الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبلة: وهمٌ في زمنٍ طفل

عبلة: وهمٌ في زمنٍ طفل
21 يوليو 2010 20:39
في قراءة السيرة الشعرية للشاعر الإماراتي حبيب الصايغ (أبوظبي 1955) يمكن التعرف على الإشكالات التي أثارتها القصيدة الجديدة، وسياقات تلقيها قبولاً ورفضاً، والمصدات والإكراهات التي تعرضت لها، ومعاناة الولادة والنضج أيضاً.. فالمجددون الأوائل يحملون رايات التغيير الشعري كما يحملون صلبانهم، تنالهم الاتهامات وأولها في الخطاب التقليدي، كما يشخّص حبيب الصايغ في حوار صحفي هو “الإساءة إلى التراث ومحاولة هدمه.. وتخريب شكل القصيدة المتوارث المتمثل في عمود الشعر أو القصيدة البيتية، ويمتد الاتهام على مستوى المضمون كذلك”، وهذا ما تعرض له الشاعر في بدايات نشر القصائد الحرة، وإذ يتذكر ذلك الذي حصل في مرحلة سابقة فإنه يضيف للمصاعب المبكرة محاولة خلق قطيعة بين شعر الداخل وشعر الخارج، كون الشاعر عاش زمنا ـ ونشر نتاجه ـ خارج وطنه، وأصدر مجلة “أوراق” ذات الهدف التحديثي، ويتذكر أن استعداء التحريض ضد التجديد حداً بوزارة التربية في حينها لإصدار قرار بمنع كتبه في مدارسها. لكن انطلاق المشروع التجديدي من حاضنة عربية وفّر من بعد التعضيد التجديدي الذي يحدده الصايغ بشعر الماغوط وحضوره في الصحافة والنشر، وتعرف الشاعر عليه وعلى شعره معا، بجانب تجارب الرواد والسياب خاصة، وطلائع شعر البحرين الجديد كمناخ قريب على مستوى التداول والتلقي، فضلاً عن الظروف التي فرضتها تحولات الحياة الحديثة في الخليج.. ثم تزايد وتائر التجديد وظهور أصوات شعرية محلية سيكون لتجاربها شأن في الحركة الشعرية العربية. وإذ تتوالى إصداراته الشعرية باتجاه التحديث والدخول بعد التفعيلة في تجربة قصيدة النثر، تتجه موضوعاته لمقارعة الواقع الذي عاش بعض تفاصيله عبر اجتياح بيروت، وقبلها في العقد الستيني هزيمة حزيران. وهذا يفسر على مستوى المضامين انشغال الشاعر بالحَدثي المؤثر والمثير، والتعبير عن أصدائه بعد تمثلها شعرياً. وهذا يتضح في “الناطق باسم نفسه” ديوانه الثاني، وديوانه “قصائد إلى بيروت” وحتى “وردة الكهولة” و”ثلاثة أرباع الغيم” من دواوينه الأحدث. وقد ظل قريباً من الأشكال الشعرية دون حماسة لنوع واحد؛ وهذا يفسر مثلاً ختام ديوانه “وردة الكهولة” بقصيدة عمودية بعنوان “الجواهري” رغم أن الديوان ضم تجارب في كتابة قصيدة النثر، كما أنه لم يتخل تماما عن شعر التفعيلة، فقدم بذلك التنوع الفني (عمود ـ حر ـ نثر) نموذجاً لتعايش الأشكال الشعرية المتناقضة في شاعر واحد ـ كما يقول. ونستطيع تلمس التنوع في هيئة أخرى عبرت عنها كتابته للقصيدة الطويلة، وللقصيدة القصيرة جدا بما تتطلب من تكثيف واختزال. تنويعات الموت الممكنة يمثل الموت مهيمنة موضوعية في قصائد حبيب الصايغ الذي يرى أن الموت حادثة عادية لا بد من تقبلها وتوقعها أيضا، لأنها نهاية لا بد منها لكل شيء، وهي استمرار أسطوري أو رمزي للحياة كما تبدو في قصائده. وحضور الموت في الحياة أيضا يفسر حزن الشاعر وصوره القاتمة وتقليبه لمفردات الموت، كالحزن والوحدة والألم بكثرة لافتة، فحتى حين يحيي الشاعر محمد مهدي الجواهري يخاطبه قائلاً: مصفّدانِ ولا قيدٌ سوى يدنا وميتان ولا قبرٌ وحفارُ ومستحيلان لم نولد وقد يبست منا عروقٌ وأمطارٌ وأنواء ويسمي الموت القفزة الأبدية لأنه يسلمنا إلى عدم نندرج في نسيجه ولا نحسه، ويعبر ببلاغة عن تلك المسألة في قصيدة قصيرة هي مقطع من قصائد بعنوان “لحظات قتل”: ماذا تعني ولادة جَديٍ جديد في بيت القصّاب؟ وفي مداعبة ساخرة مع الموت يسمي إحدى قصائده “نقوش إضافية على قبر حرب” متسائلاً: “كيف لا تلبس الروح أكفانها في انتظاري، ولا ترتدي ضجري.. قد تهيأتُ للقفزة الأبدية، محض انتهاء بهيّ، أيّهذا الدم المتخثر كالصمت داخل قبري انتبه! لن أهادن موتي. موتي سؤال وموتي اشتعال”. تلك الأسئلة سوف تدفن بالموت كذلك “ادفن أسئلتي في حديقة بيتي” فالحديقة ترميز للبدء الأول، حيث بزغت أسئلة آدم وأودت به إلى عقاب سرمدي، ستظل تعانيه سلالته بمتعة وألم معاً. ولا يهب الموت استثناء لأحد، حتى مهندس البيوت التي شيدتها مخيلته ليراها معلقة في الفضاء، سيناله الموت ويقفز في العدم، فتكون نهايته صمتاً كنهاية القصيدة، ويستحيل بيت الشعر بياضاً، وبيت المهندس قبراً: لم أشأْ أن أداهم هذي القصيدة بالموت لكن قبر المهندس قال: كفى واختفى والموت يشمل الأسماء كما المسميات فتنتهي جثثا غرقى فوق سطح الماء فيتساءل الشاعر في قصيدة “الأسماء” عن مغزى تلك النهاية ومصدرها: من ذا، بين الطلقةِ والطلقةْ، ينكش شَعر الأسماءْ لتكون، كعادتها، جثثاً طافية فوق الماءْ؟ سيرة البطل تؤازر دراسة حبيب الصايغ للفلسفة ميوله التأملية، وتسهم مع النشأة البيتية في ثقافته، وانهماكه مبكراً في قراءة التراث، ثم الإطلال عليه بعيون جديدة وسّعتها رياح التجديد ومرتكزاته النظرية، فيستفيد من الدراما المؤثرة في حياة عنترة بن شداد العبسي عبداً في الترسيم القبلي، وحراً في الشعر والمعتقد، فيستعيره قناعا؛ ليُنطقه بما تزدحم به نفسه من مشاعر، في قصيدة طويلة، مكتظة بالصور والمفردات والإيقاع والتداعيات المناسبة لمهمة إيقاظ شخصية عنترة، واستحضار أزمته وتجربة حريته في عبوديته وفروسيته، وحبه لعبلة وحرمانه، ومكان تجربته حيث الصحراء المنفتحة على المجهول، وفضاؤها الطلق. ويثير العنوان مخيلة القارئ ويلزمه بمطابقة سيرة عنترة المقترحة مع ظلالها المعاصرة، فالعنوان “هنا بار بني عبس ـ الدعوة عامة” يفك ارتباط الشخصية بزمنها الذي عاشته، وينزلها في زمن القراءة المعاصرة عبر إشارة البار الذي حمله العنوان، بينما تظل عبارة (بني عبس) إشارة معاكسة تستحضر زمن الشاعر الذي عاشه حقيقة وواقعاً. ولو بقليل مما يمثل شخصيته الحقيقية واحداً من شعراء المعلقات قبل الإسلام، وفارساً يرد ذكره في بعض أيام العرب، وفي السياق الاجتماعي وضع له كاتبو سيرته من المخيلة غالبا شخصية درامية تتصارع داخلها العبودية والشجاعة والحب والحرب كثيمتين مهمتين في شعره وحياته. لكن عنترة هنا ليس البطل النموذجي الذي تحكي عنه الأخبار والسير، إنه خائف وحيد حزين يبحث عن مصير رضي به، فتخلى عن صوت الجماعة ولو كانوا عبيدا مثله ينتظرون مخلّصهم، لأن ما حوله من صعاب لا يمكنه تجاوزها نيابة عن هؤلاء المستضعَفين، فيكتفي بمغامرة البيداء التي لا زاد معه لاجتيازها سوى وساوسه وأوهامه وأحلامه وحبه المخذول. يصرح الشاعر بأنه قدّم في عمله المبكر هذا (1980) قراءة مختلفة لسيرة عنترة “فلم أجعله بطلاً في النهاية كونه سعى لخلاصه الشخصي لا لخلاص كل العبيد”. تبدو حداثة القصيدة