الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الشريط الأبيض».. شارة عار

«الشريط الأبيض».. شارة عار
21 مايو 2014 21:15
أمين صالح ميكايل هانيكه Michael Haneke واحد من أهم مخرجي السينما الأوروبية، والأعلى مكانةً وتقديراً. عبر أفلامه الهامة، سلّط هانيكه ضوءاً ساطعاً على أجواء النزوع إلى الشك والارتياب، النابع من الشعور الحاد بالذنب، والذي يتصل بسلوكيات ومواقف العائلة المنتسبة إلى الطبقة المتوسطة. كما أظهر براعة في تحري القضايا الاجتماعية من خلال كاميرا حساسة وواعية، وعين قادرة على سبر مختلف المشاعر والانفعالات. في فيلمه «الشريط الأبيض» The White Ribbon 2009، يركز بؤرته، على نحو مكثف، على الطفولة، العائلة، العلاقات الطبقية في مجتمع قمعي وكابح. كاشفاً عن الطبيعة السامة، الهدامة، للتشدّد الديني. مقدماً تأملاً قاتماً فيه يستكشف تأثيرات العنف البدني والنفسي. ومحققاً وثيقة رائعة عن الكبح الديني والإفلاس الأخلاقي والظلم الاجتماعي وتفشي الشر الذي ينخر أساس مجتمع يتجه حثيثاً نحو تدمير نفسه والآخر عبر حروب طاحنة تلوح في الأفق. العالم الذي يصوره هانيكه في هذا الفيلم مليء بالحقد، الضغينة، المكر، الحسد، اللامبالاة، والوحشية. لكنه أيضاً يترك مساحة لمشاهد حافلة بالعاطفة والنعومة والمشاعر الرومانسية، في العلاقات الغرامية وفي العلاقات العائلية. «الشريط الأبيض» هو فيلمه العاشر خلال 20 سنة من عمله السينمائي، وهو مبني على رواية ألمانية غير مشهورة كتبها ثيودور فونتين في نهاية القرن 19، تدور أحداثه في قرية ألمانية صغيرة ومعزولة تقع في الشمال، في العام 1913، السنة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى.. وهو بذلك يعيد خلق مرحلة تاريخية ليتأمل مستقبل تلك المرحلة. القصة تشمل نطاق سكان القرية بأسرهم: البارون مالك الأراضي، وكيل المزرعة المشرف على أملاك البارون، الطبيب، القس، القابلة، أسرة من المزارعين، المدرّس الذي يسرد الأحداث بعد سنوات طويلة من وقوعها، فيوحي صوته بأنه عجوز في الثمانين من عمره (وهي المرة الأولى التي فيها يلجأ هانيكه إلى الراوي). التباس منذ البداية يضرم فينا الراوي حس الالتباس والبلبلة، والارتياب في حقيقة ما سنراه على الشاشة من أحداث. قد يكون هذا المدرّس (الراوي) دليلنا الذي يأخذنا عبر الحكاية المتشابكة، لكننا سنكتشف أن الأحداث، في العديد من المواقف، مرئية من منظور الأطفال. البؤرة غالباً ما تكون مركّزة على الأطفال، الذين يعكسون سلوك الكبار. على أية حال، هانيكه يرفض أن يقدم أي شرح أو تأويل. يقول إن مهمته تنحصر في طرح الأسئلة فحسب.. «ليس من مهمتي تأويل أفلامي. على كل شخص أن يجد تأويله الخاص. أني أتعامل مع جمهوري بجدية، لذلك أمنحهم الفرصة لأن يقرروا بأنفسهم ما يرغبون في تفسيره. أنا أخلق التوتر، وأطرح أسئلة معينة. ذلك هو هدفي. ما هو مجدٍ أكثر، بالنسبة لي، هو أن تجعل المتفرج يجابه الواقع المركّب الذي يعكس الطبيعة المتناقضة للتجربة الإنسانية». على