الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ماكر ومترصد

ماكر ومترصد
6 نوفمبر 2008 01:51
الشمس في الظهيرة مازالت منذ الأبدية تمارس لذة تعذيبنا بأغلالها، بأسواطها الملتهبة، لتستمتع بتلوحينا ووشمنا لنُعرف بأننا أبناؤها الخُلّص، ربما تنتشي الآن وهي تراقب معظمنا مختبئين هاربين إلى جحورنا حتى لا نتقاسم معها مكانا هي فيه، فتستلذ زاحفة وممتلكة لأغلب شوارعنا الهادئة· وحيداً ذلك العامل الآتي من بلد البن والعسل كان يتحداها، منهمكا في تبييض وجه العمارة الناشئة دون أن يكترث لوجودها الخانق المرهق المتحدي لصلابتنا، فهو لا يغسل وجهه بالماء البارد كما أفعل أنا كل خمس ثوان أو ليهتم بمسح عرقه أو لينزل من فوق السقالة كما زملاؤه المستظلون تحت العمارة متعللين برشف الشاي كأنما هو لوحده يعمل في ربيع بارد· رغبة في الاعتراف المغتبط تمنعني من إظهار تواضع منافق فما شدني صراحة لمتابعة هذا العامل العنيد الصلب كان ملامح العمارة الرائعة التقاسيم والتي ظهر حسنها مبكراً جداً، فما أردته لها يتحقق وما نفثته من إغراء لصاحب العمارة ليدفع أكثر قد أثمر، أيفهم جدوى ما دفعه مقابل هذا الكائن الشفاف الهامس الذي يُدعى الإبداع والتميز؟ ولكن أنّى له ذلك وهذا الكائن مرتحل مغترب في أغلب أحياء جدة السكنية، حتى لم يعد يُغري أحدهم أن يرفع رأسه إعجابا أو فضولاً، وكيف له أن يفعل وهندسة عمارتها السكنية متشابهة متطابقة حتى لتتساءل بإلحاح هل هي لشخص واحد مغمض العينين منتفخ الجيوب؟ ملاحة العمارة الظاهرة وحُسنها الطاغي وجسدها المتناسق الريان يستعبدني واستعبادها الآثم لا يدفعني للذل والسكينة بل للغرور والاضطراب، ولكن قبل أن تشمخ أنفي وبالتالي أفقد بصيرتي وقع نظري على قدم العامل العنيد وهي تبحث عن مكان لها في الهواء تابعته بقلق وهو يفقد توازنه، حاول أن يتشبث بأحد العواميد الخشبية للسقالة خانته سرعته فتهاوى أمام أنظارنا العاجزة المذعورة من أعلى الطابق الرابع إلى الأرض المتربة المليئة بالحصى فسقط على ظهره، التفتنا حوله وقبل أن يمسه أحدنا كان قد فتح عينيه ووقف يتفحص نفسه باندهاش وذهول فاق استغرابنا وصمتنا المصعوق فقال جذلاً بسلامته: أنا لم يصبني شيء·· أنا بخير·· بخير·· لك الحمد يارب!!· كنت مندهشاً وربما مستنكراً: كيف لم يصبك أذى أجُننت؟ إنه الطابق الرابع··· لم يغم عليك هذا وارد، أما دون أن تصاب بكسر، بنزف، حتى بخدش هذا غير مصدق ولا مقبول· هز كتفيه غير مبال بكيف؟ فقال كأنما يحدث نفسه: إنها·· إنها دعوات أبنائي المخلصة·· إنها بركتهم إنه شوقهم لي·· وشوقي إليهم · وبما أنني كنت مزعجاً وربما منزعجاً أمسكت بحماقة بكتفه أتحسسه وأنا أهز رأسي مردداً: مستحيل·· ليس منطقياً·· ولا واقعياً ما يجري· استوقفه عناد دهشتي وتلك الشكوك التي جندتها ضده ونفثتها في قلبه، فرد علي بأن تشقلب بخفة وسلاسة في الهواء، مذهولاً أُحملق فيه··· أما العمال فتقبلوا الأمر ببساطة توحي بالتحدي، وقد أكون مبالغاً في تفسيراتي إذ قلت إنه بدا لي لوهلة كم يودون