الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تاريخ يتكشَّف عن تاريخ

تاريخ يتكشَّف عن تاريخ
11 مايو 2011 20:13
تعددت الدراسات السوسيولوجية والتاريخية في الفترة الأخيرة لقراءة موضوعات الفترة العربية إبان العشرينيات حتى بداية الستينيات من القرن الماضي، وربما تعود الأسباب الى زخم الأحداث والانفجارات الثورية والفكرية والأدبية التي حصلت في تلك الحقبة. ولو تصفحنا أهم الأحداث على مستوى المنجز الأدبي لوجدنا حركة قوية في فن الشعر العربي بظهور الشعر الحر من جهة، وانبثاق جماعات الفن التشكيلي من جهة أخرى، هذا بالإضافة الى تحقق بوادر الإنجازات على مستوى الرواية، ولو انتقلنا الى مستوى المنجز الثوري لوجدنا حركات التحرر العربي وحرب 1948 في فلسطين وثورة 1952 في مصر وأخيراً ثورة 1958 في العراق. كل ذلك بالضرورة يقود الباحثين على مستوى الأدب والتاريخ الى النظر في تلك الحقبة وتقليبها وفحصها بدقة، لتؤكد الدراسات المتلاحقة أن هذه الحقبة تزخر بالعديد من الخبايا والأسرار التي ما تنفك في الظهور على سطح التاريخ والمعرفة. وفي هذا السياق يأتي كتاب جديد معنون بـ “ازدهار العراق تحت الحكم الملكي” منذ عام 1921 حتى 1958 للدكتور مأمون أمين زكي الصادر عن دار الحكمة في لندن حديثاً، باعتباره أحدث دراسة عن تلك الحقبة وتشابكها وإشكالياتها. من البدء يحمل العنوان انحيازاً واضحاً - عبر كلمة “ازدهار” - الى عصر الفترة الملكية، وهذا بالضرورة يعتبر موجهاً قرائياً ينبه القارئ الى أن هناك فترة يبدو فيها العراق غير مزدهر تحت حكم ما سيأتي بعد الملكية وأخص بذلك الحكم الجمهوري الذي تأسس عام 1958 وما بعده، وربما يقودنا الافتراض الى أن تعدد الثورات والانقلابات المتلاحقة وعدم تحقق منجزات كبرى فيما بعد قاد الباحثين عموماً الى هذا الاتجاه ولا أخص الدكتور مأمون أمين زكي على افتراض أن كل منجزات الحكم الملكي قد أجهضت من جانب ولم تستثمر الثروات الاقتصادية الكبرى في العراق إبان الحكم الجمهوري من جانب آخر. الوقائع والتحريف يرد الباحث الدكتور مأمون زكي قراءته لحقبة العصر الملكي إبان 1921 حتى 1958 الى أن “الهدف الأول هو تسليط الأضواء على الخصائص المميزة للعهد الملكي في العراق والتي طالما تعرضت للتحريف والهجمات الظالمة وتحليل تلك الخصائص بأسلوب موضوعي خالٍ من التحيز، ولمناقشة المعتقدات الخاطئة التي سادت لعدة عقود واقتنع بها جيلنا والجيل الذي سبقنا، كونها حقائق ثابتة لا تقبل الشك والنقاش”، ويضيف سبباً آخر لهذا التناول حين يقول: “أما الهدف الثاني فهو تحذير أبنائنا من الأجيال الجديدة وتجنيبهم الأخطاء التي ارتكبها جيلنا والجيل الذي سبقنا بالانجرار وراء الشعارات البراقة”. وأجد هنا أن الهدف الأول يعد مشتركاً بين كل المؤرخين في بحثهم عن مواطن التحريف والتصحيف والهجمات الظالمة، وربما يشفع للدكتور أمين زكي أنه يدلي بدلوه في التحليل والموازنة وهذا ما يفعله القليل من الباحثين، أما الهدف الثاني فيبدو أنه افتراضي، كونه يدخل في إطار الجانب التعريفي والتنبيهي، وأظن أن شيئاً كهذا من الضرورة أن يأتي في سياق البحث العلمي وليس منفصلاً عنه لدواعي البحث. منذ البدء يؤكد الباحث أن هذه الفترة الملكية كانت بؤرة تاريخية لتحقق الفعل الحضاري والتعليمي بتأثيرات العقل الاقتصادي، ويقدم مشاريع النهوض الاقتصادي كمؤثر مركزي على مجمل الموضوعات والمشاريع