الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر متهدماً من الشغف

الشاعر متهدماً من الشغف
11 مايو 2011 20:15
ما زالت بيروت تحتضن الإصدارات الشّعريّة على مختلف مدارسها واتجاهاتها، فمن صرير أقلامها، وهينمات نسائمها، تقدّم مواليدها من الشّعر قديما وجديداً، على عروض الخليل، أو على نظام التّفعيلة، أو وفق ما ارتأى البعض تسميته قصيدة النّثر. من هذا الطّراز الأخير يأتي ديوان مروان علي (شاعر سوريّ مقيم في ألمانيا منذ سنة 2003) ماء البارحة ليردّ القارئ العربيّ إلى زمن الخمسينّات والسّتّينّات من القرن العشرين، زمن مجلّة شعر ليوسف الخال وأدونيس، مكرّراً مغامرة الكلمة المنثورة التي تجاهد نفسها لتكون شعراً في أبيات وكلمات. تسمية الديوان اعتمدها الشاعر من المجموعة الأولى فيه “ماء البارحة”، حيث التّعريف والتّرجمة بأسلوب شعريّ، فيقول في “راكضاً باتّجاه البحر”: أنا مروان علي ولدت في القامشلي وسأموت في أمستردام قريبا من ساحة الدّام وحدائق التّوليب والريدلايتس منتشيا برائحة الماريجوانا تفوح من غرباء يشبهونني تماما. ومن هذه القصيدة الأولى تتّضح رؤيته الشّعريّة والمدرسة التي ينتمي إليها، وكأنّه يختار موقعه الأدبيّ باللغة نفسها التي تتمايل بين الفصيحة المباشرة، واليوميّة المبتذلة، والرّمزيّة المشبعة بالدّهشة والمفاجأة على طريقة السّورياليّين. فإذا العناوين والكلمات والعبارات والمفاهيم، تأخذ القارئ نحو مربّع يشيده مروان مكوّن من أقانيم أربعة: الشّعر- الماء -الغربة - المرأة- وما عداها في تضاعيف الصّفحات يبقى تفاصيل أو تنويعات لهذه الأغراض. الشعر منقذاً وخائناً ما هو الشعر في نظر مروان؟ وكم من المودّة والقرابة بينهما؟ يقدّم الشّعر من جانب مروان برداء منقذ خائن، يطوف معه في أرصفة الغربة فيتخلّى عنه ليصبح في وحدته وعزلته وحزنه، فيقول: كنت أظنّ يائسا مثل غيري من الشّعراء أنّ الشّعر المنقذ الوحيد لكنّه الخائن الوحيد كان يترصّدني في الحانات المهجورة وعلى أرصفة مدن غريبة وعلى أسرّة باردة في غرف رطبة ليدير ظهره لي حين كنت أحتاجه. هذا الشّعر الذي ينقذ ويخون، يبقى أحاديث السّمر في الحديقة العامّة، اذ يقول في قصيدة تأوّهات: في الحديقة العامّة شربنا قليلا من العرق الرّخيص وتحدّثنا عن الشّعر وناموس الآخرين ثمّ يكون مادّة الذّكريات والحنين في قصيدة “فوق جبال اللغة”: هناك يحلّق نسر الشّعر عاليا يمضي بعيدا فوق عامودا وقامشلي وديار بكر وأنا في مكاني أتهدّم من الشّغف وهو عرف قيمة الشّعر بعد تجربة قاسية مع الرّايات الحمراء، حيث - وكما قال - خربط كثيرا في حياته، الى أن اكتشف أنّه كرديّ وأنّه شاعر، وأنّ الكلمة أقوى من الكلاشينكوف (قصيدة مروان الذي خربط كثيرا في حياته*). ويضيف: “كتب معلّقات طويلة عن جبال كردستان العلية والثّورة والحبّ/ ولأنّه لم ينل الاعتراف من الشّعراء الأكراد/ ترك الكتابة بالكرديّة”. الماء أصل الأزمنة يبدو الديوان مفعما بالماء وما يثيره من أحلام وهواجس ومعجزات تحكم قبضتها على كثير من القصائد والتّطلّعات الفنّيّة، فالدّيوان مقسّم إلى أقسام ثلاثة، فيها عنوان أوّل يدور حول الماء ومتعلّقاته: القسم الأوّل ماء البارحة، وفيه إحدى وثلاثون قصيدة ومقطوعة، والثّاني بعنوان ربّما عطرك، وفيه ثماني قصائد، والثّالث: يا للرّقّة: شمس وبحر وقراصنة يتهيّأون لمديح الماء. وفي متون الجمل وصف للأمواج والنّوارس والرّمل وأسماك القرش، وكم يتغنّى الشّاعر بكلّ ما له علاقة بالماء. يقول في قصيدة شارع: والشباب الذين ينتظروننا هناك تحت مطر قديم. وفي قصيدة غياب: جاؤوا من بلاد بعيدة تحدّثوا عن قراصنة وحروب عن بحار سرقت وفي ذكرى يقول: بنت الماء جاءت من فكرة رشّت ماء على الذّكريات ويصبح الماء كلّ شيء في قصيدة: يا للرّقّة التي يبدؤها بنسج الرّؤى انطلاقا من الماء والأمواج، فيقول: يا للرّؤى تتمايل وتهذي في خبط الماء والماء أين هو مركز البحر لماذا لا تذهب الأمواج إليه؟ لكنّه بدأ مثل حلم ماء طويل انبثق فجأة حيث الماء حنين المكان حيث الماء رغبتنا القديمة حيث الماء كلام لم نقله بعد حيث الماء أرضنا البعيدة حيث الماء أبجديّة الشّوق. الماء توأم الغربة والماء لا يفارق الغربة التي تستدعي الذكرى واللّقيا وتؤجّج أحلام العودة ولواعج البقاء، فالديوان هنا حكاية غربة بيوميّاتها التي تفضح مشكلات المهاجرين من المثقّفين في القارّة العجوز، وكيف أنّهم يتأرجحون بين حبّ الوطن المثخن بالفقر والاستبداد والتّخلّف وبين التّشبّث بمواطن التسكّع التي تمنح الشاعر مساحة من الحرية الشخصية، يتمازج فيها التسامي الفني مع العبث والابتذال. يتخذ الشاعر الغربة قدرا ومصيرا، فيعلن أنّه سيموت في أمستردام (عاصمة هولندا)، حيث الوحوش التي تبتسم وتترصّد، وتنهش في أقرب فرصة تتاح لها. إنّ الغربة صعبة، في كلّ الأمكنة حتى في ألمانيا: كلّ شيء هنا صعب اللغة الألمانيّة الحياة في ألمانيا القوانين السّخيفة والبيروقراطيّة. والغربة لا تثمر إلاّ التّلاشي والحسرة والألم، فيدرك الشاعر الغريب سرعة مرور الأشياء: وبعد كلّ الأشياء التي انتظرناها من بلاد لم تكن لنا من أصدقاء الماء مرّت سريعاً. يتحسّر على المفقود في بلاده، والموجود في البلاد الجديدة: بلاد لديها ماء طويل مثل هذا تقدر علينا فيما نأتي من بحار كثيرة وأقلّ من قلب واحد ومطر مفقود ما يعني أنّه غير مقبول، ومصيره إلى الاستلاب والذّوبان، متطايرا كرذاذ الثّلج: يا لنا/ من رذاذ يتطاير كالثّلج فوق رفيف بطّات صغيرات وقد يكون ملاذه الذّكريات التي تعوّض مأساة الحاضر، فيأبى اللّجوء إليها ويقول: لا أتذكّر شيئا لا أريد أن أتذكّر ماذا سأفعل وحيداً بالذّكريات الذّكريات ماء البارحة الذّكريات حياة ليست لنا ومع استحكام مرارة الغربة، يغرق الشّاعر في أتون الحوانيت والمقاهي والأرصفة، تاركا نفسه للأمواج والوحوش والنّهايات المجهولة إلى أن يستكشف طريقا شائكا محفوفا بالمرأة عنوان الرّغبة والحبّ والجمال. المرأة إنّ المرأة هي الزاوية الرابعة في الديوان التي لا تخلو منها قصيدة أو مقطوعة، فنراها بمظهر الأمّ: “وداعا أمّي” ثمّ المرأة المحبوبة التي لا يجرؤ على الاعتراف لها بالحبّ: وداعا أيّتها المرأة التي أحبّها منذ سبع سنوات ولا أجرؤ أن أعترف لها بالحبّ والمرأة في حياته علامة من علامات الانقلاب، والنكث، فكلما أحبها وتعلق بها تركته، وكلّما صرف النظر عنها ازدادت قربا منه، راغبة في أن تكون عشيقته الوحيدة. وقد يقدّمها للقارئ امرأة رذيلة من فتيات الحانات وبائعات الهوى، ثمّ يمنحها شيئا من السموّ ليصف مشاعره نحوها، ويسدي إليها خطاباً غزلياً روحيّا، يقول في قصيدة حبّ: في حياتي سأسأل من يقدر أن يحبّك مثلي ولن تأتيني إجابة في ألف عام لا أحتاج أن أبتعد عنك لأعرف كم أشتاق إليك وفي قصيدته الأخيرة “يا للّرّقّة” نرى المرأة الغائبة التي يسعى إليها لاكتشاف نفسه، واكتساب العزاء منها عن حزنه في بلاد المهجر، وكأنّها أصل الخلق، وسمة الهويّة الإنسانيّة. يقول: أيّتها المرأة الغائبة في الماء التفتي إليّ امنحيني نعمة البكاء تقريباً مثل يقين. في التفاصيل تحضر المرأة كما تحضر مفردات الحياة الواقعية المألوفة التي تتحول إلى لقطات ومشاهد نصية تعبر عن حالته وتعكس فشله في نسيانها، بل وحتى القدرة على عدم سماعها: الحياة ممكنة جداً بلا نساء أقول ذلك وأنا مشتاق جداً لملك علي الآن أن أذهب إلى أقرب هاتف عمومي وأتحدث معها بعد أن تركت موبايلي قصداً في البيت. هنا هنا يقع القارئ على اشتغال فني يحول العادي والبسيط إلى “حالات شعرية” تمتلئ بدلالاتها وحمولاتها الواقعية حيناً والفانتازية حيناً آخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©