الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملكة سبأ.. أو الحلم المريب!

ملكة سبأ.. أو الحلم المريب!
2 أغسطس 2017 21:12
لا نعلم عنها الشّيء الكثير، شأنها في ذلك شأن حوّاء أو ليليت، هيكات أو سيرسي، ملكة اللّيل أو بهجة النّهار. قد تكون عاشت في القرن العاشــر قبل الميلاد، في بلاد العرب السّعيدة، الواقعة باليمن الحاليّ. وكم كثر هم أولئك الذين انبهروا بها حدّ الوله والافتتان. وقد نذكر من بين هؤلاء في زمننا الحاضر أندري مالرو، المغامر المتمرّد على الغرب، الذي لم يصمد أمام سطوة سحرها، وغواية التعرّف على مدينة الرّمال التي فيها تكثّف سرّها. وقد كتب بخصوصها:"نحن نعرف ملكة سـبأ من خلال مصدرين، الإنجيل والقرآن. وفي الحقيقة أنّ الآلهة وحدها هي التي كتبت عنها. قد نـرفض حقيقة وجودها، وقد نعتبرها محض أسطورة، ولكن ما حقيقة تلك المدينة التي نقلت إلينا أسطورتها وأخبارها، والتي توجد رغم ذلك بأرض اليمن؟ في تلك الوضعيّة البينيّة، حيث يتداخل الواقعي بالأسطوريّ، وحيث يمتزج التّاريخ بالخرافة، وحيث يغدو خطاب الآلهة رجع صدى لما يدوّنه المؤرّخون، سوف تكون للحلم فرصة لا تضاهى كي يجنّح و يطير، وللخيال إمكانيّة أن يعيش من جديد أوديسّا فريدة ورائعة، وللفكر كي يستغرق في عالم ساحر وفاتن. ذلك أنّ صورة ملكة سبأ تظلّ في المخيال الجماعيّ، صورة نورانيّة، شديدة التوهّج. وفي ذاكرة الأجيال، صورة مشعّة وامضة، حافلة بما يدمغ إلى الأبد ذاكرة العباد: النّبوغ والحكمة. عبقريّة ملكة سبأ ولكن ما هي العبقريّة؟ هذا ما قاله دانيال وهو مستغرق في أفكاره. وعنده، تبدو كلّ شروط التفوّق في هذه الملكة.. مجتمعة: العزلة والحريّة، الشّغف بالمعرفة والرّؤى الجليلة والثّقة بالنّفس، بما في ذلك الاقتراب من الجنون. فما الّذي قد ينقص حينئذ؟ لعلّه العنصر الإنساني؟ لعلّه القليل من الإحساس والحنين والمحبّة؟ وتلك حقّا فرضيّة مرتجلة. (توماس مانّ/ في بيت النبي) لنرتجل نحن بدورنا... فكما عند دانيال، كانت العزلة في الموعد مع النّبوغ في مملكة سبأ. قطعا، إنّه لبإمكاننا تخيّل الملكة وسط حاشيتها وخدمها، ومع ذلك، لن يكون بمقدورنا عزلها عن مشهد كان يُفرِّدها ويعزلها عمّا هو عاديّ في هذا العالم. تراها العين وكأنّها مخلوقة يلفّها ضباب خياليّ تتوّجه هالة رمليّة، حيث تتقاطع السّماء والأرض. وتحجب الصّحراء بسرابها اختلاجات قلبها، فإذا بأحلامنا ترفع إلى مرتبة المثال تلك التي كانت تائهة، وكأنّها في مكان آخر، في فضاء موهوب للشّفافيّة. كمخلوقة نلمحها في خلوتها من وراء سياج الحديقة، تزرع ملكة سبأ في كلّ واحد منّا بذور الدّهشة و الإرباك. وإحساسنا بأنّها متنائية في مخيّلتنا الشّاردة، ليرتبط بفهمنا للعزلة، الذي يتداخل فيه الشّعور بالانطواء والإحساس بالمتفلّت الذي لا يطال. على أنّ ملكة سبأ لا ترى نفسها ضحيّة للصّحـراء. ففيها كانت تحظى بحريّة مطلقة، تسمح بالإفصاح عن تشبّثها بالحريّة، لها وللآخرين. وخلافا لبعض الملكات المستبدّات، لا تلزم شعبها بأيّما إكـراه، بل هي عاجزة على ذلك. ويكفي أن نتأمّل أسلوبها في إدارة الحكم، حتّى نتبيّن مساحة الاستقلاليّة التي