السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسافي.. ارتوت باسمها «الصافي»

مسافي.. ارتوت باسمها «الصافي»
21 مايو 2014 21:14
كلمة الماء الصافي تغيرت بلكنة أعجمية لتصبح مسافي.. لقد خرجت الكلمة من أفواههم غير صافية كما أصلها، لتصبح مسافي كما هو متعارف عليه اليوم.. هكذا تبدأ الحكاية الممتدة في الذاكرة بين الناس، التي يرددها أهل القرية الوديعة التي طالما كانت تنعت عند بعضهم بـ(لبنان الصغيرة) نظراً لما حباها الله به من نضارة وخضرة وخصوبة قل أن تجد لها مثيلاً في نظيراتها من القرى المجاورة لها. استوعب العقل الجمعي الكلمة فبقيت عالقة على الأفواه، لكنهم لم ينسوا الأصل والنظير، وباتت قصة الاسم ترددها الأجيال جيلاً بعد جيل، حتى ارتبط الاسم بالسياق وأصبحت وكأنها تفيد الكلمة الأولى ذاتها، ولكل أمر من الاسم نصيب. لا يمكن أن تمر على مسافي الفجيرة التي تتموقع بين الذيد ومدينة الفجيرة، دون أن يتراءى لك الطريق حقلاً من الثمر والخضراوات والمعارض المختلفة في تناسق بديع يشد العابرين بترتيبه ويرغمهم على الوقوف ولو لحين. ولولا شح الماء لبقيت مسافي مطمورة البلد، حيث تجود بأطيب الثمار وتنثر أريجها الأخضر على كل ما حولها من جبال تسند ظهرها عليها مستلقية في انتظار ماء كان ينزل مدراراً ويترك خلفه أودية وأنهاراً. ساسي جبيل مسافي الفجيرة قرية حافظت على تفاصيلها الأولى، ولا تزال إلى يوم الناس هذا ترسم لمزارعها حواجز أسمنتية عاليه كأحواض يجتمع فيها الماء، فيعلو نخل وهامبا (مانجو)، وليمون، وسفرجل، وذرة، وتفاح، وبرتقال، وفندال، وياس معطر. إن إحصاء ما تجود به الأرض هناك، يجعلك تعتقد جازماً أن سراً ما يسكن ذلك الصخر ويحيلك إلى قدرة الإنسان على التعاطي مع التربة والبيئة الجبلية القاسية، لكنهم من هذا الصخر يصنعون الحياة ويرغمون الصخر على أن ينجب من رحمه ما لذّ وطاب، ومن هذا الصخر الذي لم تفعل فيه الكسارات والهجومات العمرانية المتتالية شيئاً يبقى الأمل معلقا في عودة الماء كما كان قبل نضوبه في كثير من المطارح. ومن خلال الأشجار والنباتات أيضاً يبدو جلياً أن الأهل الأوائل كرسوا ثقافة المزرعة وتهيأت لهم ظروف العمل فيها، حيث كان الماء قبل أن يشح في العديد من الأودية والعيون المورد الرئيسي لسكان مسافي الذين دأبوا على تربية الهوش والبوش، والذين اشتغلوا بالتجارة فبرعوا فيها وتعالى صيتهم في مختلف النواحي القريبة والبعيدة في مجالها، حيث ساعدهم الموقع المتميز بين أربع إمارات في الدولة على التواصل الفاعل والإيجابي والاستفادة من الجغرافيا التي منحتهم مكان المركز الذي يتفاعل مع أطرافه بيعاً وشراء وحتى مقايضة، كما يتحدث سكان مسافي الذين طالما كان لهم وما زال باع وذراع في الأسواق القريبة سواء بالشارقة أو دبي أو رأس الخيمة. لبنان الصغيرة تربية المواشي بأنواعها مثلت واحدة من الخصوصيات التي عرفت بها مسافي، وهو أمر يقترن عادة بالزراعة وتوافر الكلأ، وهذا أمر مؤكد في مثل هذه المناطق التي لا ضمان فيها لتقلبات الزمان وتنوع المناخات، فـ(لبنان الصغيرة) كما كانت تعرف، لم تعد اليوم كما كانت عليه بالأمس بفعل شح الأرض وقلة الماء، مما ترك عجائز النخل تبدو متداعية في كثير من الحقول التي تغير لونها بعد الظمأ، وهي التي كانت تشرب من الأفلاج وتنتظر الأودية والمسطحات المائية لتعلو خضراء باسقة واقفة بين الصخر بكل عزيمة وإصرار، الماء الذي يقف وراء كل الأخضر الذي كان يغزو حقول ومزارع وواحات مسافي لم يعد يهطل كما كان، وعليه فإن تراجع المحاصيل، وعزوف البعض عن الانتظار جعل كثيراً من أبنائها يتركون الأرض بحثاً عن موارد أخرى، ونضوب السيل في كثير من