الأخرى وذلك بفعل تأثير وقيادة “النخبة الكلاسيكية” التي كانت تقود العراق كونها أرست دعائم الدستور والتشريعات القانونية ومن ضمنها تأسيس البرلمان ودخول العراق كأول دولة عربية “عصبة الأمم”. ويعتبر زكي أن الحكم الملكي أنموذج للحكم المتوازن والخالي من الانفعالات الآنية حيث الانفتاح الرؤيوي على العالم والحضارة، ويوعز ذلك الى سعة أفق وبعد التصورات الفكرية لقادة الدولة العراقية آنذاك، وربما نؤكد من جانبنا أن أفق التحولات الثقافية والفكرية والسياسية قد تحققت على مستوى الواقع بسبب التحولات العربية الكبرى على مستوى التحضر، إذ سبقت حركة الشعر الحديث في العراق حركة أبولو وسبقت الثورات العربية في مصر والعراق وسوريا، هزيمة 1948، كونها محفزاً سلبياً على قيام ثورات اجتماعية مهمة، وبالضرورة فإن هذه الثورات الاجتماعية لا بد أن تأتي بشيء جديد ومن أهمها دستورية الدولة وبرلمانية الشعب. ويناصر زكي العهد الملكي بزعاماته الكارزمية، ويعتبر انقلاب الجيش العراقي في 1958 على الدولة الملكية بمثابة الناكر للجميل، حيث يقول: “إلا أن ذلك الجيش تنكر، مع الأسف، لمن أنشأه ورعاه وطوره فقام بعض الضباط بانقلاب عام 1958 الذي أدى الى القتل والتمثيل بجثث وسحل أبناء وأقارب الملك فيصل “الثاني” من النساء والرجال”. ولنلاحظ مقولات الدكتور أمين زكي حينما يجرد الضباط من صفة “الأحرار”، كما ورد في كتب التاريخ الحديث، وينعت هذا التحول الذي أطلق عليه التاريخ بالثورة بالانقلاب الناكر للجميل، وكأنه يحمل موقفاً أيديولوجياً يقول عنه: “إنني مع رأي الشافعي الذي كان يقول: “أنا أعتقد بأن رأيي هو الصحيح ولكنه يحتمل الخطأ ومعارضي يعتقد أن رأيه هو الصحيح ولكنه يحتمل الخطأ”. ولادة بعد ثورة يبتدئ الباحث في قراءة تاريخ ولادة الدولة العراقية في بلد احتل من قبل الانجليز عام 1917 حيث عين البرسي كوكس عام 1920 مندوباً سامياً. ولمطالب كثيرة وبخاصة انبثاق ثورة العشرين تم ترشيح الملك فيصل الأول بن الحسين ملكاً على العراق حيث دام نظامه الملكي بعد تسلم مقاليد الدولة العراقية منذ عام 1921 ما يقرب من 37 عاماً تناوب على حكومتها 24 رئيساً للوزراء بمعدل رئيس وزراء واحد لكل سنة وبضعة أشهر تقريباً وهم من يوصفون بـ “النخبة الكلاسيكية”. يتحدث الباحث عن الفوارق الذهنية بين هؤلاء النخبة وعامة الناس وهذا جانب مهم يمكن مناقشته مع الباحثين المتخصصين في مجال المعرفة السوسيولوجية، والتي قادتني الى أن أقدم لمقالتي هذه عن الكتاب بمنجزات العامة من الشعب وأهمها حركات التجديد في ميادين الفن والأدب والثقافة، وهذا ما يقوله الدكتور مأمون زكي نفسه، حيث يؤكد أن “فيصل ومن جاء بعده من النخبة الكلاسيكية قد استعان برهط من المربين الأكفاء وهم ساطع الحصري وطه الراوي ومحمد أمين زكي حسن وفهمي المدرس والدكتور فاضل الجمالي وعلي مظلوم” وهذا بالضرورة يؤشر إلى إمكانات المجتمع ثقافياً ومعرفياً، وهؤلاء هم بناة المعرفة في العراق. وينتقل الباحث الى قراءة مجمل الخطوط الأساسية للدولة العراقية الحديثة، ومنها التغيرات الاجتماعية، ويعقبها في الفصل الثاني بقراءة تاريخ الملك غازي الأول “1933 - 1939” الذي أحبه شعبه، ويقدم الباحث تقييماً موضوعياً عن حكم غازي الأول، باعتباره الشاب الأكثر حماسة في تطوير البنى الاجتماعية والمعرفية، بالرغم من قلة خبرته السياسية التي قادت الى انفراط عقد النخبة