لو يبصقوا على شهاداتي وأنهم يتوقون لو يخرجوا ألسنتهم على كل سنين علمي، فقد تقدموا يباركون له السلامة دون أن يخفوا استعراضهم البهلواني حتى يبدو ولو لمرة أنهم أذكى وأكثر حكمة ولكي يردوا جزءاً من غروري وتوبيخي المتكرر والمتعالي لهم بأمانة شديدة وبزيادة ربوية متشفية، فقال أحدهم وهو يسترق النظر إليّ كأنما يعنيني: مبروك يا سالم مبروك على نجاتك·· يا شيخ أرعبتنا حتى كدنا نفقد عقولنا·· بل إني فقدت عقلي تماماً·· ـ الحمد لله فهو وحده أنقذك·· سبحانه تأمل قدرته وتدبيره حينها لن تتعجب ممن تغلب على الموت وعانده حتى لو سُحق ألف جزء ومسكين من انتهى عمره وهو آمن في فراشه يخطط لأُمنية في غده فيما الليل يخيط أكفانه· ـ صحيح ما قلته، الأسباب عاجزة أكثر منا ولا معنى لها·· مبروك يا سالم والله قد حفظك ونجاك·· لماذا أنت واقف هيا (دفعه بقوة مازحاً) هيا يا بخيل تحرك وأحضر لنا مشروبا غازيا يُطفئ من أجسادنا ما أشعلته بسقوطك·· هيا دعنا نحتفل بنجاتك· ـ يا جماعة لو أقدر لذبحتُ ذبيحة تليق بفرحي فأنا سعيد·· فرحان·· فروحي التي عادت لي غدت أغلى من الدنيا كلها·· نعم فأيّ معنى لدنيا وأنا لست من أهلها إنها إذاً غير موجودة إنها معدومة·· سأذهب وأجلب لكم أحسن مشروب غازي· رحت أراقب امتداد العمارة وأرجع النظر إليه وهو يهرول، المسافة كبيرة لا يمكن أن يخرج هكذا كأنما سقط من سطح طاولة، ها هو يعبر الشارع العام وخطواته تكاد لا تمس الإسفلت كأنما الجاذبية هي أيضاً مذهولة مثلي بعدما تحداها وأثبت عجزها أن تقهر جسده· أرجل معجزة؟ ام أن الأمر أبسط من إدهاش إنسان جاهل كعمالي المتابعين لصمتي المستسلم المذهول ربما مستنكرين ربما مستهزئين؟ أم أنه من الذكاء أن أقارب بين حاجبي وأمط شفتي مفكراً متأملاً!· ها هو باب الدكان يُفتح ليظهر هذا العامل والذي يُشارك أبناء وطنه في ضآلة الحجم قابضاً عنق زجاجة المشروب الغازي وعندما رآني اُراقبه حاول أن يطوي الابتسامة العريضة التي افترشت على وجهه الطويل ولما كان ذلك العضو المحشور في صدره يقبض على حواسه ناشراً فيها وباء الفرح فأعلنها لي غير مبال بأسنانه الضخمة والتي التهم السوس أطرافها فبدا لي من بعيد أن ملامحه الأخرى انسحبت باستسلام تاركةً المكان لتلك الابتسامة حتى لا يكون هو شيء آخر سوى فرحه وحبوره· وللمرة الأولى ابتسمتُ له من بعيد مجاملاً ومشاركاً إياه بهجته، وسريعاً وقبل أن أتأكد بأنه لاحظ مجاملتي المتأخرة سمعت فحيح اصطدام سيارة حمقاء ومغرورة بعاملي والذي خلناه محظوظاً لتو، رأيته يطير على بعد ثلاثة أمتار، ركضنا إليه للمرة الثانية في هذا النهار المتواطئ ضده، وجدناه غارقاً في دمائه الحارة اللزجة الممزوجة بالشراب الغارق فيه، تحسست نبضه الضعيف الواهن كزفرته كأنينه المتهالك الذي انسحب منهزماً أمام تلك الابتسامة التي مازالت مدقوقة على وجهه كآخر لوحة يعرضها· هل ينفع أن أقول كم هزني شعره المصبوغ بالدم·· كم طحنتني أسنانه المبعثرة على الإسفلت·· كم أرعبتني عيناه والتي أسدل أحدهم أستارها وهي منهكة تتوهج بفراغ هائل وحيرة مدمرة، يا هذا ما الفرق بين أن تصاب أو تموت من الطابق الرابع أو تحت عجلات سيارة؟