السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجمهور المحترف

الجمهور المحترف
21 مايو 2014 21:16
حسن ياغي إن موضوع هذه المقالة ليس المعرض كمعرض، سواء لجهة التنظيم، وهو تنظيم على مستوى عالٍ، من الواضح أن القيّمين عليه بذلوا فيه مجهودات كبيرة، أو لجهة أهداف مثل تبادل الخبرات بين الناشرين، أو البرنامج المهني.. أو غير ذلك. بل تركّز هذه المقالة على القرّاء وتوجّهات القراءة. فعلى مدى ما يقرب من عشرين عاماً. شاركت، كناشر، في معرض أبوظبي للكتاب، شهد هذا المعرض تحوّلات منذ بدايته في خيمة في باحة المجمّع الثقافي حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وبسبب هذه المشاركة الطويلة، التي لم أنقطع عنها، أسمح لنفسي بقراءة مؤشّرات التحوّلات التي شهدها المعرض كما عايشتها ورأيتها، عسى أن يكون فيها ما يفيد التفكير بالمعرض بما يتفق مع الاحتياجات الفعليّة للتنمية التي تعتبر الثقافة مكوّناً أساسياً فيها. فمن هم القّراء الذين يُقام هذا المعرض من أجلهم أولاً؟ خاصة وأن هؤلاء القرّاء إن لم يكونوا الهدف الوحيد لإقامة المعرض، فإنّهم بإقبالهم على المعرض، أو إعراضهم عن ذلك، يقدّمون المؤشّر الأهم على مدى نجاح المعرض. وما هي التبدلات، بالمعنى الثقافي والاجتماعي، التي حصلت؟ رواد جدد أولاً: في السنوات الأولى لإقامة المعرض، كان معظم زوّاره من غير المواطنين. وأقصد من المقيمين في أبوظبي بهدف العمل. إلا أنّ زائري المعرض (جمهوره) راحوا يتحوّلون على نحو واضح في خلال السنوات الأخيرة ليصبح العدد الأكبر من زائري المعرض من المواطنين. وعلى مدى سنوات كان يحصل تحوّل آخر من الأهمية بمكان التوقّف عنده، وهو أن غالبية زوّار المعرض كانوا من الذكور في السنوات الأولى، بينما كانت أعداد النساء قليلة وفي أوقات تحدّدها إدارة المعرض، وكنّ في غالبيتهنّ من الطالبات اللواتي يأتين في رحلات مدرسيّة منظّمة، أو من طالبات الجامعات اللواتي يبحثن عن كتب معظمها في ميدان الاختصاص. أما اليوم فقد صارت غالبية القرّاء من النساء. ثانياً: كان الجمهور في البداية، وغالبيته، كما ذكرت، من الرجال، يتوجّه إلى الكتب الفكريّة، وكانت أعمال كتّاب مثل: نصر حامد أبو زيد، ومحمد عابد الجابري، وعبدالله العروي، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وعلي حرب، وأدونيس.. الخ (على سبيل المثال لا الحصر) هي محط اهتمام القرّاء. ومع التحوّلَين اللذين ذكرتهما: 1 - من غلبة الزوّار المقيمين إلى غلبة الزوّار المواطنين. 2 - من غلبة الذكور إلى غلبة الإناث. فإن نوعية الكتب مَحَطّ الاهتمام راحت تتحوّل نحو الرواية، وخاصّة الرواية التي تحاكي عواطف القارئ، فصارت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي (أيضاً على سبيل المثال) نجمة تطمح معظم القارئات إلى التعرّف إليها أو سماع حديثها، وصارت ضيفة دائمة على الصالونات، ولا سيما النسائية منها.. وضمّت هذه الدائرة كتّاب الرواية وأغلبهنّ من النساء، إضافة إلى بعض الرجال. كما نشأت في تلك الفترة عدة نوادٍ للقراءة، كلها نوادي نساء، تتركّز قراءاتهن على