الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قبل الشتات..

قبل الشتات..
13 مايو 2013 14:29
في مجموعة نادرة من الرسوم الاستشراقية العائدة للقرن التاسع عشر الميلادي، والتي تقع ضمن مقتنيات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة يمكن العثور على انحياز واضح من قبل الفنانين الاستشراقيين لقراءة المكان بصرياً، ومن ثم إعادة تسجيله وطرحه، طبقاً للهيئة الكائنة في تلك الأزمنة والأوقات القديمة، بما يمثل في عموم الحال شواهد بصرية قادرة على تضييق المسافات المرئية بين التصور والواقع المرتبط. ومن هنا تأتي أهمية تلك الرسوم واللوحات الكاشفة لراهن بلدان الشرق العربية، وما تكتنفه في محيطها من مفردات وكائنات أمكن لها أن تضفي على المشاهد المروية والمكتوبة سماتها البصرية القائلة بالتفاصيل وما يرافقها من معالجات لونية ومكونات تمتاز بالتنوع والتعدد على مستوى الشكل والقيمة التاريخية، إلى جانب الاستخدامات التطبيقية، وغير ذلك من الأمور التي تلتصق بحياة الناس. ومن بين تلك الرسوم تبرز المجموعة الخاصة بفلسطين باعتبارها مقصداً ووجهة مقدسة دفعت الرسامين للحج إلى أراضيها واكتشاف كل ما تتضمنه من أماكن وبلدان ومعالم وجدت طريقها إلى التاريخ التعبدي، من خلال شخوصها الواقعي وحضورها الأصيل في عمق التاريخ الديني السماوي على تعدد رسالاته وتتابعها على مر الزمان. كما أن الرسامين وجدوا في الحياة الاجتماعية الفلسطينية وفي مناظر الطبيعة ما أمكن له أن يحرضهم على العمل والتسجيل، وهو الذي ساهم في العموم بتشكيل بانوراما مكانية تحفل بالإنسان والكائنات، وما دون ذلك من مفردات حياتية وأشياء، فحضرت في اللوحات مدن فلسطينية تحمل تاريخها وشهرتها مثل القدس، الخليل، الناصرة، نابلس، رام الله، عكا، أريحا، عسقلان، غزة، يافا، بيت لحم، إلى جانب ظهور الواحات والقرى والوديان والبحيرات، وأمثلتها بحيرة طبرية، واحة قراوة، وادي قدرون، ووادي سلوان الواقع بين كل من جبل موريا ووادي الزيتون، قرية «عين هود» الموجودة بالقرب من سفح الكرمل، قرية «الجبية» القريبة من جبل الريحان، إضافة إلى جملة من الآثار الحضارية وأماكن عدة ترتبط بالديانات والعبادة كمحراب المسجد العمري في القدس، ضريح السيدة مريم العذراء، كنيسة المهد في بيت لحم، خيام الحجاج في أريحا، كنيسة القيامة، قبر النبي يوسف في نابلس، ضريح زكريا، دون أن تغيب عن هذه الرسوم مشاهد متنوعة للصحاري، السهول، الجبال، الآبار، البساتين، البراري، الآثار الباقية، الينابيع، الأطلال والخرائب. من بين اللوحات التي توثق لأمكنة مازالت موجودة حتى اليوم، على الرغم من تداعي بعض الأجزاء منها والقيام بترميم ما صلح من مكوناتها للتطوير والتجديد، لوحة رسمها س. براوت في العام الميلادي 1835 من مخطوط كاثروود، وهي تبين محراب المسجد العمري، الذي يعد من أعرق مساجد القدس، حيث بني في الموقع الذي صلى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفترشاً عباءته ليبتعد عن موقع كنيسة القيامة مقدار رمية حجر، كي لا يأتي المسلمون من بعده فيتخذوا من الكنيسة مسجداً، وكان ذلك بعد أن فتح بيت المقدس وتسلمه مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس الذي صحبه ليتفقد جنبات المكان. كما تضم هذه المنتخبات الاستشراقية التاريخية لوحة للفنان وليم هنري بارتليت تصور في عام 1838 أسوار عكا الشهيرة بصمودها ضد حصار الفرنسيين أثناء العام 1799، حيث يعود تاريخ بناء هذه الأسوار الحصينة إلى القرن التاسع الميلادي طبقاً لما أورده وليد الخالدي في كتابه «قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 ـ 1948». وأيضاً لوحة أخرى للفنان نفسه تطرح بانوراما عامة لمدينة القدس، ويعود تاريخ إنتاجها إلى العام 1847، متضمنةً مجموعة من الشخوص، وقد ظهروا في تجمع يتصدر اللوحة وسط الأضرحة، مع ظهور لمجموعات أخرى متفرقة ومنتثرة عبر طريق منظوري يتجه إلى العمق بما يحفل به من تصور جلي لقبة الصخرة. من لوحات و. هـ. بارتليت المرتكزة على رسوم العمائر كذلك، لوحة تصور مكان «ضريح السيدة العذراء» في القدس عام 1850 وقد حماه بطريرك القدس «يوفينال» عام 431 م ببناء كنيسة فوقه، قبل أن يبني الامبراطور «ماورينسبو» كنيسة فوق القديمة في العام 490 م. وتصور لوحة «كنيسة المهد في بيت لحم» لبارتليت وتاريخها 1838 مشهداً داخلياً لأحد الممرات المحفوفة على الجانبين بصفين من الأعمدة الرومانية الشاهقة، التي تميز هذه الكنيسة المبنية في موقع ميلاد المسيح (عليه السلام) والتي شيدها بشكلها الحالي الإمبراطور»يوستنيان» في مطلع القرن السادس الميلادي. فيما يرسم ديفيد روبرتس بانوراما جامعة لمدينة الخليل، ومدن عسقلان، غزة، يافا، عكا، بيت لحم، وكذلك كنائس المهد، القيامة، القديس سابا، القديس جورج، القديس جيمس. لتبقى هذه اللوحات ذات القيمة الفنية والتاريخية مادة ملموسة يستطيع البحث العلمي والجمالي قراءة جنباتها المتعددة بما تشتمل عليه من تفاصيل ومفردات شتى، في سبيله لإقامة تصورات حقيقية وقريبة من واقع متجذر في التاريخ وراسخ في الوجود الإنساني المتحرك من الماضي العتيق نحو المستقبل القادم مرتكزاً على يقين ثابت لا تحيد مؤشراته عن موقعها الصائبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©