كانت تمنحها لمُقاربْ، كبير الكهنة و السّاهر على وحدة المملكة. كما كانت واثقة من تلقائيّة الفطرة، وعدالة قانونها الطّبيعيّ. وذلك القانون هو الذي يبرّر رحلتها لملاقاة سليمان، رحلة كانت عبارة عن مسيرة قسريّة، بها سوف تديم حياة يحكمها طقس التّرحال. ذلك أنّ مكانها الحقيقيّ، وكانت تعرف ذلك وتشعر به، ليس بين جدران قصرها في مأرب، وإنّما على مسالك التّجارة بين قانا وغزّة. والسّفـر كان بالنّسبة إليها مصدرا لكشوفات مثيرة للدّهشة، يجعلهـا تنفتح على الآخرين، ويساعدها على تعميق معرفتها بنفسها، وإثبات شخصيّتها. ينبغي أن نتخيّلها بفكرها المتيقّظ، وذكائها الحادّ، وهي مبتهجة بالمظهر الأنـوف لرجال القوافل، بمقلة العين السّاخرة لمرافقيهم المحدّبين، وبالحركة الطّبيعيّة لمسيرة وئيدة في ضياء القمر. كان حديثها سهلا، وهي الشّغوفة باللّغات، حدّ أنّها شرعت في تعلّم اللّغة المصريّة.. وكانت بذلك قادرة على الانتفاع من لقاءاتها بغرباء الأوطان القريبة. وقيل أنّه لا حد لحبّ الاستطلاع لديها، وإن كان ذلك ليزعج البعض، كما يذكّرنا جيرار دي نرفال، وهو ينقل إلينا رأي الكاهن صادوكْ، نجيّ سليمان. "كانت ملكة سبأ (أو بلقيس في القرآن) متعلّمة، ويبدو أنّ كهنة الصّابئة مكّنـوها من معرفة أشياء، لا ينبغي لملك تربّى وفق قواعد حكيمة أن يعرفها". وسليمان ذاته، حين امتُحن بالمسائل التي عرضتها بلقيس، سوف ينتقل من مفاجأة إلى أخرى. حقّا.. لقد كانت بارعة في فنّ المناظـرة الخطابيّة، وفي الألعاب الفكريّة. وعلى غرار أوديب القاهر لأبي الهول والمحرّر لأهالي طيبة، كانت تصنع حياة ثانية، وكانت خبرتها في التّعاطي مع الألغاز قد هزّت حياة سليمان، الذي غدا يدرك أنه يلتقي امـرأة فذّة وفريدة. وحتّى وإن كان "كتاب الملوك" في العهد القديم، يشير إلى أنّه كانت لـ"سليمان" سبعمائة زوجة وثلاثمائة خليلة، فإنّ لقب "الملكة" كان لا يجدر بغير ملكة سبأ. فللمرأة الاستثنائيّة، امتياز اللّقب. عزلة مهيبة وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ تمثّلنا لملكة سـبأ، لا يرتبط بقصر ملكيّ، بقدر ما يكون استحضارا للمشهد المقفر الذي ستختبر فيه لولـوج ذلك القصر. وبما أنّنا مدعوّون هنا إلى رسم ملامح شخصيّة موسومة بالنّبوغ، فقد نعود إلى تطابق الكلمات في تعريف توماس مانّ، الذي يؤالف بين "العزلة" و "الرّؤية المهيبة" و "الثّقة بالنّفس"، صفات يبرز جميعها بعدها المتفلّت عن الجماليّة الرّومانسيّة. والكثير من فنّاني القرن التّاسع عشر كانوا قد تخيّروا فيها ملامح لوجه متناء وقصيّ. إنّها تتميّز أوّلا بعلاقتها الجسـورة بالعناصر، أي بعـــلاقة فوق بشريّة مع الطّرف المقابل، تكون بثقل الأبديّة أو الموت.. وعلى غــرار أنتيغون، فرثر أو رينيه، لم تكن ملكة سبأ لتشكو من الاِبتذال، فتبدو مثل البطلة العتيقة، الموهوبة لرمل حلبة المصارعة، لريح التّاريخ أو إلى النّظرات الملتهبة. يتشكّل جسدها تحت الشّمس التي تروّضها، ممتثلة لقدرها، مفصحة بملء الصّوت، وتحت الضّياء، عن إرادة لا يشوبها غموض، وعن آمال سريّة دفينة. لقد كانت تعيش في تساوق تامّ مع الكون. في دفء النّهار، كان جمالها يتلاءم والرّشاقة التي لا تبلى لوردة الرّمال. وهل يكون ارتجاف الحياة في الصّحراء مبهرجاً بغير أبّهة الإشراق، أو بانبثاق السحريّ؟ ولنذكر في هذا الصّدد الأمير الصّغير لـ"سانت إكسوبري": "كنت دوما أعشق الصّحراء. نجلس فوق كثيّب رمليّ، فلا نرى شيئا، ولا نسمع شيئا. ومع ذلك، نشعر أنّه ثمّة شيء ما يتوهّج في صمت". إنّ عالم الإقفار ليستفزّ ذكاء الأحياء.. إنّه يجعل الآدميّ يقدّر مدى مقاومته لمغويات العالم، ويلمس مدى ضآلته تحت القبّة الزّرقاء. وبوصفها مرآة البقاء، كانت الصّحراء تغوي دائما الباحثين عن المطلق، من النسّاك الإنجيليين إلى المحترَقين من الشّعراء، الملغومين بعطش عصيّ على المقاومة، والذين يجدون في خطابهم المتلعثم، دواء مسكّنا، بديلا لواحات مفقودة، لنافـورات مؤقّتة، أو لصباحات منعشة رحيبة مرتقبة. فكم من الشّقاء والجنون والتزهّد، كانت على موعد في ذلك السّفر الطّويل لملكة سبأ: شقاء العزلة، جنون البحث، والتزهّد في آلهة عرفيّة. ولنتوقّف قليلا عند الاختبار الأخير.. إنّ ورع ملكة سبأ لا يطابق البتّة ذاك الذي كان يميّز تديّن سليمان، فأثار ذلك حفيظته. ولو قمنا بقراءة القرآن، وخاصّة سورة النّمل، سوف نعلم أنّ الهدهد، بعد أن طوّف فوق مملكة سبأ، عاد إلى سليمان بهذا الإخبار: "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَـــــاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ" صدق اللّه العظيم. ونحن نعلم ما تلى ذلك. كان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفاً من زجاج، وجعل فيه السمك وغيره من دواب الماء، وأمرت بلقيس بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه "فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت ربّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين". واِمّحى من ذهنها هكذا ألمُقْه، إله القمر، عطّارْ إلهة المطر، نقْرحْ إله الشّمس، وتكون الملكة بلقيس، التي كان يعتقد أنّها ثمرة بذرة للآله-الثّعـــــبان أرْو، قد اكتشفت الإيمان بعد ضلال..(...) جوهر الوجود لقد استوقفنا التّمثيل الذي وجدناه لها على بوّابات كاتدرائيّات آميان ورايمس بفرنسا، حيث تبدو ملكة سبأ منتصبة على رِجلٍ شبيهة بساق إوزّة؛ تفصيل تشريحي يعدّ رمزا للوفاء في الحياة الزّوجيّة، وقد نراه قريبا من القَدم التي كشفت عنها بلقيس لسليمان في سورة النّمل. وطالما أنّه لا بدّ للحبّ من أن يكون مطلقا، نريد هنا تأويل تلك الإهانة على أنّها علامة امتنان صادق وعفويّ، حيث تكون مقولة سينيك عن المحبّة الفطـريّة، "إنّي أهبك نفسي كي تهبينني أنت نفسك"، قد استعادت معناها، وحيث يكون الجانب الحيـوانيّ في المرأة قد غدا بارزا ودالاّ عليها، مع مشاعر امتنان و إحساس بالتّناهي، و توق إلى استسلام تامّ (..). كانت حِلْية ملكة سبأ شبيهة بريش الطّير، فتتبدّى أمامنـا في مظهرها الأكثر إنسانيّة، وهي التي كانت في نظر سليمان امرأة قبل أن تكون ملكة. لنحتفظ بذلك في الذّاكرة، ولكن لنستبعد عنّا طيف المرأة الفاتكة، التي تكون على غرار بنات مِيدوزْ، التي غالبا ما تغمر العاشق المطيع بحبّها قبل أن تسلمه إلى القلق