نحو مفاجئ، وبشكل يستعصي على الفهم، تشهد القرية أحداثاً غريبة، غامضة، مرعبة، تقع ضمن فصول تتعاقب ببطء على مدى شهور. تلك الأحداث تشمل سلسلة من الأفعال العنيفة التي ـ في معظمها ـ لا نرى مرتكبيها ولا نجد لها تبريراً أو تفسيراً، والتي ظاهرياً لا تبدو متصلة ببعضها أو ذات علاقة فيما بينها. هذه الأفعال العنيفة تثير الاضطراب عند سكان القرية الهادئة، المسالمة، وتشيع حالات من الارتياب والتوجس والقلق في الأوساط المختلفة والمتباينة. تدريجياً يبدأ المدرّس في الارتياب بمجموعة من الأطفال، من الجنسين، الذين يتواجدون معاً باستمرار، مترددين في فضول قرب موقع كل جريمة تقريباً، متظاهرين بالبراءة والتقوى، والذين هم في الأساس ضحايا قمع وكبت واستغلال جنسي. لكن حتى لو كانت أصابع الاتهام موجهة نحو هؤلاء الأطفال، فإن الطرف المسؤول نجده في عالم الكبار. كل فعل، يتاح لنا الاطلاع على سرّه، هو ثمرة تربة فاسدة وملوثة، وهو فعل انتقامي موجّه ضد النظام الاجتماعي القمعي، الثورة أو التمرد ضد الأب وما يمثله من سلطة. تحدي كل سلطة. بعض الأفعال تحركها الغيرة الطبقية، الثأر من الإذلال والقسوة وسوء المعاملة. عدد من النقاد تطرقوا إلى سبر الفيلم لمفاهيم السلطة، الاستبداد، العنف، الفضيلة، الطهارة، الإيمان، البراءة، الإثم، العقاب، والدور الذي تمارسه مثل هذه المفاهيم في تنشئة أطفال القرية، لكنهم أيضاً أشاروا إلى اتصال موضوع الفيلم بالتاريخ الألماني، وتحري الأصول الاجتماعية للحركة الاشتراكية القومية في ألمانيا، مؤكدين وجود تلميحات، أو إشارات ضمنية في الفيلم، إلى النازية. بل إن بعض النقاد ركزوا في تأويلهم للفيلم على هذا المنحى: بحث الفيلم في جذور النازية واستقصاء المنابت العميقة لنشوء أو تكوّن النازية، أو بالأحرى استكشاف منبع الدعم الذي حصل عليه النازيون حتى يصعدوا إلى السلطة. غير أن هانيكه ينكر أية علاقة بفيلمه مع النازية أو أية قضية في التاريخ الألماني.. بدلاً من ذلك، هو يصرّح بأن الفيلم يقدّم بيانا عاماً عما يمارسه أي نظام قمعي في تحريف أفراده من الشباب. يقول هانيكه: «الفيلم نفسه لا يقول شيئاً عن الفاشية. نحن ببساطة نصوّر مجموعة من الأطفال الذين يعيشون وفق المُثُل التي غرسها فيهم ذووهم. على أساس هذه المثُل يحاكم الأطفال آباءهم. عندما يدركون أن الآباء لا يعملون وفق القوانين التي يبشّرون بها، يقوم الأطفال بمعاقبة الآباء». كما يؤكد أن فيلمه، جوهرياً، هو بحث في جذور نوع معين من الشر.. سواء أكان إرهاباً دينياً أو سياسياً. ذلك الشر الجوهري الذي يكمن في الطبيعة البشرية، والذي يمارس على نطاق جماعي، حين تبدأ طرائق التفكير القديمة في الوقوع في دائرة النفاق والانتهازية، وتحل محلها أشكال أكثر قسوة وعنفاً. تداعيات عالم الفيلم يهيمن عليه الأب ذو الحضور القوي، أو من هو في مكانته، أو من ينوب عنه (الأب البديل). كل وحْدة اجتماعية في القرية يحكمها شكل أبوي ما. وكل أب أو وليّ أمر أو سيّد أو رب عمل يمارس عنفاً