بطن الفتاة، فتحقد عليها بأن تأمرها بإسقاط جنينها، الذي يرفض الموت، وبصورة مأساوية تجد “دهمه” طفلها مذبوحا. من خلال هذا المستوى الرمزي البديع، تبدو حالة الخلاص متجسدة في المرأة، على النحو الذي رأيناه في كتابات فاروق خورشيد في استفادته من السير الشعبية التي تمثل لونا من ألوان الأدب القصصي العربي، وكيف وجدنا على الدوام كيف أن المرأة هي صانعة التاريخ وصانعة التغيير. وهكذا تبدو “دهمه” عند سلمى مطر سيف في رداء عصري. إنها لا تكتف بالنبش في واقع المرأة وتصوير معاناتها ومشكلاتها المتعددة في مجتمع الرجال، بل تذهب بعيدا للبحث عن الحالة الجديدة للمرأة وما يجب أن يكون عليه في إطار التحول الجديد الذي لامسته الظاهرة الاجتماعية من الانغلاق إلى الانفتاح على العالم. ومن هنا وفي تقديري فان قصة النشيد هي الأكثر نضوجا في التعبير عن واقع المرأة، وهي المعالجة التي تتقاطع مع الخطاب الجديد للقصة نحو هموم الإنسان واغترابه في مجتمعه، فهي تطرح نصا ذو أبعاد ومستويات متعددة، نص متميز في بنيته ودلالته يحتاج معه إلى قراءة واعية، نظرا لامتلائه بتلك الروح الشعرية، المرتكزة على اللغة وجماليات بنى الخطاب القصصي. شعرية السرد ربما يكون أهم ما في صياغة سلمى مطر سيف لقصصها هو اهتمامها الشديد بتقديم شخصياتها ضمن رؤيا حداثية أو قل ضمن مفهوم سردية السرد الحداثي، تنأى فيهما عن الوقوع في فخ السرد التقليدي المفضي إلى النسق التوثيقي، الذي يظلل الصورة الفنية بالكثير من الملامح المؤثرة سلبا في بناء الحدث القصصي. ومن ذلك مجموعتيها القصصيتين “عشبة” و”هاجر”. كتب الدكتور صالح هويدي في مقالة له بعنوان: “تجليات العزلة ـ قراءة في مظاهر التحديث السردي لدى سلمى مطر سيف” يقول: “لقد بدت شخصيات القاصة في معظمها شخصيات مغيبة الملامح، يغلب على انطباع المتلقي عنها هيمنة سيكولوجيا الأعماق ودخائل الشخصيات أكثر من حضور ملامحها وعلاماتها الفارقة، فجل الشخصيات الرئيسية في قصصها هي شخصيات من دون اسم واضح يشير إليها، بل إن مستوى العبث لدى الشخصية الرئيسية بلغ حدا جعلها تطلق على الشخصية الأخرى في القصص التي حاولت منحها اسما، ولا سيما المرأة، مسميات تخترعها هي، كما خلعت على الشخصية الرئيسية اسم فاطمة، على المرأة المعشوقة في قصتين، واسم هاجر على أخرى في قصة ثالثة. يتصل بهذا الملمح تقديم القاصة شخصيات ذات نمط إشكالي، تستوي في ذلك الشخصيات العادية والشخصيات المثقفة الواعية منها، فهي شخصيات مستلبة، معطوبة، يتهمها الآخرون بالجنون، وتحيا حياة مليئة بثقوب العبث والوحشة والضياع”. في هذا السياق الذي أشار فيه الدكتور صالح هويدي إلى سمة العبثية في أسلوب المعالجة والتناول في رسم الشخصيات عند القاصة وأيضا اللغة، يبدو لنا ذلك واضحا في قصة “عشبة” من جهة لغة التعبير الشعري، والتي تفتح أمام القارئ منافذ مشرعة لفهم دلالات الصورة الفنية