· لماذا يلفظك الموت حين هويت عليه؟ واختار أن يختطفك ليقتلع الحياة منك؟ لماذا تموت هكذا وقد غُمرت بالأمان الماكر المترصد؟ حتى لقد صنفت نفسك بأنك ممدود العمر·· محظوظ! يا للقدر الذي لا يكتفي بمتعة تعقبنا ومفاجأتنا·· بل يمعن بتخويفنا لنلتفت مرعوبين دون منطق حيث إنه يقبع هناك دون منطق· يا ضعفنا وجهلنا·· يا عجزنا عن إجابة: أين؟ كيف؟ ومتى؟ سعاد··· هل تذكرين···؟ ذياب شاهين أنا السيفُ لو تذكرين يريقُ البروق بوادي الغجرْ ما فرّط القلبُ يوما بماء الحنينِ ولا·· ما قرأتُ على المحييات كتاب السفرْ ! وما أنت إلاّ بريقُ المياه تحنُّ إليهِ ضلوعي سَحَـرْ فلي ناءَ صبرُ المرايا عروجا ولي طلَّ صحوُ النهار سرىً سعادُ لمن تهطلين قفارا لمن تقرعين كؤوسَ السمرْ إذا ما النوى حطّ نجما على بابك يسيرُ إليه السراة وتنأى إليه الرياحُ وينسى الطريقُ خطى العابرين لأبكي وتبكي البيوتُ العتيقة فيغري لهاثي لعابَ المنون وضوع اغتلامي يريقُ سماءً على موجة في مياهِ الجنون فيا للصحاري تمصُّ المياه وروعي من البحر لو قال آه ومن ذا يضيء نشيجَ القفار ومن ذا يضوع رنينا كجرح الديار سعاد أأنت الغيوم الثقال؟ وتلك المروج الحرير أنا فيا أهلنا عند غمرِ الخليج متى الشرفات اللجين تصومُ القمرْ وأين ضياءٌ كطعم الشفاهِ شربناهُ يوما تسحُّ صداهُ قبابُ العراق وهل حط في ربعكم وجعٌ من عروجي بكاه وما للقلوب اللعوب إذا ما انتضتْ جواي نبأ لتـقـْرأْهُ عند اغتلام العيون سجودَ الغروبِ برمل البحرْ سعاد لقد عاث بالوادي الظمأ فأنت أنا ونحن نخيلٌ ورملٌ عتيق فمن ألف نوح رياح قرور تسفُّ الرمالَ على دارة الليل الربيءْ صقيعاً وجمرا وضيءْ سعاد هنا زوج أمي مُحيْضَ حجرٍ في فضاءٍ قميء فهلْ زوجُ أمك من راعشات الزجاج؟ أنا الخمرُ دمعي فهل تشربين أنا الخبز جرحي فهل تأكلين أنا الحرف في رقعة من ترابٍ وبوحُ سفرْ سعادُ بكفيك لا تفتحي الشرفاتِ الكحيلةِ يوما بضوء القمرْ يخبُّ إليها المغولُ وأسرابُ الجرادِ الزؤام فكم حطّ في الوادي النبيل غرابٌ وكم في ظلال الربوع عبدنا بقايا وثنْ فذا الربع أيكٌ وماء وكنتُ أراك فنارا هناك فلولا وضعتِ لظى البعد يوما ستارا كوهج العيون يبيد خطى النافثات حريقا كنفثِ العقدْ وفي جيدهن ''قباب العراق'' رقىً علقيها فإن السطوح نجومٌ من جراح وإن البروق كوى باكيات فهلا اغتسلتِ وقلبي ندى في يديكِ وجريالُ وجدٍ في قدرْ فهلا سكرتِ سعاد لمن تنفرين؟ عندما يفارقنا·· جواهر حسن الحمادي عندما يحين وقت الوداع ترى الجميع يبكون وينوحون على فراقك مع أنك كنت بجانبهم طوال الوقت، ولكن لماذا لانحس بوجود الشخص إلا عند فراقه؟ لا أعلم، الجواب·· رأيت هذا المشهد مرات عديدة، واليوم أشاهده مرة أخرى عبر النافذة المطلة على بيت الجيران، بكاء ونواح ونساء متشحات بالسواد وكأنه حزن على فراق عزيز، لكنه أكثر من ذلك بكثير، فهو الندم والضيق، وبين الحزن والألم هناك من يأتي ويشاركك حزنك ويحنو عليك، وهناك من يأتي لالتقاط الكلام أو بثه كأنه إذاعة· نزلت عبر الدرجات لأراقب الوضع· اقتربت من الباب، أنظر من خلال فتحته المواربة، جاءت أمي تسألني: ألن تذهبي معي؟ ـ لا لن أذهب· ـ ولما لا؟ ألا تواسين صديقتك؟ ـ بلى، لكن·· قاطعني رنين الهاتف· رفعت السماعة وإذا بها عائشة تبكي، فأشرت لأمي بأن تذهب فذهبت وأوصتني بتهدئتها· ـ سميرة أمي ماتت رحلت للأبد· ـ اهدئي حبيبتي· ـ كيف أهدأ وأنا أغضبتها· ـ هل تفكرين في هذا الآن بعد كل ما حدث؟ عائشة يجب أن تنسي وتكوني قوية· ـ كيف أنسى؟ ومن أين لي بالقوة؟ ـ بقراءة القرآن، إن هذا ما سيريحها وليس بكاؤك· ـ أنا السبب في موتها· ـ إنه القضاء والقدر· كنت أكلمها وأهدئها لكن لا فائدة، فقلت دون أن أفكر: ما بك عائشة يكفي، ألم تكوني تريدين أن تتركك في حالك؟ ألم تتمني أن ترحل بعيداً عنك؟ ألم تغضبيها أكثر من مرة وتحرجيها؟ آلآن تقولين أمي؟ لقد نصحتك أكثر من مرة ولكنك عنيدة، الآن ماذا ستفعلين من دونها؟ قلت تلك الكلمات بحرقة، فسمعت صوت السماعة وهي تسقط، ناديتها عدة مرات ولكنها لم تسمعني، خفت كثيراً فخرجت مسرعة إلى منزلها·· آسفة·· آسفة·· لم أقصد إيذاءك بكلامي لكنها الحقيقة، إننا لا نحس بوجود الشخص ومعزته إلا عندما يفارقنا· أرى وجهــي بهيجة مصري إدلبي تلويحة في أربعينية الرحيل آخر ما رأى الشاعر محمود درويش وآخر ما رأى وجهي ظلالي في مرايا الماء كأن الماء ينبئ بالرؤى قبلي متى أبكي متى أصحو متى أمحو بقايا الريح من صحراء ذاكرتي متى تختارني الأسرار في دوامة الأسماءْ كأن الماء رب الشعر والشعراءْ رأيت الآن وجهي في خفاياه سمعت قصيدتي الأولى وآخرَ ما كتبت الآن حين شهقت غصت في فمي الآه رأيت على جليد الصمت ما لم أره يوماً رأيت طفولتي تومي بسر الوقتْ تغشتني الرؤى أغمضت عن وجهِ الرؤى عينيْ وغبت على موانئ عتمتي فرأيت ماشاءت مشيئة رحلتي آنست في غيب الرؤى مطراً حملت قصائدي حجراً إلى مالا يرى الراؤون إلى حيث العمى لأرى üüü فآخر ما رأيت الآن وجهي فوق غمر البحر يوقظ بي رؤى النسيان أغيب يغيب ينهض في دمي الماءُ أعيد إليه ما خبأته عنه كأني لم أكن فيه ولا منه أرى وجهي ظلالاً في أثير الريح يمضي خلفه ألمي أرى وجهي أرى عدمي البحث عن المغامرة نص: جان ـ ماري غوستاف لوكليزيو ترجمة: حسونة المصباحي هذا النص مستوحى من احتفال يسميه المكسيكيون EXNEXTIVA· ومعنى هذه الكلمة: ''البحث عن المغامرة''، وخلال هذا الاحتفال، ترقص الالهة، وهكذا فان جميع الذين يرقصون، ويتنكرون، ليكون البعض منهم عصافير، والبعض الآخر حيوانات، بل ان آخرين يتحولون الى ضريسات (عصافير صغيرة زاهية الريش، طويلة المنقار قوتها الحشرات ورحيق الازهار)، أو الى فراشات، او الى نحل، أو الى ذباب، وثمة من يحملون على ظهورهم رجلا نائما، وهم يقولون إنه حلم· üüü يهبط الليل، ومع قدومه تأتي ذكرى الشعوب الرحل، وشعوب الصحراء، وشعوب البحر، وهذه الذكرى هي التي تلاحق المراهقة عندما يدخل الفتى في الحياة، والتي هي عبقريته· الفتاة