الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حسن شريف.. نسّاج الزمن

حسن شريف.. نسّاج الزمن
21 سبتمبر 2016 15:19
مات حسن شريف جسداً، لكن روحه العالية ستظل، كما اعتادت، تنشر رفيفها العذب في رحابة سماء الإمارات، الوطن الذي أحبه حسن، وأخلص لمعانيه وظل ينقش في تربته، ويبذر فيها الجديد دائما. وسوف تبقى سيرته ملاذا للباحثين عن التغيير، وعن التمرّد على سلطة الأفكار الجاهزة التي تجعل من الانسان تابعاً لما يردده الآخرون من غير تمييز ولا إدراك لفحوى ومعنى جوده. وكان الفن، العصا الملوّنة التي حملها حسن شريف لإدخال البهجة وإشاعة السرور في يومياته، متخذا أحياناً صفة التهكم الدائم على كل ما يجري من حوله. وأحيانا صفة الرفض وعدم القبول بالمسلمات. وقادته هذه الأفكار أحياناً ليكون منبوذاً من العامة، ومرفوضاً في المؤسسات التي تُدار بعقول متصلبة. لكن ذلك لم يثنه على مواصلة المسير، والحفر بأظافر صلبة في جدار الظلام ليشقّ نافذة كبيرة للضوء. تكفي كي ينهل الجميع من شعاع شمسها. وأستطيعُ أن أجزم، بأن حسن شريف، خلال مسيره الذي امتد لأكثر من أربعين عاما، قد هدم كل جدران الرتابة التي طرأت أمامه، ورأيته بأم العين وهو ينثر بذرة الدهشة في قلوب كثير من الفنانين والشعراء والمحبين الذين تقاطروا يزورونه في بيته المتواضع في منطقة السطوة الفقيرة في دبي. وكان لا يأبه إلا لفنه، وإلى ما يجعل الحياة مناسبة فرح مستمر، وعرساً ينبغي أن لا ندع لحظاته تمر من دون إشعال شمعةٍ أو إطلاق نشيد. في طفولته الأولى، اشتعلت بين يديه لذة تركيب الأشياء، عندما كان في السابعة من عمره تقريباً، حين راح يتدرب مع والده على صناعة الكعك الملوّن وخلط المكونات لانتاج أشياء تبهج الأطفال. وهذا الأثر الأول في تكوين شخصية حسن شريف، سيظل ملازماً له لاحقا في تجاربه العالمية، وهناك اليوم العشرات من مقتنياته في المتاحف حول العالم ما هي إلا محاكاة لصناعة (الكعك). أعمال منثورة على الأرض تشبه الشوكولاته عرضها في أكثر من بينالي واقتنتها متاحف كبرى. وأنا الذي رافقته لأكثر من ثلاثين سنة، سمعته يردد على الدوام أن تعلقه بالفن بدأ من تلك اللحظات الأولى مع والده. في نهاية الستينيات يلتحق حسن شريف متأخراً بمدرسة الشعب في دبي وعمره أكبر من بقية الطلاب بأربع أو خمس سنوات، طفل مشاغب لكنه يرسم ويخطط بطريقة تثير دهشة المدرسين، وفي العام 1972، والإمارات تعيش بهجة احتفالها بقيام دولة الاتحاد، يشارك حسن بلوحاته الأولى في أول معرض تشكيلي لأبناء الإمارات العربية المتحدة أقيم في المكتبة العامة في دبي، ويلفت الأنظار مع بقية طلاب تلك الفترة، واذكر من بينهم عبدالقادر الريّس وفاطمة لوتاه وعبدالرحمن زينل وآخرين. لتبدأ بعد ذلك المرحلة الجدية في تجربته الطويلة مع الفن. مرحلة الكاريكاتير شكلت السبعينيات ما يشبه العرس في الإمارات، وكانت الأندية الرياضية حضنا لكل الشباب. ووجد حسن مكانه في اللجنة الثقافية لنادي النصر