الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايات خلف الكواليس السياسي

حكايات خلف الكواليس السياسي
11 مايو 2011 20:12
الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة التونسية المؤقتة، رجل سياسة عمل طيلة عقود مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وتقلد عديد المناصب العليا منذ استقلال تونس (1956) على غرار وزارات الداخلية والخارجية والدفاع. وكان ألف هذا الكتاب، وهو أشبه ما يكون بالمذكرات، عن شخصية الحبيب بورقيبة وعلاقته به، محللاً سياسة الزعيم التونسي ومواقفه، وكاشفاً عن بعض أسرار السلطة وكواليسها. وقد حرر المؤلف كتابه باللغة الفرنسية وأصدره العام الماضي، وهذه الأيام صدر الكتاب باللغة العربية لأول مرة بعد أن أوكل المؤلف مهمة نقله الى محمد معالي وهو مترجم مشهود له بالكفاءة والحرفية. عائلة المؤلف ينتمي الباجي قائد السبسي – وفق شهادته في كتابه - إلى عائلة من سكان تونس العاصمة، تقيم بحي باب الأقواس، وكان والده أصغر إخوته وأخواته، وكان يعيش بعد نضوب الثروة العائلية، حياة متواضعة باستغلال مزرعة أشجار (فواكه) على ضفاف “وادي مجردة”. وبناء على نصيحة طبيبه الدكتور محمود الماطري (احد رفقاء الزعيم الحبيب بورقيبة)، انتقلت الأسرة إلى مدينة “حمّام الأنف” كي يتمكّن من متابعة علاجه بالمياه الحارة، وهناك توفي، وترك أبناءه صغاراً، ولم تكن سن المؤلف حينها تتجاوز العشر سنوات، وكان أكبر إخوته، وقد ربتهم أمهم. وجاء الكتاب زاخراً بالمعلومات والمواقف والتحاليل لشخصية الحبيب بورقيبة وقد روى المؤلف عديد الحالات والأحداث التي تكشف عن طبع بورقيبة، من ذلك الحادثة التالية: في سنة 1982، وعندما كان الرئيس يقضي فترة استجمام في مدينة “نفطة” بالجنوب التونسي تلقى الباجي قائد السبسي دعوة للالتحاق به، رفقة محمود المستيري وكان وقتها يشغل وكيل وزارة الخارجية ولم يكن المؤلف يعرف الغرض من هذه الدّعوة “العاجلة”. ولدى استقباله لهما، رحّب بهما بحرارة كعادته، وبعد أن تلقى اعلاما موجزاً حول آخر المستجدّات، طرح على المؤلف، وكان وقتها وزيرا للخارجية، فجأة، السؤال التالي: “سي الباجي، من هو وزير الشؤون الخارجية؟ فأجابه: ـ إنه أنت سيدي الرئيس!. ـ نعم إنه لكذلك!، قالها بورقيبة وهو يودّعهما، منهياً الجلسة. كان وقع المفاجأة كبيرا على محمود المستيري، وقال للباجي ما أن انصرفنا: “سوف لن أنسى هذا المشهد!”. بورقيبة و.. وسيلة كانت “وسيلة بن عمّار” زوجة بورقيبة و”سعيدة ساسي” ابنة اخت الرئيس امرأتين جدّ مختلفتين، وكان لكلّ منهما تأثيرها في حياة بورقيبة ولكلّ منهما دورها الذي لعبته بطريقتها الخاصة، وكان له أثر لا مجال لتجاهله في الحياة السياسية التّونسية. كانت وسيلة ملهمة بورقيبة. لقد أحبّها حبّاً جارفاً، حبّاً جنونيّاً صمد في وجه سنوات المنفى والسجن والإبعاد. وتزوجها يوم 12 أبريل (نيسان) 1962 في أجواء احتفالية مشهودة، بعد أن دفعها إلى الطلاق من زوجها الأول، وهو بورجوازي من أهل العاصمة، ووالد ابنتها الوحيدة، وبعد أن طلق هو أيضاً زوجته ماتيلدا لورين، والدة ابنه