الكلاسيكية الحاكمة التي بدأت تبحث عن المواقع والمكاسب الذاتية، حيث قدم إنجازات على مستوى الحريات الصحفية وتأسيس الإذاعة اللاسلكية 1936 وافتتاح المطارات المدنية في البصرة عام 1938”. ويتناول الدكتور مأمون زكي تأثير نوري السعيد “1888 - 1958” في قيادة الدولة العراقية بطريقة ميكافيلية “الغاية تبرر الوسيلة”، حيث استغل السعيد كافة التحولات لتأسيس دولة قوية ولكن بما هو متاح فعلاً ولهذا كان ضد حرب العراق وبريطانيا عام 1941 لأنه يعرف جيداً إمكانات بلده في الوقت الذي كانت فيه الإذاعة تبث الأناشيد الوطنية من مثل: يا أوروبا لا تغالي لا تقولي الفتح طاب سوف يأتيك الليالي نورها لمع الحراب وقد تزايد حماس الجمهور إبان حرب 1941 الى الحد الذي اختلطت فيه البطولة بالخرافة، فقد روت العامة أن طياراً عراقياً طار بمحاذاة إحدى الطائرات البريطانية التي كانت تقصف بغداد وفتح باب طائرته وقفز على الطائرة المعادية وفتح بابها ودخل بعد جهد جهيد الى داخل الطائرة وقتل الطيار البريطاني ثم قفز راجعاً الى طائرته، وانتشرت تفاصيل ذلك الإعجاز البطولي فتعالت الزعاريد والتكبيرات. وكان ذلك الخبر قد أذيع كبيان رسمي عن سير المعارك، بينما يؤكد علي محمود الشيخ علي وزير الدفاع الوطني في حكومة رشيد عالي الكيلاني بأن سلاح الجو العراقي لم يشترك في المعارك أبداً. حرب 1948 لم يقبل مزاحم الباججي رئيس الوزراء منذ 1944 بقرار هيئة القيادة العربية بوقف القتال في مساء يوم 1948/7/8 حيث قبلت الدول العربية جمعاء قرار إيقاف القتال ما عدا العراق وسوريا - كما جاء في الكتاب - ويؤكد الدكتور زكي أن مزاحم الباججي بذل جهوداً لحمل الدول العربية إبان اجتماعات جامعة الدول العربية على اتخاذ موقف مماثل، إلا أنه لم ينجح بمساعيه. وقد أصر مجلس الوزراء برئاسة الوصي عبدالإله على رفض إيقاف القتال وبعد أشهر استقالت وزارة الباججي وتولى نوري السعيد تشكيل الوزارة. رواية الطفولة يسرد زكي، بل يمازج في روايته للأحداث بين معايشته لها وبين الوقائع التاريخية المروية في كتب التاريخ فيقول: “في صباح يوم قارس من أيام شهر كانون الثاني 1948 كانت المدرسة المأمونية النموذجية للبنين مشرعة لاستقبال الأولاد وبداية يوم دراسي جديد. دخلنا نحن صبيان الصف السادس الى حصة اللغة الإنجليزية التي كان يدرسها شاب انكليزي اسمه جورج كبك، وهو معلم قدير جداً وكنا نحب حصته لأنه يجلب لنا جهاز حاكي “فونوغراف” وكل ذلك كي يروي ما حصل في ثورة عام 1948 ضد معاهدة بورتسماوث بين العراق وبريطانيا التي قال على إثرها الجواهري راثياً أخاه جعفر الذي استشهد فيها: أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم فم ليس كالمدعي قولةً وليس كالحر يسترحم أخي جعفراً يا رواء الربيع إلى كفنٍ باردٍ يُسلم ومن الغرابة أن الجماهير كانت تنتظر هذه القصيدة ذات الـ “98” بيتاً واقفة في شوارع بغداد حاملة جثمان جعفر حتى ينتهي الجواهري منها. هنا نشعر فعلاً أن الجماهير العربية قد وعت قضية التجديد في الشعر والفن، في الوقت الذي لم نر شعوباً أخرى تنتظر شعراءها كي يكملوا قصيدة. وتتعاقب الفصول في كتاب الدكتور مأمون أمين زكي بين عذوبة السرد الشخصي والتاريخي في الفصل الخامس والسادس حتى العاشر لتكتمل صورة الفترة الملكية تلك... وهذا ما نتركه للقارئ كي يطلع عليها في الكتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©