الشابة تحمل في كيانها، ومن دون ان تعرف ذلك حقا، ذكرى رامبو وجال كيرواك، وحلم جاك لندن او وجه جان جينيه، وحياة مول فلاندرس، والنظرة الضائعة لنادية في شوارع باريس· وفي الحقيقة من الصعب الدخول الى مجتمع الكهول عندما تقود الطرقات الى نفس الحدود، وعندما تكون السماء بعيدة جدا، والاشجار لا عيون لها والانهار الصغيرة مغطاة بالاسمنت الرمادي، والحيوانات لا تتكلم أبدا، والناس أنفسهم فقدوا دلالاتهم· والفتاة الشابة ذات الخمسة عشر ربيعا تسير وسط الجموع، كما لو انها تركت المدرسة قبل ساعات، ساعات فرت فيها من أساتذة الرياضيات، والعلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا، وركبت قطارا قديما صدئا يمكن ان يأخذها الى اقصى نقطة في العالم، الى الـ''الهافر''، أو الى ''روتردام''، أو ربما الى ''يوكو هاما'' هي تمشي، وتبحث في نظرات من يعترضون طريقها شيئا ما، نشوة، شرارة جديدة، قبل الابتسامة والكلمات التي قد تقودها الى حياة جديدة· أو في منتصف الليل، مرتدية جاكتتها الجلدية التي اشترتها وعلى ياقتها كلمة SCHOTT· الليل البارد قشعريرة على جسدها، الليل يلمع مثل الشيح (حجز زجاجي أسود) في عينيها، الليل يموج بالاضواء، بالنجوم، بالاشارات الحمراء، باسماء مكتوبة بالنيون البديع، اسماء خطيرة، بأسماء تزأر من عمق الحياة، وتقول: MACCARI: EL FRANCO CHANGE HASARD LOCUST SOLEDAD قلبها يدق على نغمات الكلمات البعيدة، والرغبات الخرقاء، والفتاة ذات الخمسة عشر ربيعا تشمي وحدها في الليل، بحثا عن صورة، عن انعكاس ضوء، او عن شرارة· في عمقها، هناك هذا المفراغ، هذه النافذة التي تصطفق، الريح التي تهب، والخفاش الذي يلامسها، وقلبها يخفق· هي لا تدري عمّا تبحث، ولماذا تتجوف الموجة فوق المدينة، وتنفتح الابواب اللامتناهية للأفق، ما وراء الساحات، وشوارع الحزام· ماذا هناك، من الناحية الاخرى؟ هل لا يموت الناس؟ غير ان ذكرى الأزمنة الرحل أقوى من كل شيء، وكل مساء، تجعل قلب الفتى المراهق يخفق، وتحفر في البطن· ذكرى أزمنة ''اراباهوي'' و''شايان''، و''لاكوتا''، و''تكساس''· واذن لم يكن هناك لاجدران ولا اسماء· لم يكن هناك غير الارقام· لم يكن هناك اذن، لا سجل شرطة، ولا دفترا عائليا، ولا عقودا محررة امام موثق، ولا العلاقات المرعبة للايدي، وتحت الاقدام، ولا حفر حقنات عند فصد المرفق، ولا كل هذا، ولا طوابع، ولا صور، ولا بصمات الابهام، ولا الاساور البلاستيكية التي تحيط بمعاصم الاطفال الرضع ولا كاحل الموتى· وكان القمر يصعد كبيرا فوق الجبال، مدفوعا بعواء الذئاب، وكان الليل فتيا، وكان يستولي على العالم في لحظة واحدة، وكان هائلا ومجلدا وكانت حدقات الالهة تتلامع· والطفلة الشابة ذات الخمسة عشر ربيعا تسير باتجاه مفترقات الطرق، وهي تشعر بالليل يضرب صدغيها، ويضغط على وجنتيها، وعلى عينيها بيده الباردة· وهي تنصت الى وقع قدميها يرن في عمق جسدها، وهي لا تعرف عمن تبحث، ومن الذي سيأخذها· وربما ثمة من يراقبها في عمق الظلام، وعند زوايا الابواب، وفي قعر