الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن السفالة وكوميديا الثورة

عن السفالة وكوميديا الثورة
8 مايو 2013 20:46
«لقد وقعنا في الفخ» كتاب جديد في الأدب الساخر، للكاتب والسيناريست يوسف معاطي أحد أشهر كتّاب الأدب الساخر في مصر في السنوات العشر الأخيرة، يعرفه قرّاء الصحف والمجلات ويستمتع بأعماله الكوميدية مشاهدو التليفزيون وروّاد السينما والمسرح، ومن أشهر مسرحياته «حب في التخشيبة»، «الجميلة والوحشين»، «بوبي جارد»، «بودي جارد»، «بهلول في إستانبول»، «لأ لأ بلاش كده»، كما كتب العديد من قصص وسيناريوهات الأفلام السينمائية الناجحة أشهرها «رمضان مبروك أبو العلمين حمودة»، «حسن ومرقص»، «طباخ الريس»، «التجربة الدانمركية»، «عريس من جهة أمنية»، «السفارة في العمارة»، «الواد محروس بتاع الوزير»، كما ألف عددًا من المسلسلات الناجحة منها «فرقة ناجي عطا الله»، الذي عرض في رمضان الماضي، و»سكة الهلالي»، و»عباس الأبيض في اليوم الأسود»، و»يتربى في عزو». يحتوى الكتاب الصادر الدار المصرية اللبنانية حوالي عشرين فصلًا، تجول بنا في مظاهر الحياة المصرية بعد الثورة، وكما يصفه الناشر محمد رشاد، رئيس مجلس إدارة الدار المصرية اللبنانية في مقدمته: الكتاب الذي بين يديك الآن هو سخرية مُرة من حالة التردي والانهيار الأخلاقي الذي حدث في مجتمعنا على طريقة يوسف معاطي، وبين ثناياه وسطوره أفكار عميقة ومعانٍ جديدة، التقطها كاتبنا بمهارة وحرفية بالغة، فكوميديا يوسف معاطي ليست تلك الكوميديا اللفظية التي تعتمد على اللعب بالألفاظ، إنما هي كوميديا المفارقة، كوميديا الحياة. ولذا فأنت ستضحك جدًّا وأنت ترى نفسك وكل من حولك يظهرون في هذا الكتاب كما هم بلا أقنعة، بوجوههم وتصرفاتهم الحقيقية. وإني لأندهش كيف استطاع كاتبنا أن يغوص ويتعمق في طبيعة وسلوكيات الشعب المصري بهذه الصورة، وأنا أعلم أنه منعزل تمامًا عن الشارع ولا يخرج من بيته أبدًا، ولا يظهر في أي مكان أو في وسائل الإعلام؟ ولا أعلم كيف التقى بهؤلاء البشر الذين كتب عنهم؟ إلا إذا كان ينزل متخفيًا وينخرط بين الناس. نحن والصندوق أما يوسف معاطي فيبدأ كتابه على طريقة أولاد البلد بمقدمة قصيرة بعنوان «اصطباحه» يقول فيها: مؤيدو التيار الإسلامي يريدون الاحتكام إلى «الصندوق»، وقد هدَّدهم الراحل عمر سليمان بأن يفتح «الصندوق» الأسود، ولكن القدر لم يمهله لكي يفعل ذلك وعاد إلى بلاده في «صندوق»، والإخوان ملأوا الدنيا ضجيجًا وصخبًا حول إهدار المال العام في الصناديق الخاصة، ومنذ حكموا البلاد لم نسمع عن أي «صندوق». والحكومة الآن تريد قرضًا من «الصندوق»، والنخبة تبحث عن فكرة من خارج الصندوق. ورغم توفر كل هذه العناوين في بلدنا، إلا أن بعض التيارات المتشددة تعلن أنها ستسلم المعارضين للرئيس وتجيبهم له في شكاير! وليس في صناديق. وتبدأ فصول الكتاب بفصل عام، يغوص في التغييرات التي لحقت بأخلاق المصريين وضيقهم ببعض البعض عنوانه «منتهى السفالة»: هل حدث أن سألت أحدهم سؤالًا عاديًّا، لطيفًا، وديعًا، فرد عليك من سألته بعنف وبغلظة وبزهق بعد أن نفخ تلك النفخة التي جعلتك تشعر أن سشوارًا