الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سليلُ بلاغة الشيْخَيْن

سليلُ بلاغة الشيْخَيْن
12 مايو 2015 02:05
الشعر سيّد الفنون الأدبية، وسجّل أمجاد الأمّة ومرآتها العاكسة لنهضتها وازدهارها، وصوتها الخالد الذي يدلّ على مكانتها الحضارية بين الأمم وهي تعيش التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية. والشعر مدخل مهم في التعرف على ماهية أي مجتمعٍ من المجتمعات البشرية من جميع النواحي الحياتية وخاصة المجتمع العربي. وإذا كان الشعر لسان حال قائله فإنه أيضاً مرآة تكشف للمتلقي جوانب عدة من شخصيته ومدى تأثره وتأثيره فيما حوله. وهناك من الشخصيات العامة من حباهم الله نعمة الشعر كموهبة فازدادوا شفافية مع مجتمعاتهم وواقعية مع مسؤولياتهم ومصداقية مع ذواتهم. شاعر حكيم إذا ذكرنا أو تطرقنا للحديث عن الشعر في الإمارات أو في المنطقة بشكل عام، لابد أن نتوقف عند تجربة القائد الرائد المبدع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، الشاعر الذي تميزت أعماله بالتفرد والتميز والإبداع، والذي اختط لنفسه طريقاً خاصاً وظل يقدم الروعة والبهاء والجمال ويلوّن التفاصيل بقدراته المدهشة. وسيظل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هالة ضوء ومنجماً للإبداع نستمدّ الكثير من خياله الواسع وموهبته الشعرية. فمن منا لا تذهله قصائده.. ومن منّا لا يعجب بأسلوبه الشعري الفاتن.. شاعر حكيم لا ينظم إلا الدّرر التي تخلد في وجدان من يقرأها.. شق طريق بيانه متفرداً ومتميزاً في تراكيبه البنائية وفلسفته الشعرية وأدواته الفنية ليفرض أسلوباً شعرياً ذا صبغة إقليمية عصري المفردة والفكرة، أصيل البناء والغرض، تلقفت نتاجه الشعري جماهير الشعر الفصيح والشعبي بقبول منقطع النظير. أغراض شعره كتب صاحب السمو الشيخ الشاعر محمد بن راشد آل مكتوم في كثيرٍ من أغراض الشعر بتمكن وتفنن أسلوبيّ، فألبس المدح كغرضٍ شعري حلة جديدة من الفن الأدبي. حاز البلاغة الشعرية، وأحس بلواعج الحزن العاطفي فنثر فرائد من الوجدانيات التي امتازت بها بيئته البدوية العفيفة فكان امتدادا مشرفا لها، ولم تكن أمته من محيطها إلى خليجها غائبة عن شعره بكل آمالها وآلامها فنادمها وناداها شاعرا بمسؤوليته ومسؤولاً بشعره. تجولت بين مشاعره وأفكاره من خلال شعره أو بعض ما وقعت عليه من شعره لأرصد بعضاً من الجوانب الفنية في شعره، وما أقدمه من نماذج في هذا السياق ليس سوى غيض من فيض عطائه الأدبي، من دون إغفال أن الأهم في ذلك ليس الكم بقدر ما هو السعي لإدراك سر الإبداع الشعري الذي نتعرف في هذه العجالة على جانب منه. أثر زايد وراشد يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد «إن أكثر من أثر على ملكته الشعرية ممن عاصرهم هما: والده المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، والمغفور له بإذن الله سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراهما»، وكان رفيقه الدائم في أسفاره مختارات شعرية وبالأخص للمتنبي وأبي تمام، مما ساعد في شحذ قريحته الشعرية، فبدأ في كتاباته الشعرية وهو في سن صغيرة». «وفي موضع آخر أشار سموه إلى أنه ينزّه شعره عما لا يليق به، فلا يغمز ولا يلمز ولا يهمز في شعره أحداً، وأنه يحلّي به المجالس ويهذب به الأذواق. ومن فهم من قصيدته غير هذا فيجب أن يقرأ في أذنه بداية سورة التوبة ليعود إلى رشده». هذه الإشارات وغيرها، تبين لنا مدى وحجم مساحة الوعي الإبداعي لدى الشاعر، ومدى