الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليست مجرّد ذاكرة..

ليست مجرّد ذاكرة..
8 مايو 2013 20:44
هيبة الصورة أم أنّه حدس الفلسطيني على أبواب النكبة وراء العبوس المسيطر على الوجوه «المسمّرة» في نحو ثلاثة آلاف صورة التقطها خليل رعد، المصوّر اللبناني ابن قرية بحمدون الذي انتقل للعيش وعائلته في فلسطين، فغدا الاستديو الذي يملكه في شارع يافا في القدس الأشهر على الإطلاق في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. في ذلك الزمان الواقف على شوار انتدابين: عثماني وبريطاني، والمتخم ببؤرة أزمات وجودية وسياسية وأيديولوجية، وجدت الصورة في البدء لاستعراض الذات والفتوّة والجمال، قبل أن تتحوّل في الحالة الفلسطينية إلى صراع لإثبات الهويّة والمكان، وهو الأمر الذي حفّز مؤسسة الدراسات الفلسطينية في عيدها الخمسين لاسترجاع الماضي من خلال إرث رعد المرئي الذي احتل بالأبيض والأسود جدران قاعة مؤسسة رفعت نمر في بيروت بحثاً عن وجوه وأمكنة ومواقع وأحداث ما زال بالإمكان التعرف إلى بعضها واختلاس تفاصيلها وملامحها. تغطي مجموعات الصور الحياة اليومية الفلسطينية، مروراً بالمناظر الطبيعية والهندسة المعمارية، وصولاً إلى النشاطات والأحداث العسكرية والسياسية والعامة. وقد جرى جمعها بحسب ما توضح قيِّمة المعرض الفنانة المقدسية والمحاضرة في الفن والعمارة الإسلامية فيرا تماري من عائلات فلسطينية في عمّان ورام الله وبيت لحم وبيروت ودمشق والولايات المتحدة الأميركية. وكانت اختارت تماري عنوان: «ليست مجرّد ذاكرة: خليل رعد (1854 ـ 1957)»، في محاولة لإعادة إحياء جوانب رواية فلسطينية تعرّضت للتفسير المغلوط وللتحريف، مفندة معاني التجسيد وإعادة التجسيد الغربيين والتوراتيين في الصور الفوتوغرافية الأولى في فلسطين في سياق الاستعمار المتواصل والسيطرة السياسية والثقافية. وتلفت إلى أنّ الموضوعات وتصنيف الصور لم تشكلا العامل المهم الوحيد، بقدر قدرة الصورة على نقل المعلومة بينما تثير في الوقت نفسه مشاعر مؤرقة للنفس. تعطي مثالاً: «عند التأمّل في مشهد من الريف الفلسطيني بعدسة رعد يولّد جمال المناظر الطبيعية في البداية شعوراً بالسكينة ومتعة النظر، لكن بالنسبة إلى بعض الناظرين، سرعان ما يستتبع هذا الشعور أحاسيس أخرى تتمازج معه، بينها الغضب من التلاعب بتأثيرات الصورة وطابعها الاستشراقي، أو ربما الفضول بشأن المكان الذي صوّر فيه المشهد، أو التقنيات التي استخدمها لتحقيق التأثير المنشود». أمّا الهدف من المعرض، بحسب القيِّمة فهو تحدي الزوار للتأمل في التداعيات والمعاني الأعمق للصور التي التقطها رعد، بما يسلّط الضوء على مسائل الذاكرة والخسارة والتغيير التي غالباً ما تكتسب طابعاً متسامياً. بالإضافة إلى كونه يمثّل سجلاً مرئياً لمحطات محورية في تحوّل فلسطين. توضح: «تبدو فلسطين في أعماله مشهداً غنياً، متنوعة في ثقافتها وتقاليدها، ونابضة بشعبها. فالصور شديدة الإتقان التي التقطها للمناظر الطبيعية والمهرجانات الدينية والأحداث السياسية، وللناس المتوجهين إلى أعمالهم اليومية، تظهر بطريقة فريدة البيئة السياسية ـ الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي صادفها خلال مسيرته المهنية. وتسلّط أعماله الضوء على الاصطلاحات والتقنيات التي كانت سائدة في التصوير الفوتوغرافي