المتوترة والموحية في ذات الوقت: “ما أنا إلا غبار قيامك وقعودك، ما أنا إلا فقاعة وحيدة في سحائب أنفاسكما، ما أنا إلا ظل ابيض يلحق ظلكما، ما أنا إلا وحشة مخنوقة في ليل هدوئك”. وإذا عبرنا إلى جهة المرأة بكل مشاكلها وهمومها وحالات الكبت التي تعانيها، وهي إحدى هواجس الكاتبة، سنجد في هذه القصة أنها أعطتها في وصفها شكل “العنزة”، على لسان مصبح الذي تزوجها للحصول على مالها، ولكي تنجب له الأولاد، بعد فشل زوجته الأولى في ذلك فاختارت له “عشبة” كي تحقق له رغباته في أن يكون أبا، بمقابل ذلك نرى كيف تعامل زوجة مصبح، ضرتها الجديدة “عشبة” بكل قسوة وإهمال، بل إنها تفقدها إنسانيتها وتحرمها من أبسط حقوقها في الأمومة، بل تصل بها نهاية أحداث القصة إلى “الموت”، دون أن تنجح في التأقلم مع الواقع الجديد. كما يبدو فان القصة عامرة بالفضاءات الفنية، التي في مجموعها تشكل نموذجا للكتابة الراقية، والمستشرفة للمستقبل، فموت “عشبة” يعتبر جوابا ضمنيا على سؤال الموت، في تجديد للذات، ومعهما تصبح أكثر سموا ورقيا من حياة الطبيعة إذا كانت بشكلها القاسي في قصة تسجل حضورا للكتابة كفعل يتمرد ويدين ويصرخ في بحث محموم عن واقع أفضل. جيل الريادة إن الكتابة عن جيل الريادة في القصة الإماراتية، هو بحد ذاته غوص في عالم مليء بالتفاصيل، بل إن إعادة قراءة إنتاج هؤلاء هو بحد ذاته نبش في الذاكرة الإبداعية، نلمح من خلاله ذلك التطور في الخطاب الأنثوي في ظروف كانت الكتابة فيها تبحث عن مساحة للتعبير، فما قدمته سلمى مطر سيف أو (مريم أبو شهاب) وشيخة الناخي وليلى أحمد ومريم جمعة فرج وأمينة بوشهاب وسعاد العريمي، وغيرهن من جيل الريادة، سبق وقته بكثير، على مستوى التناول، وبناء القصة واستخدامات اللغة، والنظرة المستقبلية في الطرح. وبذلك أسهمت الرائدات في وضع الأرضية القوية لانطلاقة الجيل الجديد من القاصات والروائيات الجديدات. وتبقى تجربة سلمى مطر سيف بوجه خاص، تجربة غنية، تشي بذلك النضج والوعي الكتابي ضمن تيار الوعي، بعد أن قدمت لنا عوالمها السحرية والرموز الدالة لإعادة صياغة الواقع، فمن خلال قلمها الأنثوي الجميل استطاعت أن تمنحنا ذلك النص الشعري المشبع بالغموض والجماليات، ولهذا ظلت باقية في دائرة البحث والدراسة والإعلام والنقد حتى بعد أن غابت عن ساحة الكتابة، نظرا لذلك الصدق الكبير الذي تمتعت به كتاباتها من اتزان وموضوعية. ما أنا إلا غبار قيامك وقعودك بقيت عشبة تنظر إلى نفسها وتدور حول المكان، طردت زهور الياسمين من شعرها وألقت الذهب على التراب.. وجعلت تبكي بكاء صاخباً أشبه بثغاء ماعز مولود وكانت تضع رأسها بين يديها وتشهق، وبقيت على حالها هذا أياماً وكانت تتناوب في البكاء والنوم إلى أن أقبل مصبح مبتهجاً بعد أن غاب أسابيع طويلة.. وحمل عشبة الباكية بين ذراعيه ودار بها حول نفسها وصعد بها إلى سحابة اتخذت شكل امرأة واقفة