الوحيد، وهي امرأة تتمتع بحسّ الواجب والوفاء وكانت خير داعم له خلال الأيام الصعبة. ويؤكد المؤلف – بوصفه شاهد عيان – أن وسيلة كانت ميّالة إلى السلطة، وتسعى لكي تكون على علم بكلّ شيء وقبل الجميع. كان حضورها يملأ القصر، وقد حكمته لما يقارب الثلاثين عاما، حتّى اليوم الذي قررت فيه تركه دون أمل في العودة، قبل فراق زوجها ورئيسها. ويجزم الباجي قائد السبسي أن زوجة الرئيس كانت تميل إلى التدخل في كلّ شيء، حتى وإن بالغ البعض أحيانا في دورها في هذا القرار أو ذاك من القرارات الّتي يتخذها زوجها. ويروي المؤلف للتدليل على ذلك المحادثة التالية بينه وبين بورقيبة: “سألني الرئيس ذات يوم، بعد اجتماع معه: هل رأيت وسيلة هذا الصباح؟ ـ لا سيدي الرئيس، لقد توجهت مباشرة إلى مكتبك. ـ اذهب لرؤيتها قبل الانصراف، قال لي. إنها غاضبة ومعتكفة في غرفتها بسبب اعتقال أحد أقاربها. وقل لها إن بورقيبة ناضل طوال حياته للوصول إلى الحكم وممارسته في مصلحة الشعب التونسي. وهو ليس على استعداد لاقتسامه مع أحد”. ويكشف الباجي قائد السبسي – الذي كان الملاحظون يحسبونه مقرباً من وسيلة - ان بورقيبة كان ضحية دسائس ابنة أخته سعيدة، فبعد أن أعادت تذكيره بحديث صحفي أدلت به وسيلة إلى مجلة “جون أفريك” في عددها الصادر يوم 28 يوليو 1982، هرع إلى مصحة “التوفيق” بتونس حيث كانت زوجته تخضع للعلاج ودخل عليها ملوحا بالمجلة وصبّ عليها جام غضبه بحدة قلّ مثيلها. وقرأ عليها فقرات من المجلة: “إنها (وسيلة) تجسد سلطة مضادة بالفعل”، و”إن المعارضة الفعالة الوحيدة في تونس هي وسيلة”، “إنها تشكل الحكومات وتقيلها وتساعدها”. سألها: كيف فعلت هذا بي؟ أجابته: ـ لقد أطلعتك عن النصّ مسبقاً وأعجبك. ـ “لا! أبدا! أبدا! لقد تجاوزت الحدود هذه المرة وأنا لن أغفر لك ذلك”. وغادر بورقيبة المكان غاضباً دون أن يعبر حتى عن تمنياته بالشفاء العاجل لزوجته التي أدركت جيدا، في ذلك اليوم، أن صفحة بدأت تطوى في علاقتها ببورقيبة. بعد هذه المشادة السياسية الزوجية الحادة، غادرت وسيلة المصحة ولكنها - وفق رواية المؤلف - لم تقم في قصر قرطاج إقامة كاملة: حيث كانت تمضي فيه النهار لكنها تقضي الليل في منزلها بـ “المرسى”، مفسحة بذلك المجال لغريمتها سعيدة. ولكن وسيلة لم تكن تلك المرأة التي تسلّم بالهزيمة. لقد استغلت الشائعة التي تزعم أن زوجها قد يكون “مهتما” بامرأة تدعى “نجاة” وهي موظفة سامية بوزارة التجهيز لتقرر الهرب إلى المملكة العربية السعودية التي ذهبت إليها متعللة بأداء العمرة. ثم دخلت في مشادة كلامية مع زوجها عبر الهاتف من مدينة “جدة “واصفة إياه بأقذع النعوت. كان بورقيبة غاضباً لكنها كانت بعيدة عن متناوله لذلك لم يكن لديه خيار غير كظم غضبه. أرسل محمد مزالي رئيس الحكومة إلى جدّة لإقناعها بالعودة إلى تونس، ولكن هذه الزيارة زادت الوضع تعقيداً اذ اضطر مزالي إلى الإقرار، على مضض، لوسيلة بصحة الشائعات التي كان هو نفسه ضحية لها، بما أنه اضطر هو نفسه، خلال حفل التدشين الرسمي لقناة “مجردة” ببجاوة على تخوم تونس العاصمة، إلى التخلي عن مكانه البروتوكولي