والتوتّر. كانت برشاقة قامتها وحسدها الممتلئ تبدو واثقة ومُطمْئِنة، ورغبتها الطيّعة في أن تشعر بوجودها، وأن تسير نحو الرّجـل الذي كان يسكنها، لا يمكن فصله عن ليونة طبعها ورقّة روحها، التي كانت تتفيّض  من باطنها بجلال يفضحه ظاهـرها. وحتّى إن بدت في مشيتها نحو سليمان ساحرة وقاهرة، فإنّها كانت تشبه تلك الفتاة السّوداء التي ألهمت سنغور، التي كانت طريدة المدن الرّائعة، وزُفّتْ إلى نفَسِ السَّحَرِ دون شبهة من ظلام مسائيّ، وحيث وخَمُ اللّيل قد يجعـل منها صِنْوَ نَانَا في وطن الممالك المبهرجة. لأنّ الكتابة هي التي تنعش أنفاسها وتبثّ فيها الحياة، و تجعل منها شقيقة كلّ النّساء اللاّتي احتفي بهنّ الفنّانون، واللاّتي كنّ يأملن في ترحّلهنّ المطيّب، الظّفر من جديد ببعض من ذكرى أموميّة. هكذا تكون المرأة المثقلة بالبهارات والبخور، قد التحقت ببائعة الأزهار المبتدئة الصّغيرة التي كانت تعشق الرّائحة الزكيّة للّيلك و المخلوقات المدهشة، التي كانت تعشّش في خيال بودلير. وفي "كتاب الأمثال" المنسوب إلى سليمان، نعثر على هذه الإشارة إلى "المـرأة الغريبة التي تطيّب فراشها بالبهارات والمرّ. ويتحدّث "نشيد الأناشيد "المنسوب أيضا إلى سليمان، عن تعويذة عطِرة: "أختاه، إنّي لأرى فيك بستانا مسيّجا، خميلة يمتزج فيها نبات الحنّاء بعطر العنبر والزّعفران و القرفة والكافور، وصنوف مختلفة من الشّجيرات الفائحة، بنبات المرّ والعود." نحن حينئذ بإزاء نشيد يكاد يكون خيميائيّا. إنّه يحيل المرأة إلى جنيّة صغيرة بخاريّة، إلى كائن ربّاني وجوهر فيّاض الشّعور، متدفّق العاطفة؛ والمرأة و إن كانت عاشقة، فهي تظلّ مع ذلك.. الأمّ، وعبر هذا الدّور المزدوج، تفصح عن سحر البدايات؛ غير أنّ هذا السّحر يكون فطريّا، فيما تكون الحكمة مكتسبة. حكمة لو لفظنا الكلمات، لن يخفى على أحد أنّ الكلمات هي الأخرى تخاطبنا، وتُـؤثِـر فعل ذلك عبر موشور الغموض. وحين نسحب ذلك على ملكة سبأ، تغدو الحكمة نفيسة بما تطلقه من وميض اشتقاقيّ. لأنّ الحكيم هو ذاك الذي "يحسّ " الأشياء بدنوّ يكاد يكون جسديّا. فتتبادل الحكمة والحسّ حينها مزيّتي أصلهما المشترك، وتسمح بالتعرّف على "حاسّة" حدسيّة ليست غريبة عن الرّغبة. و يتبادر إلى الذّهن هنا كلام روسّو في رواية "إيميل" الذي ألمح فيه إلى أنّ الرّوائح لا تُــؤثِّـر فينا بما تمنحه لنا، وإنّما بفعل ما ننتظره منها. وما يعنيه اللّجوء إلى "القلب المبصر والحكيم" لملك، يمثّل استدعاء للذّكاء العاطفي والحسيّ لرجل. وللدّهاء الأنثوي لحُكمٍ مُدارٍ باقتدار، تنضاف جرأة استثمار غواياته القصوى. فبجسارة وحماسة الشّباب المتّقدة، كانت ملكة سبأ جريئة، فحتّى قبل أن تلتقي سليمان، كانت تعرف أنّها ستمضي إلى أقصى غاية كانت تنشدها، و لو تطلّب منها ذلك السّعي قضاء السنوات الطّوال. كانت ممتثلة لتعاليم "سفر الجامعة" في العهد القديم (اِسع مستجيبا لنداء القلب ووفق ما تراه عيناك)، ولا شيء كان ليصدّها عن ذلك السّعي، فأمعنت بإصرار في متابعة طريقها إلى أقاصي العالم، مدفوعة إلى الأمام بطاقة متوهّجة نحو أفق لا يني يتجدّد، في نهايته يمنح الكثيّب والجبس والنّخل