الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأصيل والدخيل في المسرح العربي

الأصيل والدخيل في المسرح العربي
21 يوليو 2010 20:31
مرت على المسرح خلال حقب متعددة أزمات كثيرة، ولكنه خرج منها وعاش من بعدها، ولم تكن الأزمة الأخيرة التي تعرض لها مسرحنا العربي من قبل بعض المستشرقين خلال نهاية القرن الماضي وتمثلت في التشكيك في نقاء وصفاء الظاهرة المسرحية العربية.. لم تكن يوما إلا مصدرا خرج من تحت عباءة المسرح الغربي, مثل هذه المحاولات التي تشير إلى أن العرب لم يعرفوا فن المسرح بمعناه الحقيقي والتقني، وتلك أشياء اعتدناها.. لكنها في الوقت ذاته تدخل ضمن منظومة (عولمة المسرح) التي يسعى البعض إلى ترسيخها في أذهاننا، كما نجح في عولمة مظاهر كثيرة من فكر وثقافة وعادات وتقاليد بعض الشعوب، في محاولة جديدة لتسييد ثقافة وفكر النمط الواحد، فما هو أصل المسألة؟ فكرة عولمة المسرح العربي فكرة قديمة الجذور، تبناها المستشرق “أرنست رينان” مطلع الستينات ولكنها ما زالت تلقي بظلالها من خلال الصراع المرير الذي يعيشه المسرحيون العرب في تعاملهم مع الأشكال المسرحية والأساليب والأنماط ووسائل تقنية العرض وبروز ظاهرة عرض المخرج أم المؤلف، وما إلى ذلك من قضايا ما زالت معلقة في جانب البحث والروءى المختلفة التي تطرح في المؤتمرات والمهرجانات المسرحية. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ننجح في مواجهة هذه الهجمة القديمة المتجددة؟ هل عرف العرب الأدب المسرحي أم لم يعرفوه؟ سؤال أصبح تقليديا، لكنه على جانب كبير من الخطورة والأهمية، وله تداعياته لاسيما وان السؤال أصبح نسيجا غرضيا وعصبيا، قاده بعض المستشرقين وعلى رأسهم أرنست رينان كما ذكرنا وهو الذي أرجع فرضية عدم معرفة العرب للأدب المسرحي إلى نقص جوهري في طبيعتهم العقلية، وإنهم بحكم عقليتهم السامية قد اتجهوا إلى شؤون الدين، ولكن إذا علمنا ان المسرح منذ الخليقة قد نشأ في أحضان الدين فهذا أدعى إلى ان يكون العرب قد عرفوا الأدب المسرحي؟ نعرف إنه لا توجد أمة لم تنشأ على التدين، لأنه فطرة في الطبيعة الإنسانية وليس صفة تكتسبها أمة دون غيرها، وقد اتفق بعض علماء الأديان على وجود (حاسة دينية) تحوج الإنسان إلى الاعتقاد كما تحوجه إلى الطعام. لقد وقع رينان في خطأ، ونظن إنه مقصود تماما، حينما تصور أن الأسطورة ملازمة للدين، وإن العرب عرفوا الأساطير التي هي حجة على إمكان معرفتهم فيقول: “أما أن الساميين لم يعرفوا الأسطورة، فبحسبي أن أشير إلى الأساطير التي وضعت حول أدونيس وتموز والبعل وعشتروت والعزى عند الآشوريين والبابليين والعرب”، لكنه نسي أن الأسطورة ـ كالعقيدة ـ لا تكاد تخلو منها أمة من الأمم، ولكن هل تؤدي الأسطورة إلى العقيدة؟ وهل يكفي أن توجد الاثنتان حتى يوجد المسرح؟ الواقع إن (العقيدة) أشمل من الأسطورة وليس العكس، ونعني بذلك إن العقيدة يمكنها أن تحتوي الأسطورة، فالأولى فيها الالتزام الخلقي وفيها الشعور الأدبي وفيها الأمل في الخلاص، وفيها معان نبيلة من الطاعة والولاء، أما الثانية فلا تتضمن بالضرورة شيئاً من هذا كله، فقد وجدت أساطير قديمة ترجع إلى ملكة التصوير ولا ترجع إلى ملكة التدين، لأنها لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي تصدر عن الخيال. أضف إلى هذا كله ان الإنسان يسمع الأسطورة ولا يتدين بها ولكنه يتدين بالعقيدة ولا يلزم أن تصطبغ أمامه بصبغة الأساطير.. بعض من حاولوا تقديم إنصاف زائف لما يتعلق في هذا الموضوع كل من: عالم الآثار إيتين دريوتون الذي ذهب في كتابه “المسرح المصري القديم” إلى أن المصريين القدامى عرفوا الأساطير الدينية التي هي أساس المسرح، وأشار إلى أنهم عرفوا الصراع الذي هو أساس عنصر الدراما من خلال ما تحمله أسطورة (أوزوريس) من صراع بين الخير والشر.. أما الناقد الإراديس نيكول في كتابه “الدراما في العالم” فقد ذهب إلى أن مصر القديمة عرفت التمثيلية الدينية أو ما كان يعرف بـ (تمثيلية أبيدوس)، كما أثبت المستشرق أوليري في كتابه “الفكر العربي ومكانه في التاريخ”، ونيكلسون في كتابه “تاريخ الأدب عند العرب”، وجولدزيهر في كتابه “العقيدة والشريعة في الإسلام”، وجرونيباوم في كتابه “دراسات في الأدب العربي”، هؤلاء جميعاً اثبتوا أو بتعبير أدق لم ينكروا أن العرب القدامى كانت لهم أساطير في الجاهلية، بل كان تلهم تلك الشعائر التمثيلية شأنهم شأن غيرهم من الأمم. من جملة ما يراه رينان حول القضية التي نطرحها، وللأسف فقد تبنى بعض المفكرين العرب ما جاء فيها: “ان مزاولة المسرحية تقتضي الروية والتفكير بينما العرب هم أهل بديهة وارتجال”. وأيضا: “المسرحية تتطلب الإلمام بطبائع الناس وأحوالهم، وهم قد شغلوا بأنفسهم عن النظر فيما عداهم”، وربما كان يقصد بذلك التفسير الذي ساقه عباس محمود العقاد في كتابه “أثر العرب في الحضارة الأوروبية” معللاً به عدم معرفة العرب للأدب المسرحي. فعند العقاد ان التمثيل فن من الفنون التي ترتبط بالحياة الاجتماعية ارتباطا وثيقا، وطالما ان بيئة العرب لم تتعدد فيها أدوار الحياة الاجتماعية، لم يكن يعقل أن ينشأ فيه فن التمثيل أو يظهر فيها أدب المسرح: “فإنما يقوم فن التمثيل من الناحية الاجتماعية على التجاوب بين الأفراد والأسر كلما تعددت العلاقات وتنوعت المطامع والنزعات، لوم يكن في مجتمع البداوة مجال كبير لهذا التجاوب بين أسرة وأخرى وبين إنسان وإنسان”. لا حاجة بنا إلى رد مسهب تجاه هذا الافتراض القاصر، ذلك أن العرب في حياتهم عرفوا حياة البداوة والصحراء والقافلة، كما عرفوا الحياة الحضرية بكل تعقدها وتشابكها سواء في الجاهلية أو في حقبة الإسلام، ويكفي أن نذكر مملكة سبأ التي تنسب إليها الحضارة، وكذلك عاصمتها مأرب التي كانت تشكل مركزاً ثقافياً وتجارياً هاماً في جنوب الجزيرة العربية، ثم نذكر بعد ذلك دمشق في العصر الأموي وبغداد في عهد العباسيين وقرطبة في العصر الأندلسي، فهذه كلها حواضر وعواصم تعددت فيها العلاقات الاجتماعية والإنسانية وشهدت ألواناً من التجاوب بين الأفراد والأسر، وألواناً متعددة من الإبداع والمشهد الفني، والترجمة، وتحقيق بيئة صالحة للفن بكل أشكاله. من جملة من تبنوا آراء أرنست