في أكثر من مستوى يذكّر بالتقنيات المتاحة في مرحلة بدايات التحديث الشعري، كاستخدام القصيدة الطويلة أو القصيدة ـ الديوان، فالعمل معروض للقراءة مستقلاً بنفسه وليس بجوار سواه من النصوص. كما يقترح الشاعر القناع أداة لبناء القصيدة، فالراوي منذ الاستهلال هو عنترة، بينما انسحب الشاعر متخفياً خلف وجهه، كما يعتمد كثيراً من آليات السرد، لذا أفلح حبيب الصايغ في تأثيث القصيدة بما يكمل زمن السرد فيها والمكان الذي تجري فيه الوقائع الشعرية، بعد أن استلها الشاعر من سلسلة وجودها الخارجي في عصر ما قبل الإسلام، فهي تبدأ بذِكر البيد مكاناً، ويختار اسمها هذا الدال على الموت والقفر والخلاء دون سواه، لكن البيد تشاغب عنترة، وتستثيره؛ فلا يهادنها ويواصل سفره الذي يمثل في أحد مقترحات التأويل رفضاً لواقعه، يحمل زوادته ويمضي ملاحقاً احتراقات عمره وحيداً “ولا شيء حولي سواي” ويحضر ظله أو شخصه الثاني محاوراً يراوده عن نقائه الجريح، لكنه يموت تاركاً إياه للوحدة واليأس؛ فالفصول ميتة والمصانع خاوية والطرق محفوفة بالهلاك والرماد في كل مكان، كناية عن موت يواجه عنترة فلا يدّريه إلا باستيهامات وتذكرات يخلص منها إلى فقر وفقر وعدم يشمل الزمان والمكان والأشياء. لم يعد عنترة إذن ذلك البطل الذي صوّرته المخيلة الشعبية جسوراً لا يأبه بالحرب ولا بشروط عمه المستحيلة مهراً لعبلة التي يخاطبها في لحظات من تداعياته، فيراها في النهاية تشاركه البؤس والفقر ولكنْ لديه شيء واحد يمهرها به: هو الوعد الذي تنتهي به القصيدة “لحم الجياع وقود الحريق الذي سوف يأتي” ملتهماً ما عمّر الطغاة وتحصنوا به. يتابع حبيب الصايغ عبر القناع سفر عنترة الرمزي هذا وحيداً رافضاً لاندراجه ضمن العبيد والقبيلة التي ترفضه في السلم وتطلبه في الحرب، وتتوافق تفعيلة بحر المتقارب فعولن فعولن في تصوير تلك الرحلة، ويأس عنترة المعبر عنه كإسقاطٍ لخيبات رصدها الشاعر، وأراد توصيلها عبر القناع مثل: “هذا زمان الأبالسة الفاتحين/ وهذا زمان التشرد/ في دبق الموت/ أغنية النصر/ في فم عبسٍ تذوب/ فهلّا سألت أيا عبلة الخيل عنه/ أما زال في البار يشرب نخب الوصول/ إلى الملك المستبد؟”. إن السرد كتقنية بنائية حاضر في هيكل القصيدة. والشاعر يحافظ على ضمير السرد طوال النص، كما يشد أجزاء القناع ويغلف به رؤيته، تلك الرؤية التي ستنضجها تجاربه اللاحقة وتقوي تركيبها بتنوع أطر الحداثة وكيفياتها كزاوية للنظر وموقف من العالم في شعره على الدوام. هنا بار بني عبس ـ الدعوة عامة تشاغبني البيد في ذروة الوحدة العاقلةْ وزوّادتي فوق ظهري وعمري نفقْ ظلامٌ تمدد في الوقت ثم احترقْ ولا شيءَ حولي سواي وظلّي يراودني عن نقائي الجريح ويلفظ باقي الرمقْ.. وحديَ في البيد كم تبعدين ديارَ بني عبسَ كم تقربينَ من الحلم إني اصطفيتكِ إني اخترعتكِ إني غرستكِ في القفرِ قفرا جديدا ألا إنه الرعبُ تلك المضارب تبعد عن قدم البحر سبعين عاما وتبعد عن مطلع الشمس سبعين قرنا ويومين... هل أنتِ يا عبل وهمٌ.. هل أنت إلا الجنون المسافر في رمح عنترةٍ تضاريس وجهكِ ترسم خارطةَ الزمن الطفلِ.... ما أثمن النوق في عبس ما أرخص النوق في عبس هذا زمان الجياعْ تجوعين يا عبل لحم الجياع وقود الحريق الذي سوف يأتي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©