الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صانع الحداثة وما بعدها...!

صانع الحداثة وما بعدها...!
12 مايو 2015 02:03
إذا كانت الحداثة في تعريفها المبدئي هي تحديث وتجديد ما هو قديم، فإنها في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تعني تحديث ما هو حديث أصلاً وتجديده باستمرار، وهي رؤية سباقة تتجاوز الفهم التقليدي لفلسفة الزمن. وكلمة سموه الشهيرة (المستقبل يبدأ اليوم وليس غدا) تؤكد هذا البعد في فكر سموه الذي مارسه وطبقه في جميع المجالات. ذلك لأن صناعة الحداثة لا تقتصر على المنحى الثقافي فقط، بل تتجاوزه إلى جميع الاطر الحياتية. كذلك فإن مفهوم الحداثة عندما أطلق في أوروبا القرن الخامس عشر، كان يشمل مجموعة التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى جانب الثقافة. وهذا ما أحدثه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عندما امتد أثر التغيير الذي أحدثه إلى جوانب كثيرة في حياتنا العربية، في الفكر والاقتصاد والإدارة وصولا الى أبسط الممارسات اليومية التي يقوم بها الانسان في تعاملاته مع اشياء وتحديات الحياة. أيضا يمكن استقراء فهم سموه لموضوع الزمن من عدة أبواب، ذلك لأن تركيز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على ثيمة الفوز بـ (المركز الأول) دائما، تحمل ضمنيا، ضرورة النظر للزمن باعتباره عائقا يجب تجاوزه باستمرار، بيقظة، وبعين مفتوحة، وبذهن وقّاد لا يلين لحظة والا سوف يسبقك الآخرون في غمضة عين. فانت كما يقول سموه (لن تستطيع تخزين الوقت أو إيقافه). ولو كان سموه يقبل بمجاراة الزمن والتوازي معه، لكانت الرؤية تقليدية وجاهزة ومستقرة على حالها، لكنه يطالب دائما بتجاوز الزمن نفسه، بالتسابق معه والفوز عليه، والتقدم دائما بخطوات قبل الآخرين. أدرك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أن الحداثة ليست شكلا، وليست اختراعا تكنولوجيا، وإنما هي في العمق ثورة فكرية تبدأ من الجذور، من التعليم أساسا، ومن ترسيخ المفاهيم الصحيحة في العقل الذي يمكن له بعد ذلك ان يكون مبدعا وخلاقا. فذهب سموه الى تعزيز قيم المعرفة والعلم والثقافة وأولاها اهتمامه الاول، ونتج عن ذلك، النهوض بالصروح الثقافية الكبيرة في مدينة دبي، فسموه المؤسس الفعلي لندوة الثقافة والعلوم في دبي، وهي جهة ثقافية استطاعت لنحو أربعة عقود أن تقود مسيرة فكرية مهمة وان تتحول الى منبر اشعاع حضاري يطرح فكرة التواصل بين العقول على اختلاف تصوراتها، وأتبع سموه تأسيس الندوة، بمجموعة مبتكرة من المناطق والمدن والقرى المعرفية والتكنولوجية (قرية المعرفة، مدينة دبي للاعلام، مدينة دبي للانترنت) على سبيل المثال، أيضا أطلق سموه المبادرات والمهرجانات الثقافية والفنية والسينمائية التي تعج بها مدينة دبي طيلة العام، في نسيج تتداخل فيه الثقافة مع الاقتصاد والسياحة والاقتراب من الحياة اليومية للناس. وبسبب ذلك امتد أثر سموه عميقا في الحياة الثقافية والاجتماعية، وشهدت المفاهيم التقليدية في الفكر، تغييرات ملموسة وواضحة للاتجاه نحو تحديث رؤيتنا للعالم ولأنفسنا وللآخر المختلف الذي يعيش بيننا ومن حولنا. وكان سموه الأول دائما في رعاية مثل هذه الأنشطة التي تتمسك بمنبعها الاصلي، وفي نفس الوقت تحمل طابع الحداثة، وظل سموه ولا يزال، الأكثر حرصا على حضور فعالياتها بنفسه، وقد عملت جميع هذه الفعاليات في مناخ من الانفتاح الواضح على كافة تيارات الفكر، بلا تحيّز الا للفكر الحر والجديد. من دون اغفال عراقة واصالة الطرح وابتعاده عن المغالاة والغموض. وبسبب وضوح هذه الرؤية، انخرط فيها الجميع، من مواطنين ومقيمين عرب واجانب، ونتج عن ذلك بروز ثقافة جديدة أكثر حداثة وأكثر تفاعلا مع الجميع. وانتقل الناس بسرعة من مجتمع غارق في النمطية، الى مجتمع عصري وحديث. إدارة الحداثة حاول علماء الاجتماع على الدوام، بناء نظرية فلسفية تتوافر فيها شروط المواطنة والحرية والعدالة، ونتج عن ذلك الفكر طروحات كثيرة عن مدن مثالية منها مدينة (كوسموبولس) كما طرحها ديكارت، لكن ظلت هذه النظريات تفتقر للتطبيق الفعلي والممارسة الحقيقية على الأرض، وبعضها عندما تم تطبيقه ومنها الأطروحات الاشتراكية، جاءت بعكس ما روجت له، وبدلا من العدالة حل الظلم، وبدلا من التطور، تسربت البيروقراطية الى عروق المجتمع وكتمت روح الإبداع فيه. صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أدرك مبكرا هذه الحقيقة، بل شهد بنفسه صعود أنظمة وتهاويها من جديد، ولذلك ذهب لابتكار أسلوب خاص في إدارة المدينة الحديثة. أخذ من معلمه الأول المغفور له