الروايات، ومعظم أعضائها من نساء مقيمات، مع أن هذه النوادي تُدار من نساء مواطنات. ثالثاً: في السنوات الأخيرة، وهذا ما بدا على نحو أوضح هذا العام، صارت غَلَبة واضحة لزوّار المعرض من المواطنين عموماً، ومن الفتيات خصوصاً. وقد ظهرت فئة جديدة من القرّاء تنقسم إلى قسمين: أ - القسم الأوّل، مجموعة القرّاء الذين تحوّلوا إلى قرّاء محترفين (أيضاً غالبيتهم نساء)، يعرفون جيداً ماذا يختارون، ويعرفون الكتّاب ويتابعون الصحافة وجزء منهم يناقش في نوع الرواية وقيمتها الفنية والأدبيّة. ب - قسم آخر، وهم قرّاء لم يكونوا، وما كان يمكن أن يكونوا قرّاءً، لولا الوسائط الحديثة الإلكترونية، وتوسّع نطاق التعليم ومعرفة اللغة الانجليزية. وهؤلاء هم الجمهور الأوسع ويبحثون عن الكتب الخفيفة أو البوليسيّة، والروايات الأكثر إثارة التي قرأوا عنها في الانترنت، وأيضاً كتب بناء الشخصية أو “السلف هِلب”، وفي غالبيتهم من المراهقين والشباب الصغار من سن 15 سنة وصولاً إلى 25 سنة. وأما الذين يُصنَّفون من ضمن هذه الفئة ممن هم أكبر سناً فإنهم يبحثون عن كتب ذات طابع روحاني (أوشو، الطاقة الحيوية...) ..وقراء جدد رابعاً: “البونات”، وهي طريقة مبتكرة في الدعم الذي تقدّمه الحكومة للتشجيع على القراءة، وأرى أنها تؤدي إلى نتائج إيجابية على أكثر من مستوى، ولكن ما يهمّني هنا هو الإشارة إلى انعكاسها على القراءة والقرّاء. وبحسب ملاحظتي، وهي ملاحظة شخصيّة تقديريّة لا إحصائي، فإن هؤلاء يتوزّعون على ثلاث فئات: أ- فئة الطلبة من الأطفال حتى مرحلة التعليم الثانوي. وفي كل الأحوال، يحظى الأطفال من الطلبة بدعم من الحكومة وتشجيع على القراءة. أما الطلاب من فئة المراهقين والشباب حتى سن 18 تقريباً، فإنهم في غالبيتهم يأتون إلى المعرض مزوّدين بقوائم كتب معدّة سلفاً ومسجّلة على هواتفهم النقّالة. وعلى ما بدا لي -وإن كنت لا أدّعي أن ملاحظتي عامّة الدلالة- هي قوائم أعدّها أشخاص آخرون (أهل ـ أصدقاء...) فهم يسألون عن كتب محدّدة، وعندما تقترح عليهم كتاباً ينسجم تماماً مع الكتب التي تتضمنها القائمة، لا يقبلون أيّ نقاش أو تعديل، فهو -أو هي- يريد هذه القائمة وكفى. ب- فئة الطلبة الذين لا يحملون قوائم، وهؤلاء عادة يختارون كتباً يصعب تحديد توجّهها، فهي إما لكتّاب وردت أسماؤهم في منهجهم الدراسي، أو تستهويهم بعض العناوين المثيرة فيشترونها. ج- فئة الأساتذة، وبعض المثقفين، وقد حصلوا على البونات، فيختارون كتباً محدّدة تتعلّق باختياراتهم بحسب التخصّص الأكاديمي، أو مزاج القراءة. خامساً: الإشارة اللافتة هذا العام، كانت الحضور المتزايد، وإن كان هذا التزايد نسبيّاً، لقرّاء انتقلوا من قراءة الرواية على سبيل التسلية إلى التعامل معها كقيمة فنيّة جمالية، فيقارنون بين الكتّاب ويهتمّون بالتفاصيل.. وأيضاً، وهذا مؤشّر جديد لافت، الاهتمام بكتب الفلسفة، وهذه حالة عامّة لاحظتها في أكثر من معرض كتاب، وقد تكون التحوّلات التي شهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة دافعاً لها. إذ هي تعبير عن أسئلة تتعلّق بالذات الانسانية والوجود. ومحاولة للدخول في أفق أوسع لرؤية العالم. ولطالما سمعت السؤال عن: هل لديك كتاب يشكّل مدخلاً إلى فهم الفلسفة؟ إذ إن التعامل مع هذه الآلة الفكرية بما تتطلبه من قدرة على التجريد والتعامل مع المفاهيم التي تتحرّك ما بين العقل وسَبْر غَوْر الوجود الإنساني ومواجهاته الميتافيزيقية تحتاج إلى تدرّب عقلي وإمكانات ليست بسيطة على مستوى اللغة، فالمفاهيم ليست مجرّد كلمات أو عبارات بل هي حياة من التحوّلات تمّت عبر حُقَب الإنسانية كلها. وهذه وإن كانت لا تزال جنينيّة فإنها لافتة، ذلك أنها ليست جزءًا من المناهج الدراسية، وتحصيل معرفة بها لدى هؤلاء القراء، وأكثرهم من الشباب، -على قلّة عددهم- إنما يتم بجهد خاص ونتيجة لما يواجهونه من أسئلة، وخاصة على ما يبدو لي تلك الأسئلة المتعلّقة بفهم الدين ومسألة الإيمان. سادساً: فئة القرّاء التقليديين في مجتمعاتنا، وهم القرّاء الذين يبحثون عن كتب التراث، بخاصة كتب التراث الديني، وهم في غالبيتهم قرّاء ما فوق الخمسين، ولكن عددهم في تناقص يمكن ملاحظته من عدد دور النشر التي تنشر كتب التراث. فمع أن دور النشر هذه هي الأكثر عدداً في العالم العربي، ولكنها الأقل تواجداً في المعرض. سابعاً: الجوائز: لا بد من الإشارة إلى التأثير الكبير الذي تركته جائزة (البوكر) على توجيه قرّاء الرواية نحو الروايات الفائزة بها، والروايات التي تصل إلى القائمة القصيرة. وأيضاً ما تتركه جائزة الشيخ زايد للكتاب من تأثير على النتاج الفكري وعلى الترجمة وهو ما سأفرد له لاحقا مقالة خاصّة. *** لا أستطيع أن أدّعي أن هذه المؤشّرات التي عرضتها تختصر كل فئات القرّاء الذين يأتون إلى المعرض، ولا أن هذه المؤشرات نتاج أي نوع من الإحصاء قمت به أو استندت إليه، فقد تكون لدى إدارة المعرض أو الجهات المختصّة من الاحصاءات ما قد يتعارض مع ملاحظاتي هذه. فهذه الملاحظات ذات طابع ثقافي، لا إحصائي، حيث أرى أن الإحصاءات لا تنفع كثيراً ما أودّ التعبير عنه، لأن ما أردته من ملاحظاتي تقديم الصورة عن التحولات الثقافية النّوعية وليس الكميّة. فأن تحتضن أمة ما، أو بلد ما، مفكراً كبيراً له قيمة ومكانة عالميتان لهو أكثر تأثيراً على حضارة هذه الأمّة أو ذلك البلد من الألوف الذين يذهبون إلى الجامعات للحصول على شهادة بهدف العمل (البزنس). وإن كنت لا أقلّل، اطلاقاً، من قيمة خرّيجي الجامعات هؤلاء، ودورهم في تنمية مجتمعاتهم، إلا أنني أتحدّث عمّا شهدته من تحوّلات حدَث ثقافي هو معرض الكتاب. *** أما ملاحظتي حول تنظيم المعرض التي أختم بها هذه المقالة فإنها تتعلّق بحجم المعرض، إذ أعتقد أن المعرض يتضخّم إلى حد أكبر بكثير من العدد المحتمل للقرّاء، والأمر متعلّق بحجم البلد ليس إلا، وما أعرفه عن القيمّين على المعرض أنهم حريصون على إتاحة أفضل فرصة أمام القرّاء، ولكن تضخيم الحجم بهذه الطريقة يؤثّر سلباً. وإذا كان لا بد من ذلك فأقترح أن يكون توزيع الأجنحة على أساس نوعيّة الكتب التي ينشرها أي ناشر، وخاصّة جمع المؤسسات الحكومية التي لا تبيع الكتب في جهة واحدة من المعرض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©