موجهًا إلى وجهك يكاد أن يحرقه؟! إذا حدث معك ذلك لا تفاجأ ولا تندهش، فشعبنا لم يعد كما كان، تقول له إزيك يقولك الله يسلمك، تقولّه صباح الخير يقولك صباح النور، خلاص، انتهى هذا العهد، فبعد الثورة صار شعبنا حرًّا، سياسيًّا، استراتيجيًّا، مفاجئًا، صادمًا، فلا تلم هذا المواطن الذي رد على سؤالك الوديع بغلظة مفاجئة فأحرجك، وأخذك على خوانة، فيجب أن تراعي أولًا حالته الثورية، وحالته المادية وحالته المعيشية والإعلامية أيضًا. ويجب أن تراعي وهذا هو الأهم، أن سؤالك البريء هذا، لا بد وأنه، «المواطن الزهقان هذا الذي سألته» سمعه آلاف المرات من آخرين غيرك، فأرجو أن تقدر ظروفه وتتحمله. وتذكر أنه تحمل هذا السؤال من آلاف المواطنين قبلك وربما أجاب عليهم بصبر جميل، وجات على حظك أنت بأه، وقفلت معاه، لنتحمل بعض يا جماعة، تحملنا كثيرًا ذلك العادم الذي يخرج من الشكمانات فيملأ صدورنا، ألا نتحمل بعض الهواء الساخن الذي يخرج من الصدور المخنوقة، ثم إن هناك أسئلة تفقع برضه!. وقد دار هذا الحوار السياسي الرفيع بجواري على المقهى، بين اثنين، كانا قد تعارفا منذ لحظات قليلة وعزم أحدهما الآخر على شاي والآخر ردها له بحجر معسل. فجلسا متجاورين في الترابيزة يتناغيان، وهكذا صارا أصدقاء في لحظة، تلك العبقرية المصرية في التواصل ومد الجسور مع الآخرين. كان حوارهما المصري الممتع الذي كنت أتنصت إليه بمصريتي أنا أيضًا حوارًا رفيعًا ودودًا راقيًا حميمًا، إلى أن هتف أحدهما بالآخر: بقولك إيه يا عمنا بأه، هي مصر رايحه على فين؟ فنظر له الآخر، نظرة مليئة بالغيظ وفقدان الصبر، وتنهد في أسى ولم يرد، ولكن الذي سأل كان مُصرًّا على السؤال، مصر، مصر رايحه على فين؟ وإذا بصاحبنا يفقد أعصابه فجأة، ويصرخ فيه: رايحه على.. أمك. كان الرد سافلًا وصادمًا بصورة جعلت المواطن الذي سأل كأنه تلقى لكمة مفاجئة فترنح. وكان يجب عليه بالطبع أن يتمالك قواه ويدافع عن نفسه. ولأن «الأم» صارت طرفًا في هذا الجدال السياسي الرفيع الدائر بين مواطنين تعرفا على بعضهما البعض منذ خمس دقائق فكان يجب أن يرد عليه قائلًا: أنا غلطان اللي بسأل.. أمك. وكما يرتفع سقف المطالب في الثورات يرتفع سقف السفالة في الخناقات، ثم تتطور إلى مرحلة خلع الأحذية ورفع الكراسي، انتهاءً بإصابات، وكدمات، وغرز، وتهديد، ووعيد وظهور طرف ثالث بالتأكيد. مذاق خاص ويضيف يوسف معاطي: ولغتنا الجميلة، التي هي يسر لا عسر كما قال الدكتور طه حسين، زاخرة بالمحسنات البديعية والاستعارة، والكناية، والتورية، والجناس اللفظي، وذلك ما يعطيها مرونة وحيوية لا مثيل لها بين لغات العالم، ويعطيها قدرة على الاشتقاق، وعلى نحت تعبيرات جديدة، فتجعل لسفالتنا طعمًا، ومذاقًا خاصًّا، ننفرد به دونًا عن سائر بلاد الدنيا، وذلك ما جعلنا نتفرد بفعل إنساني، لا يفعله غيرنا في العالم كله، ذلك ما يسمى بالسباب الجماعي، وهو حالة فريدة من الاتفاق والتلاحم الجماهيري والتوحد حول جملة واحدة يرددها آلاف من المواطنين في نفس الوقت فتخرج الألفاظ المشتقة من الأجهزة التناسلية ـ وهو اشتقاق له مغزاه في العقل الجمعي ـ ثم بمهارة شعبية