رينان، مستشرق هولندي يدعى لوس فيربونالي وذكر بأن العرب لم يعرفوا المسرحية، لأنها تحتاج إلى التحليل والتطويل والعرب أشد الناس اختصاراً للقول وأقلهم تعمقاً في البحث. وما يؤسف له هنا أن بعض المفكرين والمسرحيين العرب تبنوا جزءا يسيرا من هذا الرأي ومن بينهم المفكر يوسف نجم والمسرحي الدكتور محمد مندور الذي أشار في كتابه “المسرح” إلى أن التراث الأدبي الذي خلفه العرب القدماء يكاد يتكون كله من الشعر، أما النثر فلم يصلنا منه إلا بعض جمل من سجع الكهان. ذلك لانهم لم يدخلوا في الأدب من النثر إلا ما سموه (نثرا فنيا) أي نثرا منمقا مثل الخطب والرسائل والمقامات والأمثال. ويتعمق الاتهام للعرب في هذا السياق حين قالوا إنه والحالة هذه كان من الصعب عليهم إنتاج الشعر الدرامي القائم على الحوار المختلف النغمات، لا على الخطابة الرنانة، كما يقوم على خلق الحياة والشخصيات وتصور المواقف والأحداث، وفي النهاية يصلون إلى أن العرب لم يعرفوا فن الدراما في صورته التي خلقها اليونان أو في أية صورة أخرى مشابهة كما أن عقليتهم الفنية ونوع خيالهم لم يكن موازياً لإبداع هذا الفن المركب. هل هي تفرقة عنصرية تلك التي يقوم بها المستشرقون منذ ان تبنوا هذه القضية الفكرية الخطيرة؟ فهم يحاولون جاهدين القضاء على كل المحاولات التي بذلت لإنبات الفكرة المسرحية في واقعنا الحضاري، حتى الجديد منه، إذ يعملون على الدوام على ترسيخ فكرة تبعية الفن العربي والمسرح على وجه الخصوص إلى المسرح الأوروبي، لا سيما في بناء الشخصيات في المسرحية. أما الشق الثاني من حملة العولمة القديمة على الإبداع العربي، يجيء في صورة سؤال: لماذا لم يعرف العرب التمثيل بعد الإسلام؟ ولماذا لم يترجموا التراجيديات اليونانية ضمن ما ترجموه من تراث الإغريق؟ إن المتتبع لحركة الترجمة عند العرب، يعرف أن الكثير من تراث الأمم السابقة على العرب، قد ترجم في القرنين السابع والثامن بوساطة السريان، عن طريق السريانية أول الأمر، ثم بعد ذلك عن طريق اليونانية مباشرة، وبعد أن استقر الإسلام في البلاد المفتوحة، تعلم العرب اللغات ونقلوا الكثير من آثار اليونان إلى العربية، كما نشطت الترجمة في عهد الأمويين والعباسيين، ونعرف أن بشر متى بن يوسف القنائي قد ترجم بجدارة كتاب “فن الشعر” لارسطو. كما سمح الإسلام بترجمة كتاب “كليلة ودمنة” الذي نقله ابن المقفع عن الفهلوية، كذلك ترجمة كتاب “الشاهنامة” للفردوسي الذي نقله البنداري عن الفرس في عهدهم الوثني، وهي إشارات تشير إلى أن الإسلام لم يكن عنصرياً، ولم يحل في أي يوم من الأيام دون ترجمة أي إبداع مهما كانت لغته. فقد ترجمنا قديماً كتاب “المجسطي” لبطليموس و”الجمهورية” لأفلاطون وكتب “الاورجانون” لارسطو، مما يدلل على ان العرب ما أرادوا أن يوصدوا الذهن أمام أي إبداع وانهم لم يكونوا عاجزين عن فهم مضامين المسرحيات الإغريقية. من الجدير أن نقول حتى لو سلمنا جدلاً أن العرب لم يعرفوا فن المسرح، فإن الأخير ليس خاصية بشرية تتميز بها كل أمة بحيث تتهم الأمة في سليقتها وعبقريتها إن هي لم تعرف هذا