باحات البنايات، وبعيدا، يسيل وشاح الطرقات الحمراء مثل الحمم· واصوات الموجات الهرتزية ترتد ويصدم بعضها البعض، وحيوانات مجنونة، واصوات كلمات من عمق الفضاء، من عمق التاريخ· وهناك واحد يدفعها على هذا الطريق، ضاغطا بيديه على كتفيها، وهي لا تدري اين ينفتح مجاز الليل· الاطفال يحلمون مكورين، هم قنافد الليل، الاطفال يستمعون الى النمور وهي تزأر، والى الذئاب وهي تعوي، وهم يتذكرون جيدا· أليس في اقبية البنايات هناك قطعان العالم التحتي كما في القديم كانت هناك الارانب، آكلة الاموات؟ أليس هناك في الساحات المسيجة حيث يتدفق الليل، وثبات البرابرة، آكلي الخيول، وسيوفهم التي تلمع مثل القصر، ورماحهم المزينة بالشرائط موجهة الى كوكب ''سيريوس''· ان انفاسهم هي التي تشمها على وجهها، وبرودة نظراتهم وفي قلبها يدق نغم سباقهم، وجيادهم في الليل، ومداعباتهم للعشب تحت الريح· لكي ترى هذا، لكي تسمع هذا، تخرج الفتاة الشابة من غرفتها في منتصف الليل، وتلبس بنطلون ''الدجين'' والجاكتة الجلدية واللذين هما أسلحتها· وهي تترك نفسها تنزلق على طول الميزاب، وتفر من الحفرة الناعمة جدا لطفولتها، العش الوردي والوسائد المزهرة، ونفس طفولتها، وصور ألبومات ''ميكي'' والبومات الاصداف الملتقطة على الشواطئ المبللة بالعطر، واشجار الصنوبر· هي تهرب من النوم الذي يسيل مثل خيط جدول هادئ للغاية· هي تمضي، لان هناك، امامها، عند طرف الطريق الذي يقود الى المعهد، هناك حقا حفرة مجهولة تناديها، وهذه الاسماء، هذه الاسماء الخطيرة التي تقول: MARB LE MEMO RIVE SATURNE EMPORIO ANVERS-SUR-OISE ARTHURE كما لو ان كل واحدة من هذه الكلمات كانت سرا، سرا ملتفا على نفسه، ولحظة متحررة، متوثبة، منبثقة· الليل البارد قشعريرة على جسدها· الليل لباسها· السماء تضغط على الأرض، وشفرات المقصّ تفتح عقد الأقمشة، وتقطع أربطة الأحذية، وحلقات الأحزمة· الليل عار· الحواجز سقطت، الاشارات أو الأعلام، الكتب المبالغ في كتابتها، ودساتير الأدوية حيث دوّنت قوانين الناس· الليل يغلقها، يمحوها· المدينة تتجوّف مثل موجة هائلة تندفع باتجاه الساحل· جذور البنايات عارية، ونحن نرى أشياء طويلة، لامعة، أحشاء· هناك صمت يقتل الساعات الكبيرة، وهناك برد يدخل فيها، ابرة العدم· الفتاة الشابة ذات الخمسة عشر ربيعا تحسّ بالليل على وجهها، على بطنها، على صدرها، وكل شعرة من شعراتها تنتصب· كل فتحة في جسدها هي عين، وهي تحسّ بكل هذه النجوم، بكل هذه الكلمات، بكل هذه النظرات التي تنتظرها· هي تمشي وسط الأيدي· وهي تنصت الى قلبها وهو يثب في عمق الفضاء، في حنجرتها، في دماغها، وهي تشعر باللسان الذي يمتدّ في أحشائها، حتى العمق، حتى النقطة الأشدّ حرقة، الأشدّ سريّة، النقطة التي في قلب بطنها حيث يتدفق الدم باستمرار· هي لا تعرف ما هي الذاكرة· ليس هناك أي شيء خلفها، لا شيء في اسمها، لا شيء في ريقها· فقط هذه النقطة التي تخفق، تتراجع ثم تتدفق مرة اخرى· الليل يحيط بجسدها· الليل يصرّ تحت بصمات اصابعها· هي لا تدري