الرياضي، حيث بدأ بنشر رسوم الكاريكاتير في مجلة (النصر) التابعة للنادي، ناقداً وساخراً من الأحداث الرياضية، مرّة على الجمهور ومرات على ممارسات اللاعبين ومسؤولي الأندية وأحيانا على المنتخب والمدربين الأجانب، وحتى منتصف السبعينيات، طوّر حسن كثيراً من أدواته الفنية في رسم الشخصيات واختيار موضوع الكاريكاتير، ولفت انتباه الصحف المحلية التي راقها حسه الفكاهي وذكاؤه، فراح يرسم في جريدتي الوحدة والفجر موجها نقده هذه المرة الى المجتمع. وقد اطلعت شخصياً على أكثر من ألف رسمة كاريكاتير قدمها حسن ونشرها منذ منتصف السبعينيات حتى العام 1979، وكنا نخطط معاً لنشرها في كتاب، لكن المشروع تأجل، ولا تزال مثل هذه المشاريع بحوزة أخيه والمشرف على أعماله عبدالرحيم شريف. أتاح فن الكاريكاتير لحسن أن يغوص عميقاً في قراءة المجتمع، وأن ينبش مفتشاً عن الظواهر السلبية لنقدها بسخرية جارحة، وسوف تظل تلك الرسوم مرجعاً مهماً للكثير من الأحداث والمناسبات التي عاشتها الامارات في السبعينيات، في الرياضة والاقتصاد وتحولات المجتمع المدني السريعة. التحق حسن بكلية بايام شو للفنون في بريطانيا (جزء من سنترال سانت مارتينز) في عام 1980، وعاد في العام 1984 محصّناً بالمعرفة الأكاديمية وهو يحمل في داخله سؤال الفن الكبير. سؤال الوجود والمعنى والجدوى والغاية. وحكي لي مرةً أن مدرس مادة الفن سأل الطلاب عن الكتب التي يقرأونها، فقال كلٌ منهم أنه يقرأ في تاريخ الفن، وآخر يبحث في الانطباعية، وثالث كان يبحث في كلاسيكيات القرن السابع عشر. وعندما جاء الدور على حسن قال: أنا أقرأ كتاباً عن التفاح. حينها اتخذ المدرس مثال حسن ليتحدث عن ضرورة تعرف الفنان على الأبعاد الأخرى في وجودنا وعدم التوقف عند مادة الفن وحدها. بعد عودته الى الإمارات، لمس حسن بألمٍ شديد، شُحّ وتخلّف المجتمع من ناحية الفن في ظل عدم وجود مدارس أو كليات أو حتى ورش متخصصة لتعليم أصول ومبادئ الرسم والتلوين. فالتحق على الفور بجمعية الامارات للفنون التشكيلية في الشارقة مدرباً ومشرفاً على المراسم والورش، وبحكم عمله في وزارة الشباب والرياضة، سعى في العام 1987 لتأسيس المرسم الحر في دبي، وعين فيه مشرفاً على تدريب الشباب والعناية بالموهوبين منهم. وتدرب على يديه العشرات، من بينهم اليوم نحو خمسة يعدون في طليعة حركة الفن التشكيلي في الامارات هم محمد كاظم ومحمد أحمد إبراهيم وعبدالله السعدي وشقيقه المبدع حسين شريف وآخرون تقدموا خطوات ثم تراجعوا. ولأن الأفكار الكبيرة والجديدة تحتاج الى أرض خصبة كي تنمو، لم يجد حسن، حين نادى بتجديد الفن، من يسمع له في المؤسسات الرسمية، وكانت مبادئ الفن الجديد التي نادى وآمن بها في التجريد والمنيمال والفن المفاهمي مجرد مصطلحات دخيلة لا يقبل بها أحد. لكن الثمانينيات في الامارات كانت تشهد على صعيد الأدب ثورة حداثة حقيقية، وكانت هناك أسماء شعراء كثر كسروا منهجية التقليد وانحازوا في نصوصهم الطالعة الى تبني توجهات