الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«النّاتئ والمنتشر» عند بارت

«النّاتئ والمنتشر» عند بارت
21 سبتمبر 2016 15:15
ظهر مفهوما «النّاتئ والمنتشر» في كتاب رولان بارت Roland barthes «الحجرة المضيئة». وهما مفهومان من مفاهيم القراءة والتّأويل البارتي أجراهما على الصّورة الفوتوغرافيّة. وقد عرّفهما على هذا النّحو: «إنّه هو [أي النّاتئ] الّذي ينطلق من المشهد كمثل سهم ويأتي ليخترقني. تتوافر اللاّتينيّة على مفردة لتحديد هذا الجرح، هذه اللّسعة، هذه السّمة المحقّقة بأداة مدبّبة، وهذه المفردة تناسبني، خصوصاً أنّها تحيل على فكرة التّنقيط، وأنّ الصّور الّتي أتحدّث عنها لهي بالفعل منقّطة، بل وحتّى مبقّعة أحياناً، بهذه النّقاط الأساسيّة. إنّ هذه السّمات، تحديداً، هذه الجراح، لهي نقاط. وإذن فسأسمّي هذا العنصر الثّاني الّذي يجيء «ليزعج» المنتشر studium، أقول سأسمّيه «النّاتئ»le punctum ذلك أنّ المفردة الأخيرة تفيد أيضاً «زرقة» [لسعة إبرة أو مزراق]، وثقباً صغيراً، ولحظة هيّنة، وقطعاً ضئيلاً، وكذلك رمية نرد. إنّ «ناتئ» صورة، ما هو إلاّ هذه الصّدفة الّتي تستهدفني انطلاقاً منه». ثمّ يضيف لتعريف المنتشر studium «بعد أن استعرضت على هذا النّحو الاهتمامات العاقلة الّتي تثيرها فيّ بعض الصّور، يبدو لي الآن أنّ «المنتشر» عندما لا يخترقه أو يجلده أو يرقّطه «ناتئ» معيّن يجيء ليجتذبني ويحرجني، فإنّه، أي «المنتشر» يتمخّض عن نمط من الصّور جدّ شائع (الأكثر شيوعاً في العالم)، نمط ربّما أمكن دعوته بـ «الصّورة التّوحيديّة image unitaire». يقابل بارت في كتابه «الحجرة المضيئة» بين «النّاتئ» و«المنتشر» بتأويل النّاتئ عبر «الانتقال من «point» (النّقطة) إلى «me poindre» (يستهدفني أو يهجم عليّ)، ومن ثمّ إلى le poingnant (ما يهاجم ويجرح)». ويؤكّد تأويل دريدا في مقالته الشّهيرة «ميتات رولان بارت» مفهوم «النّاتئ». فهو عنده هذا التّفصيل الصّغير الّذي ينبثق من حقل «المنتشر» الواسع، فلا ينتظم بانبثاقه المباغت في شفرته. انطلاقاً من هذا التّعريف المعتصر تنهض محاولتنا. فنحن نسعى في هذا العمل إلى بيان كيفيّات اختبار مفهومي النّاتئ والمنتشر في مجالي السّيميائيّات الكبيرين: اللّفظي والمرئيّ، وذلك بإجرائهما على مثالين مختلفين ينتميان إلى مجالين متباعدين هما الصّورة والأدب. في الثورة التونسية ينتمي المثال الأوّل إلى مجال المرئيّ. والمدوّنة المعتمدة في الإجراء هي أرشيف صور الثّورة التّونسيّة. فقد بيّن التّأمّل في معظم صور الثّورة التّونسيّة أنّها من جنس «الصّورة التّوحيديّة image unitaire». وفي هذا الضّرب من الصّورة لا يعتمد على تفصيل صغير ناتئ تلتقطه العين بلا جهد، وإنّما على المدى المنتشر للصّورة كلّه. وهو مدى يقتضي القبضُ عليه جهداً في التّحليل منتشراً بدوره. وتنهض هذه «الصّور التّوحيديّة» على مبدأ المنتشر