تحمل جرة.. وقد ارتوت عشبة من الجرة فهدأ بكاؤها ثم صعد بها مصبح الجبل، لاح بيت جميل أبيض كحليب الطريق النجمي. عشبة أصابها هدوء غريب عندما اقتربت من البيت بناظرها وهي جالسة على كتف مصبح.. سمع مصبح قلب عشبة يدق دقاً مستقيماً لا تشوبه أي توترات صاعدة وهابطة، أعجبك البيت. شرب عرقي ودمعي عندما فارقتك. آه ما أصعب فراق الأحبة، البحر يعكس خضرته وزرقته عليه والسماء تخضبه بأمواجها والجبل رجل راسخ القدم يحمله، يحملك يا سراج عيني. دخل مصبح بعشبة داخل البيت، غرف واسعة حتى لا ترى جدرانها، أرضية مليئة بزهر الرمان لون شفاه عشبة.. وبعد جولة الاستطلاع للبيت، نام مصبح عند قدمي عشبة المنكمشة الهادئة الصامتة حتى عن المواء، وهو يهذي: مملكة حبنا، عش العصفورين، بحر السمكتين، أرجوحة النجمتين، في البيت الأبيض لم تقم عشبة من مكانها لتسكن الحجرات العديدة وظلت في مكانها الذي حطها به مصبح.. ولم تستطع أي حركة دافعة من مصبح لزحزحة عشبة من مكانها وبقيت في هدوئها بينما أصاب مصبح الاضطراب البالغ الأسى: فديتك أين ضاع مواؤك، إن شئت سأملأ البيت بالماعز. لكن كفي عن صمتك برغم أنني لا أحب هذا الماعز اللعين، لا أحبه لأنه يسلبك مني. يا لون ليلي.. لم ينل إعجابك البيت الجحيم تحرقه.. هيا نرحل عنه. مرض بعد ذلك مصبح واجتاحته نوبات راعفة من الحمى الحمراء وغامت عيناه في البخار الندي وزادت وحشة ألمه عندما شعر بعجزه عن الاهتمام بعشبة وكان يهذي في حماه وعشبة تنظر إليه وهي تموء: عشبتي، السماء بيضاء، الملائكة بيض. العشب أبيض. قلبي أبيض. حبك لون حياتي. لكن مصبح سرعان ما تغلب على مرضه وديدانه وعاد إلى عشبة. مصبح عود هوائي. عشبة كرة متدحرجة سمينة: ما أنا إلا غبار قيامك وقعودك. ما أنا إلا فقاعة وحيدة في سحائب أنفاسك. ما أنا إلا ظل أبيض يلحق ظلك. ما أنا إلا وحشة مخنوقة في ليل هدوئك. زاد اهتمام مصبح بعشبة لحظات حياتها الأخيرة والتي نما فيها وليدها إلى أن استطاع أن يحبو في إحدى المرات منفلتاً من يد شيخة واقترب من عشبة متجعداً أشبه بدودة تصعد ورقة خضراء وانقض على ثديها يمتصه فضحكت لأول مرة في حياتها عشبة. مصبح زاد نحوله حتى أصبح أشبه بنخلة مجوفة القعر وتضاعف شغفه المهووس بعشبة، كما أنه لم يقاربها بعد ولادتها واكتفى بعشقه الحار لها. في أحد الصباحات والتي مشى فيها وليدُ عشبة لأول مرة نهض مصبح باكراً واقتطع خلية نحل وعصر عسلها وخلطه مع الزبد وقدمه لعشبة وهو أشبه ما يكون في رهافة النسيم الصباحي وأقعى عند قدميها. عشبة التهمت كل ما قدمه لها مصبح ثم قامت بشد ملابسها إيذاناً بقرب الاستحمام ودخلت المرحاض ولم تخرج منه، إذ استولى عليها إسهال لم يتوقف عنها إلا وهي ميتة. عادت شيخة إلى بيت مصبح الذي أصبح “يريل” على ملابسه ولا يقارب طعاماً سوى حليب الماعز. نص من قصة “عشبة”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©