الحداثة بمعناها العميق، ومن بينهم ظبية خميس وأحمد راشد ثاني وخالد الراشد ونجوم الغانم وخالد بدر وعلي العندل ويوسف أبولوز. وسوف يجد حسن في كل هؤلاء معنى الصداقة الحقيقية، ورفقاء درب المعرفة الطويل. وسوف يذهب ويسعى بمفرده، الى ادخال الفن التشكيلي واقحامه في صميم حركة الحداثة الاماراتية، وكان حسن يغرّد وحده، فبدأ يكتب ويترجم وينشر أفكاره الجديدة في صحف الامارات وملاحقها الثقافية المزدهرة بالصوت الجديد. وأجزم أيضا أن كثيرين سمعوا بالمصطلحات الفنية الجديدة لأول مرة من حسن شريف. ومن بين ما نشره مقالات في معنى الفن ومفهومه وترجمات لفنانين من أمثال كاندنسكي وجوزف كوزيث وموندريان ومارسيل دوشان وكارل أندريه وغيرهم. بل أنه واصل اتجاهه في تأصيل الوعي بالفن ونشر خمسة من بينها كتاب (الفن الجديد) وكتاب (الخمسة) وكتاب (آلات حادة لصناعة الفن).. وهي كلها تنظيرات ورؤى لما آمن به. عملياً، رفد حسن تنظيراته، بالمشاركة في العشرات من المعارض داخل الامارات وخارجها، وكانت أعماله تنحى الى كسر الأطر التقليدية للوحة، وإلغاء البعد التزييني، واقتراح أفكار ومواد جديدة، بعضها من مهملات الشوارع وقطع الكرتون والخرق البالية والأحذية وحبال الكومبار. وفي مخاض هذه المواد وجمعها وعجنها وربطها، تتولد أعمال جديدة كلياً من ناحية الشكل والأسلوب والمادة والبعد النحتي. سمعته يردد أنا نحّات، ثم صار يقول أنا (نسّاج)، وكانت تبدلاته هذه تنبع من تبنيه في كل يوم لفكرة جديدة وسؤال جديد. تطورت حركة الفنون التشكيلية في الإمارات بسرعة كبيرة، وفي منتصف التسعينيات صارت المعارض تعجّ بأصوات وتيارات فنانين من كل مكان، وازدهرت حركة الغاليرهات التجارية مع نمو التطور العمراني وحاجة الفنادق والمجمعات التجارية الى تزيين مبانيها وغرفها الكثيرة. وما كان مرفوضاً سابقاً من أعمال تجريدية وتركيبية، صار يفرضُ عنوة في ممرات وأروقة الأسواق والصالات واعتادت الناس عليه تدريجياً، بل أن كثيرا من الفنانين طرقوا التجريد وأدخلوه في أعمالهم، وبعضهم فعل هذا من غير إدراك. لكن حسن كان ينحاز الى الفن الحقيقي، وليس الى ذلك النوع (التجاري) فقرر أن يغوص عميقا في ذاته، وأن يطور تجربته من الداخل كي لا تتوازى مع ما يظنه الناس الفن الحديث. فبدأ مرحلة جديدة هي فلسفة الفن القائم على مفهوم اللحظة، فالفكرة لديه تولد أثناء انتاج العمل الفني، وقد تولد من خطأ وتستمر. كأن يقوم بربط الحبال بطريقة منظمة، لكنه قد يخطئ، ويستمر في الخطأ فيتولد منه نظام آخر، ثم يخطئ من جديد ويستمر وهكذا. وبدلاً من الحائط، كانت أعماله ملقاة مثل كومة من المهملات على أرض المعارض الى درجة أن الأطفال يأتون الى أعماله ويأخذون قطعاً منها، وهذا يشيع الفرح في نفسه كثيراً. بينما الكبار كانوا يأتون ويخرجون من معارضه من غير أن يفهموا شيئا، وهذا كان يفرحه أيضاً. ركّز حسن في هذه الفترة على مشاركاته الخارجية، وصار يزوره في بيته المتواضع في منطقة السطوة كبار المقيّمين