الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيلم «أوندين»: الواقع مسكوناً بالخرافة!

فيلم «أوندين»: الواقع مسكوناً بالخرافة!
11 مايو 2011 20:17
عندما يقول أي شخص إنه أوقع الفتاة التي يتمناها في شباكه، فهو قول أشبه برجع أو صدى لمعنى رومانسي عميق وضارب في تراث العشاق وخيالات المحبين، ولكن أن تتحول هذه الأمثولة الخيالية إلى واقع ملموس وحاضر، فعليك أن تصدق بذلك وتقتنع به، لأن الذي يقدم هذه الحكاية الافتراضية في إطارها المتجسد والمُعاش، هو مخرج بحجم الأيرلندي نيل جوردان، الذي قضى ثلاثين عاماً وهو يحاول أن يؤكد من خلال شغله السينمائي وابتكاره السردي، على حقيقة مفادها أن المصادفات السحرية واللامعقولة التي تتقاطع مع مسارات حياتنا العادية والمكررة، يمكن أن تصيغ لنا عالماً بديلاً لم نتخيله، كما يمكن لهذه المصادفات أن تحقق معجزات أرضية تشفينا من الألم الإنساني المحيط بنا قسراً أو طوعاً. في آخر أفلامه وبعنوان مبهم هو: (أوندين) يستعين جوردان بالإرث الغرائبي في الحكايات والأساطير السلتية التي انبثقت من بهاء وهيبة الجزر والشواطئ الأيرلندية في الماضي السحيق، حيث تنوجد وتتخلق الكائنات المسكونة بالسحر الوثني والمحاطة بالضباب اللاهوتي وبالهيجان الناعم للمخيلة الشعبية، وهذه العودة لن تتقيد بأحكام وشروط الزمن الغارق في القدم، لأن حكاية الفيلم وحبكته الأساس سوف تتولد وتتشكل في زمن معاصر وحديث رغم احتفاظ المكان ــ الذي تدور فيه الأحداث ــ بذات الوقع وذات الإيحاء القادم من أزمنة غابرة وفضاءات غيبية. هذا الحاجز الوهمي الذي أكد عليه الفيلم سوف يقسم الزمن ويحيده ويعزله عن المكان، وسيكون هو ذاته الحاجز الذي سيحمينا نحن المشاهدين من السقوط في كمين التفسير المباشر والضحل للواقع. تعني كلمة (أوندين): “الفتاة التي تخرج من الماء”، ولكنها لا تشبه حوريات البحر بصورتهن الشائعة في المخيال القصصي التقليدي، ويعود أصل كلمة (أوندين) إلى الأسطورة السلتية المتداولة حتى اليوم في أيرلندا والتي تروي حكاية البحار الذي رأى إحدى الفقمات فوق صخرة ناتئة وسط البحر، وكيف أن هذه الفقمة خلعت جلدها وتحولت إلى فتاة جميلة وساحرة، وعندما اصطحبها الصياد إلى قريته ظلت تعيش معه مدة سبع سنوات، وهي مدة كانت كافية كي ينعم هذا الصياد الفقير بثروة لم يكن يحلم بها وبصيد بحري لم يسبق له مثيل في قريته الساحلية الهادئة تلك، ومع انقضاء السنوات السبع أخرجت الفتاة جلد الفقمة الذي دفنته في رمال القرية وعادت مرة أخرى إلى المياه الغامضة والعميقة التي خرجت منها ذات يوم. سحر اللامعقول يعالج المخرج نيل جوردان هذه الحكاية الخيالية منذ البداية وبلا مقدمات سردية مقحمة، حيث نرى الصياد سيراكوز ــ يقوم بدوره الممثل كولين فاريل ــ وهو يعاين في مركبه الشباك التي لم يظفر من خلالها سوى بحصيلة فقيرة من الأسماك الصغيرة وعديمة القيمة. يقرر سيراكوز تغيير موقعه والذهاب إلى منطقة أكثر عمقا وعندما ينصب أفخاخه ويحرك مركبه كي يحصد الحقول النائية والمجهولة في أعماق البحر، يفاجأ بحمل ثقيل لم يعهده من قبل، وتكون الصدمة مدوية بالنسبة له عندما يكتشف وجود فتاة جميلة عالقة في شباكه ــ تقوم بدورها الممثلة البولندية الأصل: أليسيا باتشليدا ــ، وهنا وفي هذا المشهد بالذات يأخذ الفيلم المنحى الذي اختاره عمدا والذي يمزج ما بين الوهم والوضوح، أو ما بين الواقعية والسحرية، خصوصا عندما تأخذ الفتاة بالتحدث بلغة غريبة وتبدو خائفة ومرتابة من الشخص الغريب الذي يحاول الكشف عن سرها، ولكنها تبدأ تدريجيا في التأقلم مع واقعها الجديد وتشرع في التحدث مع الصياد بلغة واضحة ولكنها مختلطة بلكنة هجينة. وعندما تحس بالأمان مع سيراكوز الشهم والطيب، تبدأ في الغناء بإيقاع غرائبي ساحر وبكلمات مجهولة وغامضة بالنسبة للصياد، ويثمر غناؤها عن صيد وفير يعلق في شباك سيراكوز الذي بات الآن مؤمنا تماما بالخرافة القديمة، ويطلق على الفتاة أسم (أوندين) تيمنا بالحكاية المتسربة من ماض موغل في جلاله وطوباويته، ويقرر اصطحابها معه إلى كوخه المتواضع في منطقة نائية ومأهولة بجمال الطبيعة المدهش والممتد حتى آخر النظر. وهناك تتعرف أوندين