الأماكن جعل الفلاحين يبحثون عن حلول أخرى ليعرش الأخضر وترتوي حقول المانجو والليمون وواحات النخل الذي يهب تمراً طالما تميز بمذاق خاص. تؤكد القرية حضورها المركزي في المنظومة الزراعية الإماراتية على الدوام رغم كل العوامل الطبيعية المناوئة، فطالما عرفت بذلك طوال السنين وستظل رغم الجفاف والعطش تحفر في الصخر لتعلن الحياة وتبعث في الأرض نبتاً لا يموت، فماؤها الصافي العذب الزلال طالما كان نقيا منهمراً في كل أرجائها ودروبها حتى باتت مصيفا، يقصدها سكان الإمارات المجاورة للتمتع بالخضرة النظرة والظل العميم في عرشان السعف والنخيل الممتدة في سيح القرية. قلعة مسافي التاريخية انتصبت قلعة مسافي منذ القرن الخامس عشر ميلادية عالية مطلة على الأرجاء كافة، ومن على تل علوي تتربع إلى اليوم بمساحتها وتضم برجاً دائرياً واحداً في زاويتها الجنوبية الغربية، ويبلغ ارتفاع ما تبقى منه في أيامنا ما يناهز السبعة أمتار، ويبلغ طول قطره من الداخل حوالي 5 أمتار، كما توجد في فنائها غرف قديمة متعددة بنيت في فترات مختلفة، لعل الأهل هناك كانوا يحتمون فيها من عدو أو يهربون إليها من سيل، ومن فوق الجبل كانت تهب السكان الأمن والأمان ويطلون من خلالها على كل ما حولهم، حيث كانت القلعة إلى زمن قريب تعج بـ«المطارزية» الذين يتداولون على الحراسة فيها لحماية أهلها من كل مكروه، ووجود هذه القلعة يؤكد أن المكان كان عرضة للأطماع ويتوافر على إمكانات هائلة لا بد من استغلالها أو حمايتها والذود عنها من الأعداء القادمين من وراء البحار أو من المناطق الجبلية المجاورة. وحذو القلعة تقف رابية هي عبارة عن حصن صغير يقف فوق الجبل لينظر من عل إلى كل حركة في الأسفل ويقي السكان من الهجومات المناوئة في مكان يرجح أنه الأعلى في دولة الإمارات العربية المتحدة كما يقول العارفون، ولكن الحياة اليوم لم تعد متعلقة بذلك الحصن أو تلك القلعة بل نزل الناس إلى المنبسط لينخرطوا في سباق العمران الحديث، ويبتنوا لهم المنازل الفاخرة والبيوت المرفهة التي باتت من خصوصيات أبناء هذا الوطن الذي رسخ اتحاده المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، طيّب الله ثراه، منذ قيام دولة الاتحاد التي أخرجت أهل الإمارات من طور إلى طور وحققت لهم الرخاء والخير العميم. مناخات شتى إن المتأمل في طقس وطبيعة مسافي يقف على تعدد واضح للعيان، وامتداد للصخر والجبل والماء والزرع في كل مكان، إذ تشعر وأنت تجوب أرجاءها أنك في أماكن متعددة وأنت تراوح مكانك، فالعين هنا بإمكانها أن تختزن عشرات الصور المختلفة والمتناسقة دفعة واحدة، وهنا تتجلى قدرة الإنسان على استغلال ما حوله وتوظيفه أحسن توظيف بما يتناسب والأدوار المختلفة التي يلعبها في هذا الوجود، وعليه فإن كل ذلك الفضاء البديع التنوع بالضرورة بناء على التعدد في البيئات التي يسيطر فيه الصلب على ما سواه، والتي لا يلين فيها أو يينع إلا من كان خلفه ماء هاطل أو طالع من بين الصخور ومنساب ببطء حيناً، جارفاً إذا نزل السيل الغزير، كل ذلك ترك في نفوس أبناء مسافي عزائم صادقة وصموداً استثنائياً وفراسة وإرادة وقدرة على التفاعل مع مختلف المناخات والطقوس يوحي فيما يوحي أن الإنسان ابن بيئته، ولا يمكنه أن يتملص منها مهما حاول ومهما أتت عليه صروف الدهر وصنوفه. لقد تغيرت الأحوال عبر الزمان ولكن الإنسان فيها لا يزال يراها كما هي منذ نشأتها الأولى، ففي مسافي لا يزال الأهل يحرسون مواشيهم ويعدون لها في الظل زرائب، ويتركون ماعزهم يرتع في الجبل كما الغزلان التي لا يثنيها العلو على الصعود والوصول إلى الأخضر أينما كان. وللأخضر مع صخر وكهوف القرية ومساربها