الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تكون السعادة عبادة.. والعبادة سعادة

20 سبتمبر 2016 23:00
هذه مقدمة لا بد منها قد تطول وقد تقصر وقد تصبح الموضوع كله مثل مقدمة ابن خلدون التي أسست لعلم قائم بذاته هو علم الاجتماع، أو ما سماه عبدالرحمن بن خلدون علم العمران.. فنحن عندما نصدق أو عندما نكذب أيضاً نفقد السيطرة على أقلامنا وحروفنا. والله وحده يعلم الصادق والكاذب، أما نحن فلا نعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا. والصادق والكاذب يستخدمان اللغة نفسها والحروف نفسها، وفي أيامنا هذه يكون الصادق أقل بلاغة وفصاحة من الكاذب، ويكون الكاذب ألحن من الصادق ولا يمكن بحال من الأحوال أن نكون نحن في قدرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نفسها على اكتشاف الصادق والكاذب. فالرسول نفسه حذر الخصمين يأتيانه ويكون أحدهما ألحن من صاحبه رغم أن عليه الحق في حكم الرسول له. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أحكم له بقطعة من النار». وليس أمام المرء إلا أن يقول أو يكتب ما يظن أنه صواب، فإذا تبين له أنه أخطأ تحلى بشجاعة الاعتذار والتصويب. وقد خلق الله الإنسان في كبد. والكبد في ظني يعني المعاناة والمحاولة. فنحن طوال أعمارنا نحاول خيراً أو نحاول شراً. ومن يحاول خيراً ولا يصل ينال أجر المحاولة، ومن يحاول شراً ولا يصل ينجو، أو قد ينجو من الإثم. وإنني أحاول أن أكتب كتابة مودع كما أصلي أو أحاول أن أصلي صلاة مودع، وأعلم أننا جميعاً سنتحول يوم القيامة إلى قراء ولن يكون بيننا كاتب واحد. وكل منا سيقرأ كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وكل منا سيقرأ في كتاب الآخرة ما كتبه وما قاله في الدنيا. وستبلى السرائر ويتبين الرشد من الغي والصدق من الكذب. كما أعلم علم اليقين أنني مؤقت في المكان ومؤقت في الزمان لذلك أقول ما قاله ذو النون المصري: «هذه كلمتي أقولها وأمشي» أو أقولها وأمضي من المكان ومن الزمان.. فأنا اليوم هنا وغداً قد أكون هناك.. وأنا اليوم في الدنيا وقد أكون غداً في الآخرة.. قد أغادر المكان طائعاً أو مرغماً، لكنني لا بد أن أغادر الزمان مرغماً.. وقد يقرأ الناس كلامي في وجودي وقد يقرؤونه في غيابي. ولست أدري، ويبدو أنني لن أدري أبداً، متى يتخلص العرب من رذيلة صارت وباء يفتك بالأمة، وهي رذيلة اعتبار الشكر والإشادة تملقاً ونفاقاً ولو صدق الشاكر المشيد، واعتبار الشكوى والتنديد والرفض والسب شجاعة وبطولة وقوة ولو كذب الشاكي والرافض والمندد. وقد انتشر ذلك الوباء حتى أحجم الشاكرون المشيدون عن الشكر والإشادة خوفاً من اتهامهم بالنفاق والتملق والمداهنة. واندفع الشاكون والرافضون كذباً في غيهم وسبابهم سعياً إلى نيل رضا الناس والحظوة عندهم، فالعرب يعجبون بمن يرفض ويندد ويشكو ويتمرد لأنهم قوم متطرفون. وينصرفون عمن يشكر ويشيد ويوافق ويمدح ويلتزم ولو صدق. وعند العرب يصدق السبابون وإنْ كذبوا، ويكذب الشاكرون الموافقون وإنْ صدقوا. وتلك حكاية أخرى ربما يتسع العمر والوقت لنحكيها. لا أريد أن أكتب عن رحلة الحج مع البعثة الرسمية الإماراتية، فتلك رحلة بيني وبين ربي.. وتلك رحلة لا أحب لقبها (يا حاج) لأنني أراه لقباً غير إسلامي بالمرة، فلماذا يصبح ركن الحج وحده لقباً؟ لماذا لا يُقال لي: المصلي فلان، أو المزكي فلان، أو الصائم فلان، أو الشاهد فلان؟.. ولماذا لم نسمع أو نقرأ لقب: الحاج أبي بكر أو الحاج عمر أو الحاج علي أو الحاج عثمان أو أي حاج آخر من الصحابة والتابعين؟.. إنه لقب الرياء والمباهاة الذي حصل عليه حتى الذين لم يحجوا وارتبط فقط بكبار السن أو بالتوقير والاحترام أو حتى بالثراء.. وحكاية (يا حاج) أيضاً حكاية أخرى وموضوع آخر ربما يتسع الوقت والعمر لنحكيها ونسرد رذيلة الرياء التي طالت كل الأعمال والنُسك والطقوس الدينية في أمتنا العربية، وأمتنا الإسلامية عموماً. لن أكتب عن رحلة الحج، ولكنني أكتب من وحيها.. أكتب عن نظرية السعادة أو فلسفة السعادة الإماراتية، وهي النظرية أو الفلسفة التي لا أظن أن أحداً أحاط بها أو وعاها، وكانت وما زالت الكتابة عنها مجرد رصد أو تسجيل لتصريحات القيادة والمسؤولين، أو هي كتابة الخبر أو كتابة رد الفعل أو الانطباع أو تحصيل الحاصل. وهذه حكاية أخرى أيضاً عن القصور أو التقصير الإعلامي الكبير في الكتابة الرأسية أو العميقة عما يحدث في الإمارات والاكتفاء بالكتابة السطحية أو الأفقية أو كتابة إبراء الذمة، حتى لا يفوتنا الخبر أو التصريح. أو قل هي الكتابة الفوتوغرافية الكاميراتية أو الفلاشية حتى صار ما يجري في الإمارات من طفرات في كل مجال، مجرد نقل لأحداث في الإعلام، لكن لا يوجد عمق ولا تحليل ولا قراءة. وأخشى أن أقول: لا يوجد فهم وإدراك لما يجري.. وأيضاً ربما نكتب عن هذا. نظرية السعادة الإماراتية كما رصدتها في رحلتي أعمق بكثير من استحداث وزارة للسعادة أو وزارة للتسامح، فما حدث أن السعادة في الإمارات أصبحت منظومة شعبية أو سلوكاً شعبياً يومياً ثم استُحدث كيان رسمي لإدارة هذه المنظومة وليس لصناعتها أو خلقها. هذا ما رأيته ورصدته في رحلة الحج، رأيت قوماً يعبدون الله بإسعاد خلقه، رأيت قوماً يريدون أن يكونوا سادة الناس بخدمتهم، يريدون أن يكونوا خير الناس بأن يكونوا أنفعهم للناس، رأيت فريقاً واحداً وعملاً جماعياً ذابت فيه الذاتية والفردية، فأصبح السؤال: ما الذي قيل وليس من الذي قال؟ ما الذي تم فعله وليس من الذي فعل؟.. رأيت الشعار المرفوع: لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.. والمسألة ليست الخدمات والمرافق والوجبات المميزة، ولكن المسألة هي السلوك الراقي والمعاملة التي هي الدين واللين والرفق.. فما دخل الرفق أمراً إلا زانه وما نزع من أمر إلا شانه، والرفق سلوك إماراتي شعبي زان كل شيء في هذا البلد. نظرية السعادة الإماراتية هي ربط الدين بالسعادة، أن يصبح إسعاد الناس عبادة لله، لتصبح العبادة سعادة ولا تصبح عذاباً وعبوساً وتجهماً ومشقة، نظرية السعادة أن تكون السعادة عبادة لتصبح العبادة سعادة. رأيت قوماً يعملون شكراً لله على نعمائه، كما قال الله