ما الذي يتبعها وما الذي سيأتي ربما تسمع موسيقى قادمة من بعيد، امرأة سوداء تصرخ في الليل، وبطنها يتمزق ويرمي على الارض طفلا أحمر يلمع مثل كوكب· ثم يسيل الحليب من الثديين وينتشر ويخطّ طريقا ابيض في السماء، ويسيل في فم الطفل الحي! والساعات الطويلة جدا، حتى النهار· وعندما تشرق الشمس من جديد حارقة منذ البداية، تشرع القافلة في السير مرة اخرى رجال بوجوه مغلقة، اطفال كبروا قبل الاوان، شيوخ ينوحون كما لو انهم رضع· طيور جارحة في السماء، الغرائر والثعالب التي تتقاسم السخد المستخرج من الارض· هي تمشي في الليل في ثياب ضيقة وعيناها قاسيتان، المدينة تتجوف مثل موجة تندفع الى الشاطىء· الشرّ يبرز في كل مكان في معابر الفنادق المخصصة للبغايا، في الصالونات البورجوازية، حيث على الشاشات الكبيرة صور النساء العاريات· والكلمات ذات المقاطع اللفظية الواحدة تنبثق من القلب البارد للمدينة وتندفع باتجاه الطرق التي تشكل حزامها، وتركض مثل الحيوانات: تصرخ وتتشكّى مثل الحيوانات في المسلخ، في الليل، البنت الشابة ذات الخمسة عشر ربيعا خائفة هي تسمع وقع خطواتها، وتحسّ بالنفس على جسدها· غير انها تواصل التقدم من دون ان تعرف عمّن تبحث، وعمّن يبحث عنها· وربّما اسم بل رائحة طفل، صوت يغوص حتى النقطة الاشدّ حرقة والتي توحدها بالعالم· هناك فرجة في الغاية تحت القمر· الليل يلمع على الجليد· عواء الذئاب تجمد توقف في حناجرها قطعا من الجليد· وفي المكان حيث هي بامكان الفتاة الشابة ذات الخمسة عشر ربيعا ان تشاهد قلب المدينة المحمّر السماء غير مرئية· انها نفس ليس هناك شياطين، ليس هناك اصوات ـ أحياء· هناك قتلة ومخدّرون غير انه لا شيء تغيّر الشعوب الرحل شعوب الصحارى الرملية والصحارى البحرية شعوب الطرقات تحت السحب التائهة ترسم بصماتها حلقات حجرية، وقطرات من النحاس على الجلد، الشعوب ذات الاقنعة التي على شكل ظبي والاجنحة التي تشبه اجنحة الفراشات خرجت من الحلم الذي يحتويها· الفتاة الشابة ذات الخمسة عشر ربيعا عليها ان تدخل الحياة بمغادرة غرفتها· هي تعرف ذلك، وهي تراهم وتنتظرهم انهم في بطنها وهم يخرجون من نظرتها، انهم كائناتها انها بلا معرفة، بلا ذاكرة، وجسدها صلب مثل الليل وعيناها ونهداها وكتفاها، وخصلات شعرها السائلة مثل جدول اسود· انها تمضي الى الخارج على وقع كلمات رامبو· انها تمضي لتجابه الذي ينظر اليها، انها تمضي نحو من يناديها· في بطنها جوع كبير، جوع إذ تعيش ان تفهم، ان تؤخذ ان تولد، وان تولّد· إنها تسمع في الليل صرير عربات النقل التي تعزف الـ ''ميجورانا''، الـ ''الماليغوانا'' التي تعيد اسمها، مرات ومرات· انها هي، انها تنتمي الى الشعوب القديمة، شعوب صحارى البحر والرحل، الى شعوب الاودية والكهوف، الى شعوب الغابات والانهار· انها تنزلق في الليل· هي حرّة· انها تمضي· ملاحظة: نشر هذا النص من مجلة MAGAZINE LITTERERE ـ عدد 362 ـ فبراير 1998 ـ وهو مخصص لجان ماري غوستاف لولكيزيو·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©