بسبب طموحها إلى الإحاطة بالجموع في كثرتها المتكثّرة واتّساعها الفضائيّ. فعندما يعظم الجسم بأعداده المتكاثرة وامتداده الهائل على الفضاء العموميّ، تتّسع الصّورة بالضّرورة، لتشمل كلّ الأطراف المنتشرة في هذا الفضاء. هذا الاتّساع هو الّذي يمثّل محتوى «زاوية نظر الشّعب»، أمّا «المنتشر»، فهو المبدأ الّذي يمثّل شكل ذلك المحتوى. وفي هذا الضّرب من الصّورة لا يعتمد على تفصيل صغير ناتئ تلتقطه العين بلا جهد، وإنّما على المدى المنتشر للصّورة كلّه. وهو مدى يقتضي القبضُ عليه جهداً في التّحليل منتشراً بدوره. لنبيّن أنّ جانباً من هذه الصّور قد التقطت في بعض الأحيان من «زاوية نظر الجموع le point de vue des masses»، أي من «زاوية نظر الجمهور». وهي زاوية نظر مختلفة عن «زاوية نظر الدّولة» ذاتها، ومختلفة عن «زاوية نظر طبقة معيّنة»، أو زاوية نظر حكومة «شعبيّة» أو «ديمقراطيّة» أو «زاوية نظر حزبيّة». هذه الصّور قد التقطت من «زاوية نظر الشّعب» فحسب، ومن ثمّة كانت جدّتها وطرافتها. ولكن ما الّذي يحملنا على اعتبار هذه الصّور قد التقطت من «زاوية نظر الشّعب»؟ لا تعني عبارة «زاوية نظر الشّعب» في هذا السّياق الفوتوغرافيّ أنّ الشّعب قد التقط هذه الصّور بنفسه عن نفسه، فكان الذّات والموضوع معاً، وإنّما نعني بالتّحديد أنّ أولئك الّذين التقطوا هذه الصّور المختلفة قد أعادوا توزيع المشهد المرئيّ وتشكيله على نحو مختلف لبناء «ذات» مرئيّة جديدة تسمّى الشّعب. ولكن بأيّ معنى يمكننا اعتبار هذه الجموع الّتي توحّدت في الصّورة هي «ذات» الشّعب؟ فالشّعب بأسره لا يمكنه أن يعتصر في ذات فرديّة، لأنّه ليس ذاتاً، وليس له ذات، فهو «جسم بلا أعضاء» على حدّ عبارة دولوز Deleuze، دون «أنا» عميق، ولا انسجام فكريّ، ولا ذاكرة مشتركة تؤسّس هويّة واحدة وموحّدة. وإذا سلّمنا بأنّ الشّعب مجرّد من كلّ ذات، فإنّ ما تحاول بناءه الصّور الملتقطة هو هذه الذّاتيّة الجديدة الّتي تذوب فيها كلّ ذات في جموع الذّوات. ومن ثمّة غاب عنها كلّ النّجوم والأبطال والمشاهير، فلا شيء تظهره هذه الصّور سوى جسم الشّعب الّذي صار يملأ فضاء المدينة ويحتلّه. إنّ ما تستحضره هذه الصّور هو حضور présence الجموع الطّاغي، وهو حضور يستحيل تمثيله، بما أنّه لا يمكن تمثيل حدث تدفّق الجموع وقد انتشرت في كامل الفضاء العموميّ. فما لا يمكن تمثيله بالصّورة في هذا الموضع هو الشّعب بطمّ طميمه. فهو الموضوع الّذي كبتته الصّور لأنّه لا يمكن أن يستحضر، ولا أن يمثّل. بيد أنّ ما مثّلته الصّور في حقيقة الأمر لا علاقة له بالشّعب بوصفه «جسماً بلا أعضاء»، فهذا الجسم بطبعه موضوع مستحيل التّمثيل. فالصّور من هذا المنظور تكبت لأنّها لا تنتقي من جسم الشّعب إلاّ ما كان بانياً لـ «زاوية نظر الشّعب» ومبنيّاً بها في الوقت نفسه. فما يبني «زاوية نظر الشّعب» هو فحسب ما يعاد تمثيله بالصّورة، أمّا ما