إلى جانب الرئيس بورقيبة، للسيّدة المذكورة. محاولة انتحار يروي الباجي قائد السبسي حادثة اخرى ويكشف أن وسيلة بورقيبة حاولت الانتحار نتيجة الخلافات المتفاقمة بينها وبين زوجها الرئيس، ويقول انه في منتصف شهر مايو 1985، بينما كان في زيارة رسمية إلى دمشق مع زوجته بناء على دعوة من نظيره عبد الحليم خدام، حاول بورقيبة عدة مرات الاتصال به هاتفياً مضيفاً: “تجنبت مخاطبته على الهاتف لأنني كنت أعرف أنّ الخطوط الهاتفية خاضعة للمراقبة ولأنني لم أكن أرغب في كشف مشاكلنا أمام أنظار السلطات السورية. وقد كنت أدركت جيداً الغرض من مكالمته. وبعد انتهاء الزيارة، بادرت بالذهاب مباشرة إلى “جدّة” حيث وجدت وسيلة في المصحة الملكية مضطربة جداً وتعاني اكتئاباً عميقاً. كانت شقيقتها إلى جانبها بمعية أصدقاء آخرين يواسونها. وكان طبيبها الخاص الدكتور عبد المجيد شراد إلى جوارها أيضا. وقد أسرّ لي أنها حاولت الانتحار وأراني أقراص الدواء التي ضبطها بحوزتها”. بورقيبة والمال لقد تميز الحبيب بورقيبة - حسب شهادة المؤلف - باستخفافه الكامل بالمال. فهو لم يسع مطلقا للتملك واكتناز المال والادخار لحسابه الخاص. وهو واحد من قلّة قليلة من رؤساء الدول الذين لم يولوا أهمية للمال والمنافع المادية. وقد حكم هذا الترفّع، غير المحسوب، دائما الخيارات الاستراتيجية للدولة ولسياسة الحكومة طول الفترة التي أشرف فيها على تسيير شؤون تونس. إن هذه الخصلة تفرض الاحترام وتنعكس إيجابا على صورة الدولة. ويشير الباجي قائد السبسي إلى ان بورقيبة كان يولي عناية خاصة للجانب الجمالي، ولكن دون أن يظهر ذلك. فهيبة الدولة تتعلق أيضا بتوازن مؤسساتها وتماسكها بقدر ما تتعلق بأناقة معالمها وجلالها، وجاذبية رموزها والحزم الكليّ لممثليها. إن المظهر واللباس والأسنان المثالية هي انعكاس لتوازن أعمق. إنه يلحّ في طلب هذا التوازن لدى وزرائه، وهو يراقب ويعاقب على أساس النتائج المسجلة وكذلك على أساس الزيّ والمظهر. لتفتتح كل الحقائب وذكر المؤلف انه رأى الحبيب بورقيبة لآخر مرة يوم 3 أغسطس 1987 بقصر سقانص بمدينة المنستير (مسقط رأس بورقيبة)، خلال الاحتفالات التي تنظم بمناسبة عيد ميلاده. وكان الأمير المغربي محمد الذي أصبح في ما بعد الملك محمد السادس يقف إلى جانبه. ولما رآه الرئيس قطع ما هو بصدده ليتوجّه لي بالتحية، رافعاً يديه وصائحاً: “لتفتح كلّ الحقائب! كلّ الحقائب، أليس كذلك يا باجي؟ ويعلق المؤلف على ذلك قائلًا:” لست أدري ما الذي ذكّره بهذه الحادثة التي مضى عليها زمن طويل، والتي بدأت آنذاك خارج سياق البروتوكول. سارعت لتحيته بمودّة وحييت الأمير. ثم انسحبت مباشرة بعد انتهاء البرنامج الرسميّ لذلك اليوم. أما بالنسبة لحادثة الحقائب التي أشار إليها الرئيس عندما رآني، فأنا أذكر أنه خلال الزيارة الرئاسية إلى مصر في فبراير 1965، فوجئ وفدنا بتشبث أجهزة الأمن المصرية بإجراء استوجب تدخلا مني في آخر المطاف لتجنب وقوع إشكال له علاقة بإخضاع حقائبنا للتفتيش. لقد قبل الرئيس، خلال زيارته الرسمية إلى القاهرة، دعوة من الرئيس عبدالناصر لزيارة وادي الملوك