للسّماء الزّرقاء مبرّرا لوجودها. هناك.. كان الصّمت المخيّم على المكان يستحثّها على السّير.. وهنا.. يتبادر إلى الذّهن طبعا نيتشه، الذي كان يرى أنّ الأفكار العظيمة لا تنبثق إلاّ بفعل الترحّل والتّجــوال. ونفس الحماسة الدّينيّة قد تجمع الفرسان وتدفعهم بعناد إلى المضيّ قدما. من هندستهم التخيّليّة المتغيّرة لن تتبقّى غير الرّوح التي تـؤلّف بينهم من فوق، غير رسْمَ مَسّاحِي الأرض المتقلّبين في أرجاءها، وأثر من عزيمة تندمج في إشـراقة العالم. إنّ المعرفة الخرساء لذلك الغموض، تكشف عن حاجة ملحّة إلى الامتثال إلى شريعة سريّة، لأنّ كلّ بحث روحانيّ يستجيب إلى واجب إلزاميّ، والمسيرة إلى سليمان هي أيضاً الصّورة المشخّصة والمجسّدة لقلق عميق، وحرص أبداه ويبديه حتّى زمننا هذا، كبار الضّاربين في الأرض، سواء كانوا حجيجا أو رحّالة، أو بدوا رحّلا أو أولئك الذين يجوبون الآفاق دون توقّف بحثا عن فضاءات أرحب. وحين بلغ مينيليك، ابن ملكة سبأ والملك سليمان سنّ الثّانية والعشرين، وأراد التعرّف على والده، ألقى هو الآخر بنفسه على الطّرقات. ومرّة أخرى سيكون السّـفر هو شرط إدراك الحكمة، ووسيلة لاكتشاف حــذاقة الملك. وكان مينيليك قد رأى كيف نجح والده في تأمين مُلكه، وأمضى معاهدة مع حيرام ملك صور، حتّي يضمن لمملكته التزوّد بخشب الأرز لبناء الهيكل. كما رأى كيف أنّه كان يجلب من مملكة سبأ البخور لتطييب هذا الهيكل. كان مينيليك معجبا، وحتّى يشعر سليمان به وبوالدته، اختلس عقد المعاهدة. ويعيد التّاريخ نفسه وفق نسق متداخل، يوضّح من جيـل إلى آخر، حُكم مَلكٍ لا تفسّر مهارته وحدها ما بلغه من رفعة وعلوّ مقـــــــام. وثمّة جانب سريّ في اعتـرافه في "سفر الجامعة": "لقد كنت بالحكمة شديد الحرص على استكشاف كلّ ما يدور تحت السّماء". ولم تكن لفظة "كلّ" هذه عاديّة. فلعلّها تشير إلى التّنافر، الذي قد يكون خاتم سليمان، الذي يجسّد في ذات الوقت الماء والنّار والهواء والأرض، مثاله الرّمزيّ. ومن يدري.. إن لم يكن لقاء سليمان بالملكة الغريبة ضربا من حساب خيميائيّ، وأملا معقودا على تجربة فريدة، يندمج فيها القريب بالبعيد، ويتزاوج فيها الذّكريّ بالأنثويّ، ويأتلف فيها الجسد والفكر. حكم سليمان الحكم الذي أصدره سليمان وذاع صيته، كان قد صدر عن إرادة التّوفيق بين المتناقضات. ولنتذكّر حكاية تلك المرأة التي ابتليت بفقدان رضيعها، واختلست رضيع امـرأة أخرى أنجبته بعد ثلاثة أيّام. فحين دُعي سليمان لفضّ النّزاع بينهما، أمر بأن يُشطر الطّفل حيّا إلى شطرين، وأن تمنح كلّ امـرأة أحد النّصفين. متأثّرة بذلك الحكم إلى أبعد الحدود، أجابت الأمّ الحقيقيّة للطّفل:"معذرة يا مـولاي..اعطيها هذا الرّضيع حيّا، ولكن لا تقتلوه.."