الشيخ زايد طيب الله ثراه، فن وحكمة التعاطي مع الناس وإدارة شؤونهم، اعتمادا على فطرة الإنسان البدوي وحكمته التي ورثها من تحديات الصحراء، وتعلم من زايد ايضا النظر الى الأمور نظرة بعيدة جدا، وحساب مستقبل الوطن والأجيال وتمهيد الطريق لهم. هذه الفكرة العميقة، تبعها سموه بابتكار مناهج في ادارة الحكم وتحديث ممارساته باستمرار. وكانت المنهجية هي سلاحه الأول في تفكيك الأطر البيروقراطية وطرد مفاهيم الكسل والتخاذل وفتور الهمم. فمن خلال المنهج يتحول الفرد الى مبتكر، ومطالب بالابتكار دائما وإلا لن يكون له مكان في منظومة التطور والتحديث والتغيير، والحال نفسه ينطبق على المؤسسة الإدارية، سواء كانت في الثقافة أو الاقتصاد اوالتعليم اوالصحة وغيرها. وقد بث سموه روح هذا التغيير في نسيج مدينة دبي ومنظومتها في العمل والتكامل. ودفع بالمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية خلال فترة قصيرة لتكون في المرتبة الاولى بين نظيراتها الاقليمية، وصارت هذه الممارسات الادارية المنهجية، تقلد ويعاد تطبيقها في مدن تعتبر حديثة جدا مثل سنغافورة وماليزيا، ووصل الأمر ببعض دول أوروبا، أن تطبق هذه المناهج في أجهزتها الشرطية وادارة مؤسساتها. كل هذا جعل من دبي نموذجا يحتذى في ادارة التغيير والمحافظة على استمراره، وأيضا (تحديث الحديث) وهذا ما ذكرناه سابقا عن رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لمعنى الحداثة. حداثة الرؤية تقوم فكرة إدارة الحداثة التي ينتهجها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على ثلاث مقومات رئيسية هي بناء القادة، وتمكينهم، ووضع خريطة طريق واضحة للمستقبل أمامهم. وتمتد رؤيته عميقا لكونه يريد من جميع أبناء الإمارت أن يكونوا قادة، كل في موقعه، وأن يتسلحوا بالفطرة والنباهة، والطاقة الإيجابية والنظرة المتفائلة للحياة. وهي مهمة صعبة جدا، وفي عيون كثيرين تبدو مستحيلة، لكن المستحيل كلمة غير موجودة أصلا في قاموس محمد بن راشد. ولذلك أطلق سموه الكثير من برامج إعداد القادة، وأعطت هذه البرامج أثرها على شريحة واسعة من قيادات الصف الأول والثاني والثالث أيضا. وامتد الأثر لاحقا للجميع عندما راح سموه يبث القيم والمفاهيم القيادية على شكل رسائل يومية لأبناء شعبه، وبادر بنفسه لكتابة المقال الصحفي من أجل تحقيق هذا الغرض وإيصال رسالة التفاؤل للناس. وكذلك فعل في تغريداته على قنوات التواصل الاجتماعي. ولترسيخ هذه المفاهيم الانسانية وجعلها متاحة بين أيدي الناس جميعا، وضعها سموه في مؤلفات وأصدرها في كتابين حتى الآن هما (رؤيتي) و(ومضات من فكر). وهناك بالتأكيد المزيد من هذه الكتب والرسائل المشحونة بالحب والأمل. كان بناء الإنسان القائد أحد المفاصل الاستراتيجة التي حرص سموه على تحقيقها، وما القائد سوى ذاك الذي يعمل بروح الفريق. ولصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم كلمة مؤثرة في هذا المجال عندما قال (علينا توحيد القلوب، قبل توحيد الدروب). بما يعني أن المناهج والمبادرات والأسس التي يبتكرها سموه لا تقوم فقط على الممارسات الجافة أو الجامدة، وإنما يكون منبعها القلب، وحين يعمل الإنسان بطاقة الحب تكون النتيجة المزيد من الخير والبركة في كل فعل، والمزيد من الإبداع والابتكار. هذا الأثر نلمسه اليوم بشكل جلي في شعب الإمارات الذي أصبحت قيم (الطاقة الإيجابية) أحد سماته الأساسية. حداثة الخيال هل الحداثة عمل استراتيجي يطبق بحذافيره وبشكل آلي؟، أم هي جنوح خيال شاعر لا يقبل إلا بتجاوز المستحيل. للإجابة على هذا السؤال علينا أن نلقي نظرة تأملية على مدينة دبي، على تطورها المعماري المذهل، على حركة الناس فيها، على الحياة التي تتشكل داخلها وتولد كل يوم في صورة زاهية، على قيم الصداقة بين بشر اختلطوا في هذا المدينة وذابوا في عذوبتها وارتفعت أصواتهم في نشيد سلام محب. وحالة الذهول التي يصاب بها كل من يأتي إلى هذه المدينة، إنما هي بسبب حداثة الخيال لدى محمد بن راشد، وبسبب أن الأفكار المتجسدة على أرض الواقع، إنما هي أفكار خيالية لا يصدقها أحد. بناء جزيرة على شكل نخلة في البحر، وتشييد برج خليفة أعلى قمة في العالم، وشق الصحراء ليعبر الماء بين جنباتها، واختراق الفضاء بمسبار عربي إلى المريخ، ما هي إلا بنات أفكار شاعر، نراها تتجسد حقيقة على الأرض. ورغم الذهول بهذه المنجزات، فإن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لا يرى فيها سوى تحقق جزء بسيط من طموح رؤيته البعيدة لهذا الوطن العزيز، ولشعوب الأرض كافة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©