لا يبني زاوية النّظر تلك، فيكبت من الصّورة فلا يلتقط. ولكنّها تبني بالعناصر التي التقطت نظرة من أخذ تلك الصّور، ونظرة من ينظر إلى تلك الصّور. وهي بذلك تمثّل موضوعاً لا علاقة له بجسم الشّعب الواقعيّ بقدر ما له علاقة بـ «زاوية نظر الشّعب». وليست زاوية النّظر هذه ذاتيّة، لأنّ الّذين التقطوا تلك الصّور قد كانت صورة الشّعب في عيونهم، وكانوا في الآن نفسه داخل الصّورة. فـ «اللّوحة توجد بالتّأكيد في عيني، أمّا أنا فموجود في اللّوحة» كما بيّن لاكان Lacan في بعض ندواته. وهذه الجدليّة بين الدّاخل والخارج ينبغي أن تفهم على أنّ نظرة الذّات مسجّلة دائماً في الموضوع المدرك المعاين. فليس ملتقط الصّورة معايناً خارجيّاً يمكنه أن يحيط بالواقع في كلّيته، وإنّما هو في وضع انعكاسيّ réflexif مندمج في الصّورة الّتي التقطها. فهو في وضع مزدوج، خارج الصّورة وداخلها في الآن نفسه. بهذا التّصوّر نفهم هذه العبارة «زاوية نظر الشّعب». ولكن هل يوجد في داخل dedans الصّورة، (أو الصّور) من العناصر ما يقودنا إلى تلك الزّاوية المخصوصة، «زاوية نظر الشّعب»؟ إنّ المتأمّل في أرشيف صور الثّورة التّونسيّة لا بدّ أن يلاحظ أنّ أطرف صورها على الإطلاق هي الّتي تآلف فيها المبدآن، «المنتشر» و«النّاتئ»، معاً. وقد حصل هذا التّوليف بظهور عناصر «مزعجة» «وقحة» «مباغتة» تربك هدوء الصّورة ووداعتها، ولكنّها لم تؤثّر في محتوى «زاوية نظر الشّعب»، وإنّما وهبته شكلاً جديداً هو شكل النّاتئ. هذه العناصر قليلة في الواقع، إلاّ أنّ تكرّر ورودها على نحو متفرّق في بعض الصّور النّادرة، يلفت الانتباه، ويجذب العين بسبب تقحّمه مجال الصّورة، أو نتوئه، أو غرابته، فهو يخزها ويستثيرها ببروزه في غير موضعه. هذا العنصر نسمّيه «النّابي»، وهو عنصر وقح لا يظهر إلاّ في المواضع الّتي لا نتوقّع ظهوره فيها. ولكنّه بصفة عامّة عنصر لا يبرز إلاّ في نوع من الصّور محكوم بمبدأ «النّاتئ» le punctum. من هذه العناصر النّاتئة، نجد الأعلام والأيدي الكثيرة المرتفعة. ولكنّ أندرها صورة القفص وصور «الخبز» الّذي رفعته بعض الأيدي الثّائرة. فكيف ينبغي أن نفهم، بل كيف نقرأ هذه الصّور الّتي برز فيها هذا التّفصيل الصّغير، وظهر في قلب الصّورة بإلحاح متكرّر مثل استعارة مستبدّة؟ يلفت هذا العنصر العنيد، هذا «الخبز المتوحّش»، العين إليه لأنّه عنصر غير موجود في محلّه الأصليّ. فقد كان من المفروض أن يكون في الموضع الّذي يذهب النّاس إليه لشرائه وأن يكون جزءاً من مشهد يوميّ متكرّر في مجتمع الاستهلاك. إنّ حضور «الخبز» في قلب الصّور يسهم في بناء «زاوية نظر الشّعب» على نحو فريد طريف وتشكيلها باعتماد مبدأ النّاتئ. فـ «الخبز» هاهنا هو هذا التّفصيل النّاتئ الوقح لأنّه لم يوجد في محلّه الأصليّ، ولم يظهر داخل مشهده اليوميّ. فهو هذا الموضوع الّذي يصيب الذّات ويضجرها ويربكها ويصدمها، فالخبز في