في زمانه، والتي أسهم بنفسه في نشرها». أمّا جلسات التصوير في استديو خليل رعد، فانها كانت تشكّل حدثاً بحد ذاتها، إذ يتقاطر الزبائن إليه من القدس، ومن مدن وبلدات أخرى أيضاً. وفي الحد الأدنى، كانوا يرتدون أفضل ملابسهم للمناسبة. تستعرض تماري آلية التصوير آنذاك: «عدد كبير من الفلسطينيين الذين ركبوا الموجة السائدة وتوجهوا إلى استديو رعد في العشرينيات والثلاثينيات، آثروا الزي الفلسطيني التقليدي على الثياب الغربية الطابع، وكأنهم أرادوا محاكاة المظهر الأصيل لسكان الأرياف. ومما لا شك فيه أنّ هذه الموضه تدين بالكثير للزوار الأجانب الذين أبدوا منذ أواخر القرن التاسع عشر ميلاً إلى الظهور في الصور مرتدين اللباس الفلسطيني المحلي». وتنقل تماري عن عايدة كريكوريان قعوار، والتي كانت تساعد خال والدتها في تلوين الصور المنتجة بالأبيض والأسود، بأنّ الاستديو كان مجهزاً بمجموعة من الوسائد، ومقاعد للجلوس منسقة بطرق متعددة، وأشياء معلقة على الجدران، فضلاً عن مجموعة متنوعة من تجهيزات الديكور في الاستديوهات، مثل الأعمدة وعواميد الدرابزين. تتذكّر كريكوريان بأنّه كان هناك خزانة مليئة بالملابس التقليدية والمجوهرات وسواها من الاكسسوارات والأغراض الفولكلورية. وكان الاستديو مزودا بمجموعة من الرسوم التي تستخدم في خلفية الصورة، وتظهر فيها مشاهد متنوعة، الأمر الذي أتاح له أن يوجد في كل واحدة من صور البورتريه المزاج والإطار اللذين يلائمان ذوق الزبون. في خط السير «المرئي» باتجاه القدس ويافا ونابلس ووادي الأردن وبيرزيت وبيت لحم، يعبر زائر المعرض المحطات الفلسطينية بكثير من الحميمية والحسرة والحزن والفضول لغرف بعض من عبق الماضي. وكأنه يدقق في الوجوه التي لا تنظر في معظمها إلى عين العدسة، فلا يناله سوى تدفّق الأسئلة عن المصير المحتوم لمكونات الصورة من بشر وجماد: ماذا حلّ بالطفل الذي كان يلهو على السلالم في السوق؟ البائعون؟ المسن والمسنّة؟ الجميلة المفتونة بشبابها؟ صندوق الفرجة؟ سوق الخضار؟ العمّال الذين كانوا يغلّفون البرتقال للتصدير؟ الحمّالون؟ الشوارع؟ والبيوت؟ والأسوار القديمة؟ الصيّادون واستديو خليل رعد نفسه في شارع يافا معتزاً بالماركة التجارية «كوداك» ولوازم التصوير والتقنيات المستوردة من ثورة الصورة في الغرب.. كلها أسئلة يصعب التغاضي عنها. ويتدحرج السؤال مؤطراً لوحة حوّرها بـ»الكولاج» الأستاذ المشارك في التاريخ في جامعة «الينوى» عصام نصّار من صورة يتصدرها الفلسطيني أمام المجمع الروسي المعروف بالمسكوبية إلى خيالات يتقدمها الجندي الاسرائيلي بعدما حوّل الاحتلال المجمّع إلى مركز تحقيق وسجن مشهور. في المجموعة المتوافرة بعدة أشكال، بينها ما يزيد على ألف صورة سلبية (نيجاتيف) على ألواح زجاجية، ونحو ألفي صورة سلبية على أشرطة جيلاتين، وصولا إلى العرض الرقمي على الجدار، وأشرطة الفيديو وصناديق الضوء والصور ثلاثية الأبعاد، محطات فلسطينية ما عاد بالإمكان التغاضي عنها في الأدراج. ولعلّ لم شتات الصور الذي أرادته المؤسسة الفلسطينية يسهم في إعادة لم الشمل والحد من الخسارات. ولولا جرأة صديق إيطالي تسلل عبر أسوار البلدة القديمة بغرض تهريب نيغاتيف الصور من استديو رعد بعد النكبة، لما بقي من مجموعاته سوى القليل المتناثر في الشتات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©