السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الثمن الباهظ لـ «الخلود»

الثمن الباهظ لـ «الخلود»
21 سبتمبر 2016 15:14
الحلم القديم الذي لازم الإنسان لإدراك الخلود عاد من جديد، غير أننا اليوم نبحث عن إكسير الحياة بوساطة التكنولوجيا الفائقة والأقراص السحرية لهرمونات النمو التي ستعمل على تأخير الشيخوخة، تلكم هي الموضة الجديدة السائدة هذه الأيام في أوروبا وأميركا: العيش حياة طويلة بصحة وشباب دائم. ما عادت الشيخوخة تلك المرحلة الطبيعية التي يبلغها الإنسان في آخر مراحل عمره، والتي عليه أن يتقبلها برضى وسعادة. يتم النظر اليوم في المجتمعات الغربية إلى الشيخوخة كمجرد مرض، مثلها مثل بقية الأمراض التي ينبغي تكثيف الأبحاث من أجل علاجها. أما اتجاه ما بعد الإنسانية، فهو يذهب أبعد من هذا بكثير، إنه يعتبر أن الإنسان بات قريباً من الخلود. هل بات حلم الخلود الآن مع الثورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة على مرمى حجر من الإنسان؟ هل إكسير الحياة هو هذه الخوارزميات الرقمية التي سنحمل فيها ذاكرتنا وأفكارنا؟ أو هي تكنولوجيا النانو التي ستمكننا من صنع كمبيوترات صغيرة الحجم قادرة على معالجة أجسامنا من كل الأمراض والأورام السرطانية ؟ (1) قد نجادل كثيراً في مدى جدية هذا الأمر، غير أن ما هو مؤكد هو أن الأبحاث الجارية الآن تسير بشكل متسارع من أجل قلب كل معتقداتنا البائدة حول الحياة والإنسان. الخلود داخل كمبيوتر أطروحة رايموند كورتزفايل هي أن التطور وهو عملية ذكية أوجدنا نحن، أي أوجد نموذجاً راقياً من الذكاء. ونحن كذلك علينا أن نعمل على إيجاد ذكاء أعقد من ذكائنا، (2) إن التكنولوجيا إذن ستستكمل عمل الطبيعة وهي ستقوم بذلك بكفاءة أعلى وفي مدة زمنية أقصر، سنختصر آلافاً بل مليارات السنين التي تتطلبها مدة التطور في تجارب مخبرية محدودة المدة. كما أننا سنتمكن من تجاوز المرض والعجز والشيخوخة والموت الذي تواجهنا به الطبيعة. هذه هي العملية التي يسميها كورتزفايل بـ»تطور التطور»، (3) المجهودات المبذولة في هذا الاتجاه من شأنها أن تعمل على إيجاد ذكاء يتفوق على الإنسان. الأبحاث في مجال الذكاء الصناعي في تطور متسارع، فالكمبيوترات كما يؤكد قانون مور تتطور كل 18 شهراً باتجاه ذاكرة أكبر وسرعة في معالجة المعلومات بطريقة أسرع. ولكننا مع ذلك ما زلنا نعتبر أن هذا الذكاء الصناعي ضعيف، ذلك أن الكمبيوترات التي نصنعها اليوم، نزودها ببرامج جاهزة ونحن نريد الوصول إلى كمبيوترات تستطيع هي نفسها أن تزود نفسها ببرامجها الخاصة، وإذا وصلنا إلى تحقيق هذا الهدف فإننا سنكون قد وصلنا إلى « الذكاء الصناعي القوي « أي إلى ذكاء صناعي يستطيع أن يعي ذاته تماماً كما هو الوعي البشري. إن هذا هو ما يمكن أن نلمسه مثلا في حال الروبوتات البشرية العالية الدقة التي تمكنت بعض الشركات في أوروبا وأميركا واليابان من صنعها وهي روبوتات غير عادية تتجاوز بكثير ما نعرفه عن الآلات المبرمجة والذكية. سنكتفي هنا بذكر نموذجين رغم أنها كثيرة وفي تطور مستمر، هما: حالة (بنا - 48 BiNA ) وهي واحدة من أشهر هذه الحالات، وهو روبوت غريب تمت برمجة أزيد من 100 ساعة من الذكريات الخاصة بمارتين روتبلات في ذاكرته. كما يمكنه أن يدخل في محادثة مطولة تنسيك أنك تتحدث مع آلة لأنه يمتلك ذاكرة شخص حقيقي. هناك أيضاً الروبوت مهم Ham الذي يمتلك القدرة على إبداء كافة التعبيرات البشرية بوجهه. ويسمى هذا الأمر في أدبيات ما بعد الإنسانية بتحميل الدماغ البشري، وهي تقنية تقتضي نقل جميع المعلومات الموجودة في دماغ إنساني نحو كمبيوتر متطور. هكذا في حالة موت الشخص يستمر دماغه في التواجد داخل هذا الكمبيوتر ومواصلة التفكير بشكل طبيعي. إنه نوع من «الخلود الرقمي» متوصل إليه بوساطة كمبيوتر يحاكي الشبكة العصبية للإنسان. ويُعتقد أننا سنبلغ هذا الهدف بشكل كلي سنة 2045 بحيث نتمكن من تحميل كامل عقولنا بكل ما تتضمنه من أفكار وذكريات ومشاعر على الكمبيوتر و بالتالي بلوغ «الحياة الأبدية» داخل كمبيوتر. الخلود الجسدي الخلود الرقمي يشق طريقه نحو الأمام، ولكن ماذا عن الخلود الجسدي؟ ضمن أفكار ما بعد الإنسانية هذا أيضاً ليس بالأمر المستبعد. نعم يمكننا أن نخلد ليس فقط كفكر ولكن كأجساد وذلك بطريقتين: أولاً: عن طريق ترقية الجسد بوساطة دمجه مع الآلات والرقائق والشبكات العصبية الصناعية. لنتذكر هنا مثلا ما قام به الفنان الأسترالي Stelarc حينما أجرى عملية جراحية في يده، زرع بواسطتها أذناً صناعية تمكنه من متابعة ما يحدث في الشبكة العنكبوتية..أو ما قام به العالم البريطاني كيفن وارويك kevin warwick الذي ينظر إليه باعتباره أول سايبورغ زرع في يده موصلات ورقائق تسمح بتفاعل شبكته العصبية مع الكمبيوترات. وباختصار الجسد البشري الطبيعي قد عفا عليه الزمان وينبغي تعزيزه بوساطة التكنولوجيا. ثانياً: عن طريق الهندسة الجينية والتأثير على الخلايا الجدعية، أو عن طريق دمج بعض المورثات الحيوانية في الحمض النووي البشري. منذ ظهور الطب سواء في صورته العتيقة مع الشعوب القديمة أو في صورته الحديثة كان يقتصر فقط على تقويم عمل الطبيعة، أي في مساعدتها على أداء عملها بشكل عادي وتجاوز تعثراتها. كان هذا فيما مضى، أما اليوم فالطب يعمل على تجاوز الطبيعة العادية وخلق طبيعة جديدة لم تكن معطاة من قبل. كل جهود مراكز البحث في مجال الهندسة الجينية تضع هدفاً واضحاً لها اليوم. إنه رفع معدل الأمل في الحياة تدريجياً إلى غاية الوصول إلى الخلود. الكثير من الأشخاص حول العالم ـ بالخصوص أولئك الذين يؤمنون بأفكار اتجاه ما بعد الإنسانية ـ يعتقدون أن هذا الهدف بات قريباً، وكما يحلو لصاحب كتاب « موت الموت « 4 لورون أليكساندر أن يردد دائماً في محاضراته فإن الطفل الذي سيعيش ألف سنة قد ولد الآن. ولكن ماذا سيحل بمفهوم الذات ؟ بعد كل هذه التجارب والتعديلات البيولوجية والرقمية، هل سنظل نحن أنفسنا محافظين على هوية شخصنا ؟ إن التغيرات التي من المنتظر أن تحصل في الهوية البشرية، من شأنها أن تطبع الوجود البشري برمته بطابع غير مسبوق. لقد اعتدنا على الموت والألم والرغبة والخطأ أي ما كان يدعوه الفلاسفة بشرط الوجود البشري، ألا وهو التناهي فإذا كان مقدراً للتقدم التكنولوجيا أن تتجاوز هذا الشرط فهل نحن مستعدون لتقبل ذلك ؟ أي هل نحن مستعدون للعيش في عالم يخلو من الموت والألم والرغبة. هل سنتقبل ككائنات ما بعد إنسانية أن نعيش ذلك الحلم القديم بالخلود الأبدي ؟ لنلخص ما قلناه سابقاً: الحديث عن الخلود لم يعد يجري ضمن الدائرة الروحية الإيمانية كما كان الأمر ضمن كافة الديانات. يؤكد اتجاه ما بعد الإنسانية أن المقصود هنا بالخلود ثلاثة أشياء على الأقل: ـ ترقية الإنسان عن طريق دمج رقائق السيليكون في دماغه وفي أجهزته العصبية. ـ تغيير البنية الجينية للإنسان عن طريق التأثير المباشر على الحمض النووي. ـ تطوير الذكاء الصناعي ودمجه مع الذكاء البشري حتى يصيرا شيئاً واحداً. هذه هي الطرق التي يعمدها اتجاه ما بعد الإنسانية من أجل التغلب على العجز والمحدودية التي يعرفها التطور الطبيعي. إن الهدف المرحلي الذي يتم تسويقه إعلامياً هو إطالة مدى الحياة البشرية la longévité لكن الهدف البعيد هو إدراك الخلود، غير أن هذا لن يكون من دون ثمن، بل قد يكون المرور إلى هذه المرحة يتطلب إلغاء الإنسان لذاته. مخاوف الكثير من الباحثين يدقون ناقوس الخطر بخصوص الشرخ الذي يمكن أن تحدثه ثورة التكنولوجيا الفائقة في المجتمع البشري. لقد لاحظنا كيف أن اتجاه