ومنعرجاتها حضور تتقاطع فيه الألوان والتعاريج والانزياحات، لكنه في نهاية المطاف يخلق من هذا كله لوحة واحدة بمناخات وألوان شتى، فتستغرق في جذب العابرين وتجد نفسك وأنت تقطع الطريق عبرها مضطراً إلى الوقوف عندها سواء للتزود بحاجة أو للتمتع بما بقي من حقولها الوارفة التي كانت أكثر نظارة حين كان الماء لا يتوقف، ولكن العزيمة الصلبة لأبنائها وحرصهم الكبير على المواصلة في المجال نفسه الذي أحبه الآباء والأجداد جيلاً بعد جيل خلق في داخلهم حباً أسطورياً لتلك الأرض والمرابع الأولى، فحب الأرض من حب الوطن، وحب الوطن لا يحتاج دائماً إلى أن نرفع عقيرتنا لنصرخ به، بل إنه يتجلى أيضاً في الباطن ويرتسم على الوجوه وفي التقاسيم والملامح وفي الفعل والإنجاز والمساهمة في البناء والتشييد كل من جانبه وبطريقته، ولعل أبناء مسافي الذين كانوا إلى وقت قريب يقطنون بيوتا جبلية لا يزال يهزهم حنين جارف إلى تلك المرابع الأولى، حيث للحياة معاني أبسط وروح مفتوحة على ماض يكنون له كل الحب والحنين. عمليات تنقيب في النواحي المحاذية لقرية مسافي، ينبع الماء في منطقة المورد وغيرها من المنابع من تحت الصخر، واهباً ماءً عذباً سلسبيلاً من جوف الجبل، يقف بعضهم في انتظاره ليقيهم من عطش ويعود بهم إلى ذاكرة عنقاء لمكان طالما كانت الأفلاج المائية العذبة تشق مزارعه، هذه الأفلاج التي يعود تاريخها إلى الألفية الأولى قبل الميلاد كما تفيد الدراسات التي قام بها خبراء يابانيون معنيون بآثار الفجيرة، حيث إن آثار بعضها ما زالت ماثلة إلى يوم الناس هذا في أسفل الجبل على امتداد كيلو مترات من المزارع الموجودة الآن، وتصب فيه قناتان مائيتان كانتا مورداً مائياً مهماً في سبعينيات القرن الماضي، لكن الرياح والجفاف جعل الأفلاج اليوم غير قادرة على أن تهب ماء للمزارع فاعتمد الأهل على الآبار ليرووا عطش مزارعهم، كما أشارت عمليات التنقيب إلى أنه يوجد في المجرى المائي آثار مسجد بني على أرض منبسطة أسفل التل الذي تنتصب عليه القلعة المترامية، هذه المنطقة كانت أيضاً مرتعاً للغزلان والضأن و(الهوش) بأنواعه من قديم الزمان، والبحوث والدراسات تعمل الآن على قدم وساق للوقوف على آثار القرية الضاربة في أعماق التاريخ، ومن خلال الحفريات والدراسات ستظهر نتائج ذات بال قد تفيد الباحثين في تاريخ الإمارات والمنطقة، ومن شأنها أن تقدم إضافات معرفية تاريخية لا غنى للأجيال من الاطلاع عليها لمعرفة تفاصيل حياتهم الأولى منذ حقب متعاقبة عليها شهدت خلالها القرية نقلات مختلفة تشير إلى رسوخها في القدم ودورها كمزرعة تاريخية في إنتاج كثير من الخضراوات والفواكه وحتى أشجار الزينة التي أعدت لها منابت خاصة ومحابس قدت لتكون حدائق داخلية في كثير من بيوتات أهل الإمارات. تصل مسافي بين الساحل والمناطق الداخلية لدولة الإمارات لذلك كان موقعها دفاعيا بالأساس، نظراً لمرور الغرباء وخروجهم عبرها، ولذلك امتلكت بموقعها الاستراتيجي هذا حضوراً خاصاً ولافتاً جعل الأطماع تتزايد حولها، ولكن السيطرة عليها كانت عصية دائما بفضل إصرار رجالها الأشاوس وكل من أقام فيها في مختلف الحقب على حمايتها من كل عدو قادم من بعيد أو من قريب، وها أن مسافي اليوم تعيد رسم ملامحها وترسم حاضرها متعاطية مع المتغيرات ومصرة على الحياة بنظارة أكبر ودفق لا ينضب من الحب لتراب الأرض الذي لم يخذل يوما ساكنيه، ولم يقصر يوماً في أن يهبهم نبتاً وزرعاً وعسلاً وسفرجلا وتمراً وليموناً وشجراً مثمراً، يقتاتون من بعضه ويصدرون بعضه ليتذوق طعمه اللذيذ ويشتم رائحته الزكية كل عابر وكل محب لهذه الديار العامرة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©