الفن، فهو ليس كلغة الكلام أو لغة الشعر بحيث تصبح الأمة بدونهما بكماء أو صماء أو غير شاعرة وإنما هو فن يضاف إلى بقية الفنون، أو هو فن جمع عدة فنون. فالمهم إذن ان العرب المحدثين والمعاصرين قد عرفوا هذا الفن وانهم إذا استجلبوه ضمن ما استقوه من فنون القول الأخرى كالرواية والقصة القصيرة، فهم عملوا على تأصيله في وجدان الكثرة القارئة لأدب المسرح والكثرة المشاهدة لفن التمثيل. الدارس بعمق لهذه المسألة يجد أن صلتنا بالمسرح ومنذ بداياته الأولى لم يكن مقطوع الصلة بالتراث أو التاريخ العربي، بل وجدنا أن مارون النقاش والقباني يؤسسان مسرحهما على أسس تراثية تاريخية عربية. وفي العام 1963م دعا الدكتور الراحل يوسف إدريس إلى ضرورة خلق مشروع عربي نصاً وروحاً وشكلاً ومضموناً من خلال اصطلاح (مسرحة المسرح) مطالبا المسرحيين بالعمل على عدم عزل الجماهير عن فن ورسالة المسرح كما يحدث في جوانب من ثقافتنا الأدبية والفكرية، وأكد العديد من المسرحيين العرب أهمية إيجاد صياغة عربية أصيلة سليمة معافاة من أية تأثير لجوانب الاقتباس أو الإعداد أو الاعتماد على النموذج الأوروبي حتى نتمكن مع الوقت من تحقيق معادلة الأصالة والمعاصرة وهي المعادلة الوحيد القادرة على تصدير (مسرحية عربية) ذات هوية وخصوصية وليست هجينه ما بين الشكل الغربي وملامح الشخصية الغربية. وحينما نستذكر أن الفريد فرج قد قدم لنا يوماً “حلاق بغداد” و”علي جناح التبريزي” مستلهماً أحداث ألف ليلة وليلة، وسعد الله ونوس حينما كتب “مغامرة رأس المملوك جابر” في قالب الحكواتي، ووصول الطيب الصديقي في المسرح إلى مسرح الحلقة ومسرح الرواية ومسرح المقلد في “ديوان سيدي عبدالرحمن” واعتماد المقامات شكلاً ومضموناً في مقامات بديع الزمان الهمذاني، واحتفالية عبدالكريم برشيد في المسرح التونسي، نعرف ان لدينا أشكالا مسرحية عربية خالصة كالقراقوز وخيال الظل وصندوق الدنيا والسرادق وغيرها كما نعرف أن لدينا مبدعين قادرين على التصدي لأكبر الأعمال، كما يجب ان نتصدى من خلال ذلك إلى هجمة العولمة الجديدة التي تحاول تهميش إبداع المسرح العربي، لصالح المبدع الأوروبي الذي يتصدر المهرجانات وحركة النشر وفرض النموذج التجديدي في الأشكال المسرحية التي أصبحت بلا حدود في كافة المجالات، نعرف أن المسرحيين العرب قادرون على المواجهة من أجل الأجيال الجديدة الحائرة بين النموذج الغربي والنموذج العربي وما بينهما من فواصل تشكل قضية على جانب كبير من الأهمية والخطورة؟ فقط ما ينقصنا في المسرح العربي هو تعزيز فكرة حوار التجارب بين الأجيال المسرحية، بالإضافة إلى إصدار نماذج راقية من الدراسات والكتب المتخصصة في المسرح، كتب يكتبها نقاد شرعيون يستطيعون تغيير صورة المسرح العربي لدى العالم، نحن بحاجة على الدوام إلى تلك المؤتمرات والملتقيات والمهرجانات العربية المختصة في المسرح، ففي مثل تلك المناخات تثار الإشكاليات وتناقش القضايا المسرحية العالقة وتوضع الحلول، ونقول الحلول لا التوصيات التي لا يتابعها أحد؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©