، فيما صاحت الأمّ المدّعية :"اقطعوه.. فلن يكون لي ولا لها..". وأجاب الملك: "أعطوا المرأة الأولى هذا الرّضيع حيّا، إنّها هي الأمّ (كتاب الملوك). نزوع فطريّ إلى الغيريّة فكم من الرقّة والرّهافة تخطف العقل و تأسر الروح. لقد تفكّر سليمـان في الأمر وانتهى إلى حكم حليم.. بصير، إذ أمكنه فصل الحقيقة عن الخداع، وغدا بحكمه الرّشيد ذاك، ملكا حكيما. وينبغي القول هنا إنّ حكمة سليمان لا تنفصل عن الحياة ذاتها، وأنّها تفسح المجال إلى راعي القوم، على عكس ما هي عليه الحال في التّقاليد الشّرقيّة، حيث ينذُر الحكيم نفسه لحياة التزهّد، على هامش كلّ حياة اجتماعيّة، شأنه في ذلك شأن البراهمان الذي تتحدّث عنه مرغريت يورسينار في رواية "مذكّرات هادريان"، الذي أدرك حالة، لا شيء فيها غير جسده، يفصله عن إله حقيقيّ لا جسم له ولا شكـــل، والذي كان هذا البراهمان يتوق إلى الاتّحاد به. فيما تُمثِّل حكمة سليمان المثال المضادّ لفلسفة التجرّد تلك. فملكنا.. له عينان منفتحتان على العالم وعلى البشر الذين من حوله. كان مصيخا إلى الأمّ الملتاعة، ويستقبل بكامل الدّماثة زائرة غريبة، ويقبل بذكاء نصائح رجل الفنّ، مثل المهندس تيريان أدونيرام، حين شـرع في بناء الهيكل. لعلّه كان يريد المراهنة على وجهي الصّورة: الصّورة المجيدة لصرحه العظيم، وصورة التّواضع، بإرادته المعلنة، في أن يجعل ذلك الصّرح فضاء للإنصات والتّواصل والتّبادل، مفتوحا لعموم الشّعب اليهودي بدون استثناء. وقد ابتلي تحديدا في نهاية عهده، حين تناسى مزايا الحوار، ليحتفظ فحسب بقيمته الظّاهرة؛ حينها سيخلط بين الطّموح السّليم والغـرور المتغطرس. و لن يُغفـر له تقصيره حين أحبّ آلهة أخرى، وأثار غضب مولاه الذي سيخاطبه مؤنّبا :"طالما أنّك لم تحفظ عهدي، فإنّي سأنتزع منك الملك".(كتاب الملوك). ويضعنا كلّ ذلك أمام تساؤل: أما كان بالإمكان أن يسفر ذلك النّزوع الطّبيعيّ إلى الغيريّة عن نتائج منحرفة، وهل أنّ الحكمة يمكن أن تتجسّد و بصورة دائمة في شخص واحد؟ لا شكّ في أنّ الرّيبة من ذلك قد ساورت ذهن ملكة سبأ، ولعلّ عودة بطلتنا إلى مملكتها تشكّل اعترافا بذلك : إقرار جانب التّناهي في الإنسان، وذلك هو ما يلامسنا في سيرة الملكة. فجماليّة روح تلك التي قبلت بمحدوديّة من كانت تحبّ، وسلّمت بتناقضاته وضعفه، تبثّ في التمثّـل الذي كان لنا، جاذبيّة منيرة، وتغيّر صورة مجمع عليها، إلى صورة مخلوقة ذات طبيعة جوهريّة. وكما قال نوديي في "دقاق الجنيّة": ليست أرملة سليمان عنوانا للجمال، و إنّما هي تجسيد للحكمة". وليس بالمستبعد أن تكون ملكة سبأ قد أرادت أن تجعلـنا ندرك أنّ ما بلغته من حكمة ليس سوى وعيها بأنّه ثمّة شيء ما يتجاوزنا. لقد أدركت، أنّه وراء المظاهـر، تُخفي الحقيقة وجهها الحقيقيّ، وأن لعبة الجذب والتّنافر التي تميّز المتناقضات تكشف عن وجود تدبير أعلى. فحكمة ملكة سبأ، كما هي حكمة سليمان، تشكّل استكشافا لأسرار الماوراء. وما هو مؤكّد أنّه في اندفاع تلك المسافرة نحو الآخر، وفي نعمة الاستنارة التي أسبغتها عليه، نلتقي نحن بتأرجحنا وبآمالنا المترنّحة. لقد استحالت الأسطورة في المشهد الشّرقيّ لوحة مبهرجة، غير أنّ هذه اللّوحة بقدر ما نحدّق فيها بقدر ما تتفرّس هي فينا. وليس من سبيل للإفلات من "الحقل المرآوي" الذي يتحدّث عنه لاكان، ذلك الحيّز الذي يتمّ فيه تبادل المشاعر- حيث تفقد العبقريّة والحكمة بعضا من ألقها- والذي يجعلنا نواجه إمكانيّة بناء علاقات تبادل مثمرة وآسرة مع الآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©