في أسوان. ووضعت طائرة الرئيس عبد الناصر الخاصة على ذمتنا. كنا في المطار، على أهبة الإقلاع، لما أعلن عن مجيء الرئيس جمال عبد الناصر. وصعد على متن الطائرة في إطار حرصه على مرافقة ضيفه في هذه الزّيارة. كنا جميعا حساسين لهذه المجاملة المصرية الصرف، ولكننا لم نتصور ما سيترتب عنها. تأخر إقلاع الطائرة لأسباب غير مفهومة. وأخيراً، صعد دبلوماسي تونسي شاب وطلب مني مرافقته إلى أجهزة الأمن المصرية لحسم مشكلة شائكة. كان الوفدان يتناقشان بحدّة، حول مسألة غامضة، أمام باب صندوق البضائع في الطائرة الذي كان مفتوحا. دعوت الضابط السامي وقلت له: “ماذا يحدث؟”. ـ نحن مكلّفون بأن نطلب منكم فتح الحقائب لإجراء مراقبة أمنية. ـ أستطيع أن أؤكد أن حقائبنا مراقبة تماماً. ـ مبعث قلقنا ليس أعضاء الوفد، بالطّبع، ولكن من الواضح أن الأعوان الذين أعدوا حقائب رئيس الجمهورية كانوا عرضة للاختراق ويمكن أن يكونوا مبعثاً للانشغال دون علم من الرئيس. قلت: وماذا عن حقائب الرئيس عبد الناصر؟. أليست في نفس الوضع؟ إذا كنت مصراً، فنحن موافقون على فتح جميع الحقائب في حضوري. ـ جميع الحقائب؟ هذا مستحيل. ـ جميع الحقائب، وإلا، لنقف عند هذا الحدّ”. تردّد الضابط لحظة ثم أصدر أمره بإغلاق صندوق البضائع والسماح للطائرة بالإقلاع. لم يعلم أحد بما دار من جدل، ولم أشر، من جانبي، إلى ما جرى. وقد علم الرئيس بورقيبة بذلك بشكل غير مباشر عن طريق ضابط مراسم. ولا أستطيع تفسير هذه العودة بالذاكرة بعد مرور 22 سنة، في سياق لا يدعو إلى ذلك”. بين بورقيبة ومعمر القذافي ويحلل المؤلف الفرق بين شخصية بورقيبة وشخصية معمر القذافي ويجزم بإن التباين بينهما تباين كليّ. فهما ينتميان إلى جيلين مختلفين: أحدهما عاش محنة الحرب العالمية وسبر أغوارها، وشهد ظهور النظام العالمي وفهم أسراره وآلياته، بينما فتح الآخر عينيه على نظام قائم بالفعل برموزه وقواعده وتصور أن باستطاعته أن يرفضه دون أن يكون قد فهم تاريخ تشكله ولا الأسس التي قام عليها. أما تكوينهما فهو مختلف تماما: فبورقيبة هو ثمرة ثقافة مزدوجة عربية وفرنسية كلاسيكية وحديثة في نفس الوقت، يتقن جيدا لغتين وله علاقة نقدية بكلتيهما. ويماهي القذافي القوى الغربية بالاستعمارية والإمبريالية ويخلط بينها ولا يميز بين قدراتها العسكرية والصّناعية. أما البعد الثقافي والجدلية الداخلية للغرب اللذان يشكلان نقطتي قوة في استراتيجية بورقيبة السياسية، فهما غائبان في النظرة السياسية للقذافي. ويروي الباجي قائد السبسي أن دوغلاس هيرد (Douglas Hurd) وزير خارجية المملكة المتحدة زاره في تونس وخلال المقابلة سأله عن علاقة تونس مع ليبيا. قال له: “إن علاقتنا مع ليبيا عريقة، وتربط بيننا وشائج تضامن وحسن جوار، ومن مصلحتنا المشتركة أن نزيدها توطيداً”. سأله: “ولكن ماذا تفعلون مع العقيد القذافي؟ فأجابه: - “مثلما هو الحال مع مرض الروماتيزم (برد العظام)، فهو يلتهب في بعض الأحيان ثم يهدأ بعد ذلك، إن الألم كامن دائماً ولكننا لا نموت بسببه. إننا نتأقلم معه!”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©