ما بعد الإنسانية هو اتجاه خاص يشرف عليه ثلة من الباحثين الذين يؤمنون بضرورة تجاوز البشرية لذاتها. لكن نتائج البحوث التي سيصلون إليها لن تطال الجميع بل سيستفيد منها فقط شريحة معينة من البشر. وقد سبق لجان ميشيل بنيي j michel Besnier أحد الفلاسفة القلائل الذين ينتقدون بشدة هذا الاتجاه من التحذير من هذه الطبقية البيولوجية الجديدة. أما بتير ديامانديس وهو المؤسس الثاني إلى جانب راي كورتزفايل لجامعة المفردة فهو يؤكد أن الأبحاث في مجال الهندسة الجينية والخلايا الجذعية والذكاء الصناعي، ستتجاوز قدرة الدول نفسها على السيطرة عليها، وذلك ما دام أن هؤلاء بإمكانهم دائماً البحث عن أماكن أخرى يمارسون فيها أبحاثهم في حالة ما إذا تم التضييق عليهم في بلدانهم الأصلية. صحيح أننا سنرقي الإنسان، ولكن المجهودات تنصب فقط على القدرات المادية لجسده، ولكن ماذا عن القدرات الإنسانية والروحية ؟ ماذا لو قام مثلا ديكتاتور بتطبيق هذه التقنيات التي تعمل على تطوير القدرات الجسدية للإنسان في المجال العسكري ؟ لا شك أننا سنصل إلى ذلك الجندي الذي لا يقهر، إلى ذلك الجيش الذي يمتلك سلطة مطلقة في التحكم والسيطرة. كيفما كان الحال الصراع مرير بين اتجاه ما بعد الإنسانية والمحافظين البيولوجيين، الذين يريدون وضع حدود لتدخل الإنسان في تغيير بنية الكائن الحي الطبيعي. الثمن الذي علينا أن ندفعه مقابل الخلود غال جداً. إنه يتعلق بموت الإنسان الحالي بنهاية ما يسميه كورتزفايل بالإنسان 01 كي نصل إلى الإنسان 02 أي الإنسان المعدل جينياً، السايبورغ الخالد المرقى بوساطة تكنولوجيا علوم NBCI. علينا أن نقول وداعاً للإنسانية الحالية البائدة والتقليدية إذا ما رغبنا فعلا في الوصول إلى الخلود. مشروع كاليكو الممون من طرف غوغل وضع هدفاً له هو قتل الموت، ولكن إذا ما تمكنت الأبحاث من تحقيق هذا الهدف ألا نكون بذلك قد قتلنا الإنسان ذاته. الأمر يتعلق بقرار مصيري سيغير في طبيعة الوجود الإنساني. نحن هنا نتحدث عن « كينونة « جديدة إذا ما جاز لنا استعمال المفردات العزيزة على هيدغر. لقد عودنا العلم على تجاوز الحدود التي وضعتنا فيها الطبيعية، فهل سنستطيع اليوم بفضل إغراءات ثورة التكنولوجيا الفائقة الذهاب أبعد حتى مما كنا نحلم بالوصول إليه ألا وهو الخلود ؟ هل يمكن أن نهرب من قدرنا الذي جعلنا كائنات فانية ؟ ما هو مؤكد بالنسبة لاتجاه ما بعد الإنسانية هو أن الخلود بات على الأبواب، المسألة هي مسألة توقيت فقط، بقي علينا أن نعرف الثمن الذي على البشرية أن تدفعه مقابل ذلك. طبقيّة بيولوجيّة جان ميشيل بنييه، هو أحد الفلاسفة القلائل الذين ينتقدون بشدة نتائج البحوث التي لن تطال الجميع بل ستستفيد منها فقط شريحة معينة من البشر. وقد سبق له وحذر من هذه الطبقية البيولوجية الجديدة. إن الثمن الذي علينا أن ندفعه مقابل الخلود غال جدا. إنه يتعلق بموت الإنسان الحالي في نهاية ما يسميه كورتزفايل بالإنسان 01 كي نصل إلى الإنسان 02 أي الإنسان المعدل جينياً، السايبورغ الخالد المرقى بوساطة تكنولوجيا علوم NBCI. علينا أن نقول وداعا للإنسانية الحالية البائدة والتقليدية إذا ما رغبنا فعلاً في الوصول إلى الخلود. .............................................. الهوامش 1ـ مقال تحت عنوان كم قريبون نحن من الخلود ؟ بموقع أنا أصدق العلم http:/‏‏/‏‏ibelieveinsci.com/‏‏?p=1482 2 ـ راي كيرزويل: عصر الآلات الروحية ـ عندما تتخطى الكمبيوترات الذكاء البشري، ترجمة عزت عامر، نشر كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة 2009 ص 64 3 ـ نفس المرجع السابق ص 66 4 ـ lorent alexendre la Mort de la Mort EDT 2011 Jean-Claude Lattès
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©