على ابنة سيراكوز الصغيرة آني ــ تقوم بدورها أليسون باري ــ والتي تعاني من قصور كلوي مزمن وتعيش مع والدها بعد انفصاله عن أمها المدمنة على الكحول. تتنامى العلاقة بين أوندين (جالبة الحظ) وبين الصغيرة آني التي تؤمن وتصر على أن أوندين هي ذاتها الفتاة التي ذكرتها الأسطورة المحلية وتخبرها بضرورة البقاء مع والدها مدة سبع سنوات، وأن الحقيبة التي كانت معها أثناء خروجها من الماء يجب أن تدفن في الفناء الخارجي للكوخ، إلى أن تحين لحظة عودتها مرة أخرى إلى البحر. الأب بدوره يأخذ أوندين معه في كل رحلة صيد، ومع وقع غنائها الفاتن كانت الأسماك الوفيرة التي يصطادها سببا في زيادة ثروته الشخصية وسببا أيضا في إثارة غيرة البحارة الآخرين المذهولين بالتغيرات الكبيرة التي طرأت على شخصية سيراكوز، وفي إحدى اللحظات المليئة بالشجن والاعترافات الشخصية يبوح الصياد لأوندين بماضيه المضطرب والمحفوف بالإدمان على الخمر، وكيف أنه بات محاصرا بالعذابات والندم لأن زوجته لم تقلع عن الإدمان وأن طفلته المريضة قد لا تعمر طويلا، وهنا يطلب منها أن تحقق له أمنية وحيدة وأخيرة كي تتماثل ابنته للشفاء. وبالفعل تتحقق هذه الأمنية أو المعجزة عندما تصاب الابنة الصغيرة في حادث ويموت صاحب السيارة المتسببة في الحادثة، والذي يكتشف الأطباء أنه أوصى بالتبرع بأعضائه الحيوية في حالة وفاته للمرضى الآخرين، وعندما تنقل كليته للفتاة وتشفى تماما تتحول (أوندين) إلى أسطورة حية يتناقل حكايتها كل أبناء القرية الساحلية البسيطة التي لم يغادر أهلها بعد تلك المنطقة الروائية المزدحمة بالغيبيات والحكايات اللا معقولة. نهاية صادمة ينتهي الفيلم على أحداث قاطعة ومعاكسة تماماً لكل ما احتشد به من حس غرائبي ومن توهان لذيذ في أحراش المخيلة الأسطورية، وفي الهاجس الرومانطيقي المدوخ والمتغلغل في جل اللقطات والمشاهد والحوارات والانعطافات السردية للفيلم، نهاية سوف يكون لها ثمنها الدموي العنيف والقاسي، بعد التضاعيف الحالمة التي أسسها الفيلم وراكمها منذ افتتاح لقطته الأولى، فالفتاة الأسطورية التي خرجت من المياه الغامضة تنتمي لعصابة رومانية متخصصة في تهريب الممنوعات في أعالي البحار، وأنها اضطرت للقفز إلى المياه ومعها حقيبة مليئة بالممنوعات بعد محاصرة شرطة خفر السواحل للعصابة، حيث ظلت لفترة طويلة وهي تقاوم الغرق قبل أن تنقذها شباك الصياد سيراكوز من التهاوي نحو أعماق المحيط، وتكون المواجهة شرسة بين أفراد العصابة الآخرين والباحثين عن الحقيبة التي تخبؤها أوندين وبين سيراكوز الأعزل التي تنقذه الشرطة المحلية في آخر لحظة. وبعد فترة عقوبة بسيطة تعود أوندين إلى سيراكوز لأن وضعها القانوني يسمح لها بالبقاء في أيرلندا، ويتم إخفاء الحقيقة عن الطفلة آني، كي تظل الأسطورة حية وخالدة ومن دون لبس أو تشويش. امتاز فيلم أوندين بنسقه الطفولي والرومانسي وببنيته الحالمة المتأسسة على وعي مختلف للأسلوب الإخراجي، هذا الأسلوب الذي تشربه نيل جوردان منذ دخوله المبكر إلى السينما وأفصح عنه في أفلام إشكالية ومثيرة للجدل مثل الشريط القاتم والكابوسي الذي قدمه في فيلم (موناليزا) عام 1986 وهو الفيلم الذي أعلن جوردان أكثر من مرة عن أنه فيلم لا يمكن أن يوافق أحد على تمويله وإنتاجه في أيامنا هذه، فهو عمل ــ كما يقول ــ :”لا أتمنى لأحد أن يشاهده، لأنه أشبه بحلم مفزع”!. ومن الأفلام المهمة التي قدمها جوردان (لعبة الصراخ) عام 1992 و”ملاك” عام 1982 و”لقاء مع مصاص دماء” 1994 و”ابن الجزار” 1997 و” الشجاع” 2007 ، وكلها أفلام تستفيد من أسلوب خاص يعتمد على ترك الحكاية تروي نفسها في الفيلم وتنساب بلطف وخفة قد تصل أحيانا لدرجة الخديعة المتشكلة دون قصد، كما يقوم أسلوب جوردان على رؤية ذاتية مبتكرة للمنظور وللتكوين البصري الذي يختزنه الكادر السينمائي، وهو كادر يمكن من خلال معالجة مستقلة ومكثفة أن يجمع بين الهلوسات والتهويمات والشرود والارتجال والتخييل القائم على الصدفة والتجريب، من أجل إقامة حوار مختلف مع الواقع الصارم ومع الهيكل المحدد والمصمت والخانق أيضا للسيناريو المبثوث على الورق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©