هذه الصّور هو هذا الموضوع المعروض على الأنظار في بعده الأشدّ جذريّة، لأنّه يتحدّى ويعارض ويجعل مجرى الأشياء الوديع متهيّجاً. لقد كان من المفروض أن يكون «الخبز» موضوعاً جامداً منضّداً منتظماً في منظومة السّلع المبذولة للعرض والاستهلاك. إلاّ أنّه بدا في هذه الصّور يضجّ حركة لأنّه يستمدّ عنفها وقوّتها من حركة الجماهير نفسها. فماذا نسمّي هذا الموضوع الّذي يدغدغ أبصارنا ويخزها ويحفّزها على الإمعان في النّظر؟ إنّه «الموضوع البارالاكسيّ L›objet parallaxique». لنذكّر بأنّ التّعريف الشّائع لـ «بارالاكسparallaxe» هو انتقال الموضوع بتغيير موضعه في إطار محدّد بسبب تغيّر حَدَثَ في زاوية العيان، وهو ما يوفّر زاوية نظر جديدة. غير أنّ هذا الاختلاف الملحوظ ليس ذاتيّاً بسبب معاينة الموضوع من موقعين مختلفين، أو زاويتي نظر متباينتين، وإنّما هو اختلاف يحدث بواسطة الذّات والموضوع معاً. من ذلك أنّ أيّ تغيّر «إيبستمولوجيّ» يجدّ في زاوية نظر الذّات، إنّما يترجم دائماً تغيّراً أنطولوجيّاً في الموضوع. فنحن لم نعد ننظر إلى هذا «الخبز» الّذي ظهر في الصّورة وقد رفعته أيدي المتظاهرين على أنّه خبز طعامنا اليوميّ، وإنّما هو هذا «الخبز المتوحّش»، هذا «الخبز الحافي» الّذي بمجرّد انتقاله إلى «الأغورا»، إلى الفضاء العموميّ السّياسيّ، قد غيّر من زاوية العيان فصرنا ننظر إليه على أنّه أكثر من خبز، أو على أنّه خبز قد فقد ماهيته (بوصفه طعاماً أعدّ للأكل)، فأصبح خبزاً آخر، بلا ماهية، لأنّه لم يعد موضوعاً للاستهلاك. وبفقدان ماهيته الغذائيّة الأولى، صار الخبز في تلك الصّور «موضوعاً بارالاكسيّاً»، أي الموضوع الّذي التقط لبناء «زاوية نظر الشّعب». في أدب الجاحظ أمّا المثال الثّاني، فينتمي إلى مجال الأدب، وتحديداً أدب الجاحظ. فقد حاولنا قراءة أدبه انطلاقاً من مفهوم النّاتئ، انطلاقاً من جحوظ عين الجاحظ بوصفها ناتئاً لا يتوقّف إلاّ أمام التّفاصيل الصّغيرة الّتي تخز عينه، فـ«تجحظ» من فرط عجبها وتعجّبها. غير أنّ ما نبحث عنه في أدب الجاحظ هو هذا النّاتئ في نصوصه لا في عينيه، أي هذا الذي كان شرطاً لإمكان الكتاب، وشرطاً لهذا السّلوك الكتابيّ، وشرطاً لهذا النّشاط البصريّ المفرط في دهشته، هذه الدّهشة التي من وسائل بيانها الكتاب ومن مستلزمات ظهورها الكتابة. لا يكفي الفرد أن يكون كلفاً بالكتب حتّى يضحي فرداً كتابيّاً، إنّما يلزمه إلى جانب ذلك كلّه أن يكون جاحظاً، جاحظ العينين، لا لتشويه في الخلقة أو لخطأ من أخطاء الطّبيعة، وإنّما لشطط في البروز من جرّاء الإفراط من العجب. ليس العجب كما شاع في المأثور الدّهشةَ ممّا لم يعرف سببه، إنّما العجب هو هذا الإفراط في النّتوء، هذه العلامة الجسديّة المتشنّجة المؤوّلة لحالة الدّهشة، هذه النّصبة النّاطقة بعجبها، هذا الدّليل الذي يستدلّ على الحكمة. إنّ هذا النّتوء هو تعبير عن سلوك بصريّ جديد، عن حالة ملازمة للفرد الكتابيّ، الفرد المندهش الذي من فرط الدّهشة والعجب نتأت عينه، فصارت جاحظة، دائمة الجحوظ. إنّ هذا النّتوء الذي أحرج قرّاء الجاحظ القدامى، إنّما هو هذا النّاتئ في نصوصه لا في عينيه، أي هذا الذي كان شرطاً لإمكان الكتاب، وشرطاً لهذا النّشاط البصريّ المفرط في دهشته، هذه الدّهشة التي من وسائل بيانها الكتاب ومن مستلزمات ظهورها الكتابة. العين في نصّ الجاحظ هي التي تؤسّس الكتاب، وتجعل الكتابة ممكنة. العين هي التي تفتح المعنى على المعنى، أو على أصل المعنى وينبوعه. العين هي تيولوجيا المعنى، وهي أيضاً هذا الانتقال بالنّشاط الكتابيّ الجديد من دليل يُرى بالعين فقط، عين الحسّ إلى دليل يرى بالعقل وحده، عين العقل. ولمّا كان العقل عند الجاحظ آلة الاستدلال، فإنّ الإنسان الكتابيّ هو هذا الدّليل الذي يستدلّ بعقله، ويكتب دهشته، أو انفتاح المعنى على الكتاب الأوّل، ويؤسّس فعل الكتابة بوصفها كتابة ثانية تقنيّة على كتابة أولى Originaire. ليست الكتابة الثّانية سوى تقنية تذكّريّة، إنّها خطّ وتدوين. الكتابة الأولى هي الحرف الرّياضي، الشّيء الطّبيعيّ، الشّيء ونصبته، كتاب الله. يستشهد الجاحظ بهذه الآية: وقد قال الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ مَا فِي اَلأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَاَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ». والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلّف من الحروف، وإنّما يريد النّعم والأعاجيب والصّفات وما أشبه ذلك. فإنّ كلاً من هذه الفنون لو وقف عليه رجل رقيق اللّسان صافي الذّهن، صحيح الفكر تامّ الأداة، لما برح أن تحسره المعاني وتغمره الحكم. (الجاحظ، كتاب الحيوان، ج1، ص. 209 210). ما يلفت الانتباه في هذا الشّاهد، ليس تأويل الجاحظ وإنّما سلوك الإنسان الكتابي وهو يترجم العبارة القرآنيّة، أو الملفوظ المقدّس بمعرفة كتابيّة تنفي مادّية الدّليل الصّوتي وتنزّه كلمات اللّه من ماهيتها الصّوتيّة، وتثبت في الآن نفسه ماهيّة أخرى بصريّة، لا ترى إلاّ بالعين عين العقل، لأنّها ملابسة لأشياء الكون بأسره، منتصبة، محشوّة فيها، لا ترى ولكنّها ليست غائبة، لا تبين ولا تبذل نفسها إلاّ بالاستدلال. هنا ينفتح لنا إمكانان: الأوّل، نذهب فيه إلى أنّ أدب الجاحظ في معظم ما كتب إنّما هو (ماتزيس Mathésis) يكون فيه الإنسان دليلاً مستدلاً ينشئ معارفه بالاستدلال ويكثّر العلم باستخراج الحكمة من كتاب الحكمة، ويصنع الأدب بجمع ما تفرّق منه وانتثر، وتأليف ما انفرط منه وانتشر. وليس للماتزيس من إمكان سوى الكتاب. وفي هذه الحالة، ليس سلوك العين البصريّ سوى التقاط للمعارف وجمع للعلم وتكديس للآداب واعتبار من الأعاجيب واستدلال على الصّفات بغية ملء بياض الكتاب، وصياغة صورة موحّدة Unitaire للكون هي حكمة الله الشّاهدة. هذه الصّورة