من أوروبا ومديري المتاحف ووزراء الثقافة الأجانب. وكان يستقبلهم بملابس بسيطة ويجلس معهم على طاولته الصغيرة المصنوعة من البلاستيك لكن الحوار الشيّق معه كان يجذبهم للجلوس لساعات طويلة. ومن آسيا الى بريطانيا الى الولايات المتحدة، بدأ هؤلاء يتحدثون ويكتبون عنه، وسرعان ما بدأت تطوف أعماله متاحف العالم. وراحوا يدعونه لتقديم المحاضرات والندوات نداً وجنباً الى جنب مع كبار المنظرين في عالم الفن الحديث اليوم. وصارت أعماله تباع وتقتنى بمئات الآلاف وبعضها يتجاوز المليون دولار. وتبناه في دبي غاليري إيزابيل فان دن إيدن، وفي نيويورك غاليري إلكسندر جراي. الساخر ظل حسن متهكماً ويفيضُ بالسخرية اللاذعة، ولم أره على مدى ثلاثين سنة يبكي، أو يتذمّر. يقرأ الشعر بنهم فائض، ويرقص ويغني. والأهم أنه ينتج الفن وبمعدّل ثماني ساعات أو أكثر في اليوم. ولم يكن لديه جهاز تلفزيون أو راديو أو كمبيوتر منذ عرفته. عاش متواضعاً بسيطاً لا يكترث إلا لأحبته ورفقائه وصحبتهم العامرة بالقهقهات. وحين صارت أعماله تدر عليه المال بوفرة كبيرة جداً، لم يتغير قيد شعرة. وحين هاجمه السرطان منذ قرابة 6 أعوام لم يشأ أن يعرف أحد بذلك. لكن، ومنذ ثلاثة أشهر بدأت حالته تسوء، وشعرنا أن لحظة رحيله تقترب. ورأيته وهو يوصي ابن أخيه بأعماله، ويقوم بالتخطيط على أوراق صغيرة حتى وهو في المستشفى. وبإلحاح، اقتنع ووافق أن تقوم المبدعة نجوم الغانم بتصويره لإنتاج فيلم وثائقي عن تجربته. وقد حدث هذه قبل نحو شهرين. وأظن أن نجوم أنجزت الجانب الأهم من هذا الفيلم. في ساعاته الأخيرة، حين تمكن المرض منه، دخل حسن في دورات العلاج الكثيفة بالكيماوي، ومع ذلك لم أره يتذمّر، ولم أقرأ خوفه من الموت، وظل يردد مطمئناً بأن ليس هناك مشكلة، وأن الأمور تجري على خير. ثم ساءت الحالة حتى دخل في غيبوبة لنحو عشرين يوماً تراجعت فيها وظائفه الحيوية، واختار أن يرحل بهدوء، مخلفاً وراءه غيمة من مطر لا ينتهي. الساخر.. الساحر ظل حسن متهكماً ويفيضُ بالسخرية اللاذعة، ولم أره على مدى ثلاثين سنة يبكي، أو يتذمّر. يقرأ الشعر بنهم فائض، ويرقص ويغني. والأهم أنه ينتج الفن وبمعدّل ثماني ساعات أو أكثر في اليوم. ولم يكن لديه جهاز تلفزيون أو راديو أو كمبيوتر منذ عرفته. عاش متواضعاً بسيطاً لا يكترث إلا لأحبته ورفقائه وصحبتهم العامرة بالقهقهات. وحين صارت أعماله تدر عليه المال بوفرة كبيرة جداً، لم يتغير قيد شعرة. نجم فيلم نجوم حين هاجمه السرطان منذ قرابة 6 أشهر لم يشأ أن يعرف أحد بذلك. ومنذ ثلاثة أشهر بدأت حالته تسوء، وشعرنا بأن لحظة رحيله تقترب. ورأيته وهو يوصي ابن أخيه بأعماله، ويقوم بالتخطيط على أوراق صغيرة حتى وهو في المستشفى. وبإلحاح، اقتنع ووافق على أن تقوم المبدعة نجوم الغانم بتصويره لإنتاج فيلم وثائقي عن تجربته. وقد حدث هذا قبل نحو شهرين. وأظن أن نجوم أنجزت الجانب الأهم من هذا الفيلم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©