شديدة، في لحظتها يجد مواطنونا القافية المناسبة، واللحن المناسب ليكتمل الهتاف. ودون بروفات أو استعدادات، يهدر في الإستاد أو في الميدان، هديرًا ضخمًا منظمًا رائعًا. ورغم أننا عندنا قانون اسمه قانون خدش الحياء العام؛ إلا أن السباب الجماعي ليس جريمة بمقتضى هذا القانون، لماذا؟! لأن السباب الجماعي هو الرأي العام فكيف يخدش الرأي العام الحياء العام والاثنين أخوات؟! وحينما بدأت ثورتنا بهتاف محكم، محدد الألفاظ، واضح الاتجاه، الشعب، يرىد، إسقاط النظام، أربع كلمات فصيحة، في عبارة محترمة راقية، شعر المصريون بشعور لا يخفى على أحد أن الجملة ليست شعبية بما يكفي، وليست معبرة بما يكفي عن مكنون الصدور، ثم إنها تقال في بلاد كثيرة غير بلادنا نفس الجملة بنفس الألفاظ حتى في موريتانيا وساحل العاج، ومع ذلك عندنا ظلوا يرددونها؟! أهو أحسن من مفيش، بينما كانت العقول المصرية الشابة الموهوبة تعمل بلا توقف لتبدع شيئًا جديدًا صادمًا مفاجئًا شعبيًّا هوه احنا بتوع يريد وإسقاط برضه، حتى إن الدولة في البداية فهمت الهتاف خطأ، فهي لم تتعود هذه النوعية من الهتافات الرزينة الوقورة، واعتقدوا أن الشعب يريد إسقاط وزارة الداخلية، أو إقالة الوزير فقط وكان هذا هو التقرير الذي قدم للدولة، لترجمة هذا الهتاف الجديد. بل إن تقريرًا آخر قدمه أحد الأجهزة يؤكد أن هؤلاء المتظاهرين بالتحرير ليسوا مصريين ويتكلمون كلامًا غريبًا بلهجة غريبة، وفجأة وعينك ما تشوف إلا النور، طلعت هتافاتنا احنا بآه، ودي لا عاوزة تقارير ولا أجهزة، بدأت برفع الأحذية ـ وهي إشارة غضب مصرية صميمة لا يفهمها إلا نحن ـ فنحن نحتقر الأحذية، ونعتبرها إهانة لا أعلم لماذا مع إن جوز الكوتشي التعبان بيعمل له ألف جنيه ع الأقل. وبدأت تعلو في الميدان «ارحل، ارحل يا بن الجزمه». هنا فقط بدأت الأجهزة تفهم، فالأجهزة تعلم جيدًا أن المصري حينما يخلع حذاءه ويرفعه يبأه خلاص. وبدأت الهتافات تتنوع وتبدع وتلهب حماس الشعب الذي يحب الشتيمة أكثر من الضرب بكتير. وقد سمعت أن واحدًا من النُخبة وقف وقال بهدوئه المقيت للمتظاهرين: «يا جماعة، احنا جايين نهتف مش جايين نشتم»، فرد الجميع عليه: لا يا.. أمك، احنا جايين نشتم. أدب الهتاف ومعهم حق، فهل إذا أتوا إلى الميدان، ووقفوا صامتين مهذبين مع موسيقى حالمة لكورساكوف، أو وقف عمر خيرت ليعزف لهم على البيانو، هل كان النظام سيرحل؟!. قلت لصديقي الأديب هذا الذي شتموه في الميدان لأنه طالب الثوار بأن يهتفوا في أدب: إذا أردت أن تنهى الناس عن فعل شيء يجب أن تقدم لهم البديل، فهل مثلًا كان البديل أن يهتف الثوار هكذا: من فضل حضرتك يا ريس، يا ريت ترحل، مع كل الحب والاحترام الشعب يحلم بإسقاط النظام، ممكن نقعد احنا يا ريس وحضرتك تمشي. ويختتم معاطي رؤيته مؤكدًا أن المشكلة التي لا يدركها البعض أن أي شيء جماعي يحتشد له عدد كبير من الناس يصبح أمرًا واقعًا فوق الأخلاق والقوانين والدساتير، حتى لو كان سبابًا جماعيًّا وسفالة جماعية. الكتاب: لقد وقعنا في الفخ المؤلف: يوسف معاطي الناشر: الدار المصرية اللبنانية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©