محكومة بمبدأ المنتشر Studium. ينبغي أن نذكّر مرّة أخرى أنّ هذا المبدأ هو قبل كلّ شيء مفهوم من مفاهيم بارت، أجراه لتحليل نوع مخصوص من الصّور الفوتوغرافيّة، من أهمّ سماته أنّه لا يركّز على تفصيل واحد من التّفاصيل، وإنّما يشمل المشهد في اتّساعه وانتشار مداه ورحابته. ولأجل ذلك تطلّب هذا الضّرب من الصّور جهداً بالغاً للإحاطة بما انتشر من الجزئيات. وعلى هذا الجهد الانتشاريّ دلّ لفظ Studium مثلما دلّ على الانهماك والحماسة والحميّة والميل إلى شيء، والدّراسة واستفراغ الجهد. ومن هذا اللّفظ أيضاً اشتقّ لفظ الدّراسة Study والمكان Studio الذي تزاول فيه مهنة أو فنّ أو عمل. ليس من الصّعب تبيّن هذه المعاني في صورة الكون كما صوّرها الخطّ في الكتاب. فإذا كان الكون الطّبيعيّ هو ماهية المضمون، فإنّ الماتزيس يمثّل في قسمة العلامة اليامسلافية شكل هذا المضمون، بما أنّ الماتزيس هو مجموع المعارف والعلوم التي أنتجتها ثقافة من الثّقافات ليقسّم بها الإنسان كونه ويرتّبه في ذهنه حتّى يمسي قابلاً للإدراك. وفي هذه القسمة، يغدو الكتاب والكتابة ماهية كلّ عبارة (كتابيّة) وليست الموسوعة سوى شكل من أشكال تلك العبارة. وعلى هذا التّقدير ألا يكون الماتزيس تقنية لكتابة موسوعة الكون وطريقة مخصوصة في التقاط ما تشتّت وانتشر من أجزاء صورته؟ أليس كتاب الحيوان موسوعة؟ أليست الموسوعة صورة عن الكون اعتمدت في تشكّلها على مبدأ المنتشر؟ أمّا الإمكان الثّاني، فنذهب فيه إلى أنّ أدب الجاحظ في شقّ منه إنّما هو (ميمزيس Mimésis) ليس الإنسان فيه ذلك الذي يحكي فعل الكائنات فيما تصدر من أصوات أو ما تنشئ من أعمال، فيصبح لحظة تلبّسه بالآخر الحيواني ممسوخاً، أو يغدو زمن تقمّصه للآخر البشري منسوخاً، وإنّما هو ذلك العالم الصّغير الذي وهب القدرة أن ينشئ بلسانه وبيده صور الأشياء وهيئاتها ورسومها. يقول الجاحظ: «وسمّوه العالم الصّغير لأنّهم وجدوه يصوّر كلّ شيء بيده، ويحكي كلّ صوت بفمه». (الحيوان:ج 1، ص213). فهو بهذا التّصوّر، مبدع صور وتماثيل وفاطر الشّبيه والمثيل والكائنات الخالية من كلّ روح والفاقدة لظلالها. فليست الكتابة بهذا التّصوّر خلقاً حقيقيّاً، وإنّما هي مسخ عقيم لا ينجب إلاّ أشباه الكائنات، أو الكائنات الحيّة - الميّتة، أي المسوخ والوحش والبائن Le monstre والفظاعة. ولأمر مّا سبق بابُ الكتابة في الحيوان، ذلك الباب الذي صرفه الجاحظ للحديث عن الخصيان. فبين البابين تجاور كنائيّ عجيب. فكما أنّ منيّ الكتابة لا ينجب سوى صور الكائنات لا أعيانها، فكذلك منيّ الخصيّ لا يكون منه ولد كمنيّ الفحول. فالخصيّ في بعض ما عرّف به في الحيوان هو ذلك الكائن «المأمون الإلقاح» (الحيوان: ج1، ص167) تتخيّر هذه الكتابة فضاءها. فهي لا تكتب إلاّ في فضاء تلفّظيّ سجاليّ. فالجاحظ لا يكتب إلاّ في مدار العيب. وكلّما عثر على العيب، تحقّق إمكان الكتابة والكتاب. ولنستحضر كتاب البرصان والعرجان وكتاب البخلاء وكلّ ذوي العاهات الجسديّة ممّن سقط عليهم الحرج وأصحاب الخلق المذموم. ولكن ما العيب؟ هو بكلّ بساطة هذا النّاتئ Punctum، أي هذا التّفصيل الصّغير الذي يسم الكائن، فيخز العين ويشحذها على النّظر وتجويده، وتحديد البصر وتدقيقه. ليس النّاتئ هو النّتوء. فالنّتوء يترجم بصرياً حالة الدّهشة. أمّا النّاتئ فلا يترجم الدّهشة ولا العجب، وإنّما أشياء أخر، كالنّغولة La bâtardise، والهجنة L’hybridité، والمقرف Le répugnant، والمقصى، والشّاذّ، وكلّ ما يجعل الميمزيس ممكناً بوصفه نسخة الكائن الهجينة المنمسخة. بهذين المبدأين المنتشر والنّاتئ كانت بدايات الكتاب، كتاب تملأ بياضه كلمات الله، وكتاب تملأ حواشيه كلمات الإنسان. بين هذه الكلمات وتلك، كان مفهوم الأدب يتأسّس تارة كتأويل للعبارة الإلهية وإنجاب للمعنى المقدّس، وطوراً كنظرة متحيّرة في كائنات فقدت أسماءها، فاستحال فيها المعنى أو كاد. ذات الشعب إذا سلّمنا بأنّ الشّعب مجرّد من كلّ ذات، فإنّ ما تحاول بناءه الصّور الملتقطة هو هذه الذّاتيّة الجديدة الّتي تذوب فيها كلّ ذات في جموع الذّوات. ومن ثمّة غاب عنها كلّ النّجوم والأبطال والمشاهير، فلا شيء تظهره هذه الصّور سوى جسم الشّعب الّذي صار يملأ فضاء المدينة ويحتلّه. كتابة في مدار العيب تتخيّر هذه الكتابة فضاءها. فهي لا تكتب إلاّ في فضاء تلفّظيّ سجاليّ. فالجاحظ لا يكتب إلاّ في مدار العيب. وكلّما عثر على العيب، تحقّق إمكان الكتابة والكتاب. ولنستحضر كتاب البرصان والعرجان وكتاب البخلاء وكلّ ذوي العاهات الجسديّة ممّن سقط عليهم الحرج وأصحاب الخلق المذموم. ولكن ما العيب؟ هو بكلّ بساطة هذا النّاتئ Punctum، أي هذا التّفصيل الصّغير الذي يسم الكائن، فيخز العين ويشحذها على النّظر وتجويده، وتحديد البصر وتدقيقه. خارج زاوية نظر الشعب إنّ المتأمّل في أرشيف صور الثّورة التّونسيّة، لا بدّ أن يلاحظ أنّ أطرف صورها على الإطلاق هي الّتي تآلف فيها المبدآن، «المنتشر» و«النّاتئ»، معاً. وقد حصل هذا التّوليف بظهور عناصر «مزعجة» «وقحة» «مباغتة» تربك هدوء الصّورة ووداعتها، ولكنّها لم تؤثّر في محتوى «زاوية نظر الشّعب»، وإنّما وهبته شكلاً جديداً هو شكل النّاتئ. هذه العناصر قليلة في الواقع، إلاّ أنّ تكرّر ورودها على نحو متفرّق في بعض الصّور النّادرة، يلفت الانتباه، ويجذب العين بسبب تقحّمه مجال الصّورة، أو نتوئه، أو غرابته، فهو يخزها ويستثيرها ببروزه في غير موضعه. من هذه العناصر النّاتئة، نجد الأعلام والأيدي الكثيرة المرتفعة. ولكنّ أندرها صورة القفص وصور «الخبز» الّذي رفعته بعض الأيدي الثّائرة. فكيف ينبغي أن نفهم، بل كيف نقرأ هذه الصّور الّتي برز فيها هذا التّفصيل الصّغير، وظهر في قلب الصّورة بإلحاح متكرّر مثل استعارة مستبدّة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©