بدنياً أو نفسياً أو جنسياً. والأطفال بدورهم يوجهون ما كابدوه واختبروه من عنف بدني ونفسي نحو آخرين لم يرتكبوا إثماً. الشريط الأبيض: شارة عار يرغم القس ابنه وابنته على ارتدائها لأسابيع بسبب مخالفتهما لقانونٍ من وضعه.. كمثال: التأخر في العودة إلى المنزل، ممارسة ما تفرضه امارات البلوغ واليقظة الجنسية، وغير ذلك. الشريط، كما يحدّده أو يعرّفه القس، هو رمز للنقاء والطهارة والبراءة، تذكير بالمُثل العليا التي ينشقّان عنها، والتي ينبغي أن يجاهدا من أجل بلوغها. أيضاً الغاية من الشريط، كما يشير القس، حثّ المرء على تجنب الوقوع في الخطيئة، الأنانية، الحسد، البذاءة، الكذب، الكسل. إنه يستخدم الشريط الأبيض كأسلوب تربوي تعليمي، مع أنه في حقيقته عقاب ووسيلة قمع شنيعة. الشريط الأبيض، أيضاً، يستقطب تداعيات أخرى في الفيلم. هناك الرباط (كأداة كبح وقمع) المستخدم لربط يديّ ابن القس ليلاً في محاولة لمنعه من الاستمناء (الذي هو فعل طبيعي ومحتوم يفرضه وصوله سنّ البلوغ) فتغرس فيه المخاوف الوهمية وعقدة الذنب والشعور بالخجل والعار من حاجاته الجسدية ورغباته الطبيعية. هناك كذلك الضمادة التي توضع على العينين المصابتين والتي توحي بالعمى، بعجز المجتمع عن رؤية طبيعته الحقيقية، وبرفض هذا المجتمع لأي تغيير جذري في أسسه الاجتماعية والأخلاقية. في هكذا مجتمع، ثمة تدمير منهجي للحب والبراءة، وهيمنة للشر، ونفي لأي بارقة أمل. هانيكه في أفلامه يحرص على أن يدع جمهوره يشارك في التأويل والتفسير. هناك دوماً فجوات في المعرفة، التباسات وحالات غامضة، نواقص سردية. المتفرج مطالب هنا بالمشاركة في تجسير العلاقات، في ربط الصلات، في توصيل القطع بعضها ببعض. الكثير من العناصر، الرئيسية والثانوية، متروكة من دون توضيح وفي غموض: هناك علاقات عديدة غير مفهومة أو أن الفيلم لا يوضحها عامداً. ونحن لا نعرف من ارتكب كل تلك الاعتداءات. إنها جرائم غير محلولة أبداً. قضايا مسجلة ضد مجهول. الى جانب الحوادث المرعبة والمخيفة، يظهر لنا المخرج مشاهد مصورة برهافة وحساسية فائقة: اللحظات التي تجمع بين القس وابنه الصغير الذي يهديه طائراً مقابل الطائر المقتول. الحوار الذي يدور عن الموت بين ابنة الطبيب وشقيقها الصغير. المشاعر العاطفية التي يتبادلها المدرّس وخطيبته. فنياً، ومن أجل الحصول على التأثير الذي أراده، قام هانيكه بتصوير الفيلم بالألوان ثم حوله رقمياً (عن طريق الديجيتال) إلى الأسود والأبيض الذي أعطى الفيلم عمقاً وصفاء. الفيلم حاز على العديد من الجوائز: الجائزة الكبرى، إضافة إلى جائزة النقاد الدوليين، في مهرجان كان 2009. وجوائز الفيلم الأوروبي كأفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل سيناريو. وجائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبي. وحصل على عشر جوائز من مسابقة الفيلم الألماني من بينها أفضل فيلم ومخرج. وجائزة نقاد شيكاغو كأفضل فيلم أجنبي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©