عز وجل: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) . نظرية السعادة الإماراتية هي التي تجعلك تدعو الله من قلبك وسراً وبظهر الغيب وصدقاً بأن يديم الله أمن وأمان واستقرار الإمارات. تدعو وكأنك تدعو لنفسك وأسرتك. فأمان الإمارات أمانك وأمنها أمنك واستقرارها استقرارك واستقرار عائلتك. السعادة الإماراتية ليست أن يروي لك الناس النكات لتضحك أو ينتجوا لك أفلاماً كوميدية ولكن السعادة من الإيمان والسعادة من الدين والسعادة نهر إماراتي ما أنْ تشرب منه شربة حتى تكون إماراتي الهوية والهوى.. وتلك عبقرية لا مثيل لها في العالم أن تكون لك جنسية وطن آخر تحبه وأن تكون في الوقت ذاته إماراتي الهوية والهوى. السعادة نظرية متفردة في الإمارات، جعلت هذا البلد واحة برد وسلام وسط النار العربية التي أشعلها النمارذة، فأحرقت الأخضر واليابس، وكانت برداً وسلاماً على الإمارات.. لأن الإمارات هوى وهوية ملايين البشر في أنحاء العالم، يدعون لها كما يدعون لأنفسهم بالأمن والأمان والاستقرار. وهوية وهوى الإمارات ليسا مرتبطين بالبقاء فيها والإقامة في ربوعها، بل هما دائمان حتى لمن غادروها طوعاً أو كرهاً. رأيت قوماً إذا سألت أحدهم: أنت تسعد الناس فما الذي يسعد من يسعد الناس؟ فيقول: يسعده أن يكون الناس سعداء. رأيت قوماً يسعدون بالعطاء أضعاف سعادة من يأخذ. رأيت قوماً ارتقت الأخوة عندهم من أخوة الوطن وأخوة الدين إلى أخوة الإنسانية. لا يقولون: أخي المواطن أو أخي المسلم ولكن يقولون: أخي الإنسان.. لذلك صارت الإمارات بلد كل إنسان مخلص وملتزم، وهوى وهوية كل إنسان محب معطاء مبدع. السعادة في الإمارات من الإيمان.. فأهل الإمارات يحققون لك أموراً ثلاثة ذكرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تجعلك تحوز الدنيا بحذافيرها.. وتلك هي السعادة أن تحوز الدنيا بحذافيرها بأن تصبح آمناً في سربك، معافى في بدنك، عندك قوت يومك، تصبح وتمسي وتبيت رافلاً في الأمن والعافية، وقوت اليوم. السعادة في الإمارات ليست فقط أن يسعدوك أنت بشكل شخصي، ولكن الأهم أن يأخذوا على يد من يعكر سعادتك ويعبث بأمنك وعافيتك وقوت يومك.. والترتيب في الحديث الشريف مقصود.. فالأمن أولاً وهذا ما تحققه الإمارات، فلا عافية ولا عيش هنيئاً بلا أمن.. والذي يعبث بالأمن إنما قرر أن يخرج طائعاً من منظومة سعادة الإمارات.. وبقدر اللين والرفق مع المخلص الملتزم المبدع، يكون الحزم والشدة مع المتجاوز والعابث. فالسعادة لها جناحان ولا تحلق من دونهما هما الرفق والشدة. الثواب والعقاب. ولا يمكن لوطن أن ينعم بما تنعم به الإمارات إذا أمن العابث العقوبة. وإذا يئس الملتزم من الثواب. لا أظن بعد ما كتبت أنني أحطت بنظرية السعادة الإماراتية التي استلهمت معرفتها من رحلتي مع بعثة الحج الرسمية. ولكني أزعم أنني فتحت الباب لمن يود أن يضيف أو يجبر كسري ويرتق ما قصرت فيه.. والخلاصة أنني خرجت من رحلتي بأن أهل الإمارات جعلوا السعادة عبادة، فصارت العبادة سعادة. *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©