مساهمته، وبحضور طاغٍ ومؤثر، في مسار حركية الشعر الإماراتي والعربي، ودوره في تشكيل فاعلية ثقافية مغايرة، لا في حدود التجربة الشعرية فقط وإنما في مختلف جوانب الوعي المنتمي إلى قيم التفرد والتميز وفاعليته المؤثرة. وعندما بدأ سموه في نشر قصائده في الصحف تعمد أن يذيلها بأسماء مستعارة مثل: سليط ونداوي، حتى يعرف ردة فعل الناس الحقيقية تجاه شعره كشاعر عادي لا كفرد من الأسرة الحاكمة، وبالفعل جاءته ردة الفعل المشجعة الأولى من الشاعرة المعروفة (فتاة العرب) في ردها على إحدى قصائده لتشهد على إبداعه، واليوم بات الكل يعرف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد شاعراً قديراً لا حاكماً وحسب، بعد أن أصبح شعره ينشر باسمه الحقيقي، وأصدر ديواناً لأشعاره باللغة الإنجليزية تحت عنوان « قصائد من الصحراء». قدم له باول كويلر مشيراً إلى التالي: «خلال مطالعتي شعر سموه، حاولت أن أتخيل الصراع الداخلي الذي يجول في خاطره بين شخصية الشاعر وشخصية الحاكم، إلا أن هذا الانطباع ما لبث أن تبدد مع إمعاني التفكير في هذا الأمر، حيث أدركت أن هذا الصراع لا وجود له في واقع الأمر، فعندما يتحلى الحاكم بروح الشاعر يكون أكثر قدرة على إدراك تطلعات قومه واحتياجاتهم». وتأتي قصائد سموه في هذا الكتاب، كما يقول كويلر، لتكشف عن شخصية الحاكم الحالي وتأخذ قراءه في رحلة إلى أماكن مجهولة. ويضيف: «بعض القصائد ضمن هذه المجموعة تعكس مكانة وسلطة سموه بأمانة. فقصيدته الأولى «عتاب أم» تجسد مسؤوليات الحاكم الواعي لكفاح شعبه والمهتم إزاء أولئك الذين يفتقرون إلى الدعم. وفي قراءته للحال الشعرية عند صاحب السمو الشيخ الشاعر محمد بن راشد آل مكتوم يجد كويلر أن «المقياس الحقيقي للإنجازات بالنسبة إلى سموه يقوم على أركان العدالة والتسامح والرؤية. وليست دولة الإمارات العربية المتحدة إلا دليلاً حياً على إرث هذا النوع من الجهد والإبداع». البعد الوطني والإنساني ويرى كويلر أن قصائد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «تبقى عوناً يمكننا من فهم واستيعاب مكنون النفس وتراث أمة». ولا شك أن دارسي وقراء شعر الشيخ الشاعر يعرفون قصائد كثيرة تؤكد هذا المنحى الذي ذهب إليه كويلر، ومن مجموعة القصائد التي أهداها سموه للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، والتي تعكس مدى حبه وتقديره للقائد الراحل، نقتطف بعض ما قاله (في رثاء الشيخ زايد): أينَ منها زايدُ الخيرِ الذي كانَ نجماً في عُلُوِّ الرُّتَبِ أينَ مِنْ يَعْرُب مَنْ يُرشِدُهَا أينَ مِنْ يَعرُب شيخُ المَوْكِبِ عرَبيٌّ كان في طَلْعَتِهِ خُلُقُ الفَارِسِ عندَ الطَّلبِ لَمْ يَكُنْ زايدُ فينا واحدًا بلْ هُوَ الأُمَّةُ حين النُّوَبِ في قصيدة «أسعد شعب» سجل سموه وثيقة حب نستلهم منها أسمى معاني الوفاء والإخلاص والتفاني من اجل الوطن.. مؤكداً فيها حبه وولاءه لقائد المسيرة، وحبه لشعب وهب له حياته وجهوده لرفعته ونهضته وسعادته، أما قصيدة «يا قلب» فهي إحدى روائع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وهي حواريّة سموه مع الشاعر خلف بن هذال حوت بين مضامينها الحكم والدرر الثمينة التي ازدان بها النص والشعر. إذ أنها بمجملها إبداع فريد ولكنني لطولها أقتصر على مدخلها الجاذب للمتلقي: يا قلب يا الّلي مولعٍ بالمودّه يا ليت عندي قلب خالي ولا أنت كم من غزالٍ يخجل البدر خَدّه لى قرَّبْ إحْساس المشاعرْ تمكّنْت دخلت في «الإحسا» و «سوده» و «جدّه» وبأرض «الريّاض» أمسيت فيها وعَنْوَنْت عنوان ما يخْفِيْهْ جَزْره ومَدّه مشهور للّي يبغي الوصل بيّنْت ومن روائع شعره معرّفا بإبداعه مع أن المعروف لا يعرف يقول في قصيدة بعنوان «وضوح الشمس»: أوضَحْ من الشّمسْ شِعْري يوم اغَنِّي بِه تبْهرْ مَعَانِيهْ مَسْموعه ومكتوبه لا ما أعِيبِه ولا ارضى حَدٍ يْعِيبه أسْهَرْ عليه الليالي أَنْفِي عْيوبه من عادتي في الشِّعر إنّي أحَلِّي به مجالسٍ عن صغارْ النّاس مَحْجوبه ما اغمِزْ ولا المِز ولا اجْرَحْ بهْ ولا اْذي به ثوبي وكل شاعرٍ لِهْ في الشّعِر ثوبه واللّي تظِنّهْ وبَعْضْ الظَّنّ والرِّيبه إثمٍ ومن ظَنّ يسْتغْفِرْ عن ذنوبه إذا اسْألكْ حَدّ عن شيٍ ما تدري بهْ اقرأ على أذْنه بدايةْ سُورةْ التوبه خلجات القلب ------ وكأي شاعر مبدع، عبر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في شعره عن جوانب عاطفية شاعرية لا تخفى من نفسه المرهفة رغم كونه سياسياً محنكاً، فهو يدرك أن الحب قوة من شأنها أن ترفع من شأننا أو أن تحطمنا، ويمكنها أن تأخذنا من الجنة إلى الجحيم في ثوان. فظهر الحب في قصائد مثل (رمز الحب)، وكتب عن العاشق المحروم في قصيدته (وعد). وحدد مفهوم الحب وماهيته قائلاً: تبعته في الوطاه وفي علاته فدرب الحبّ من قبلك مشيته وأشد الصبر واتحمّل ظماته وذقت المِرّ يوم انّي بغيته اداري يوم اتْصير مناسباته وحبلي اليوم عنِّه ما طويته وأبدع سموه في أشعار أخرى عن الأقصى وأطفال الحجارة، فيقول في قصيدته (الأقصى لنا عايد): ايْفوز من يصمدا وعن حَقَّه يْجاهِد ولأن الشعر هو مرآة تكشف جوهر المخلوق الإنساني من دون تنازلات.. تأتي قصيدة «الدَّارْ للدَّار» التي جارى فيها قصيدة «الجار للجار» لسمو الشيخ حمدان بن محمد ولي عهد دبي. وهي قصيدة قدمت رؤية شعرية مختلفة وموازية لقصيدة المجاراة. بين فيها سموه أصول العلاقات الأخوية الثابتة والراسخة التي لا تكدرها الخلافات العابرة، لأن القلوب النقية لا تخلدُ فيها النعرات، فهي دائماً لا تعرف غير التسامح والحب.. يقول سموه: آمينْ يا حمدانْ آمينْ وآمينْ رايتكْ بيضا ولكْ محلٍّ ومقدارْ آمدْ لكْ يمْنَى تصافحكْ وتْعينْ وآخط لأسمكْ مبهراتٍ م الأفكارْ روحْ الوطنْ متمكِّنهْ في الشرايينْ تجري بدَمِّكْ دومْ عَ بلادكْ إتْغارْ نظرتكْ أبعدْ منْ حدودْ وعناوينْ إتحسْ بأهلكْ وأنِّهْ الجارْ للجارْ توظيف البيئة ومن واقع أن الإنسان هو نتاج «ذاته وبيئته»، استخدم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في أشعاره رموزاً ودلالات معبرة عن ذلك، فظهر البحر، والصحراء، والنخل، والصقر، والغزال، ومُلئت قصائده بالحكم والمآثر. وسعى سموه جاهداً لنشر الوعي بالتراث الثقافي لأمته، وشارك في عدد من (المسابقات) الشعرية مع غيره من كبار الشعراء في المنطقة. إضافة إلى قصيدة السؤال واللغز وقصائد المعارضة التي ابدع فيهما سموه. ومجمل قولنا، إن الشعر الجيّد يبقى حيّاً في مجتمعه، وأن شعر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تتّسع دائرته في كمّه وكيفيته لما ينطوي عليه من فكر ومعان وبيان وغير ذلك من أسباب حياته وتجدّده ونمائه. لقد كان وعيه للمهمة الاجتماعية الملقاة على عاتقه عالياً، وهو ما جعله يشعر وبحرص نبيل على أداء تلك المهمة والارتقاء إلى مستوى اشتراطاتها وعياً وثقافة وفعلاً يؤسس من خلاله لطبيعة المسؤوليات التي يتحملها الأديب والمثقف في مجتمعه. وذلك ما جعل انتماءه إلى مجتمعه وما يمور فيه من انشغالات ثقافية. ولم تتوقف تجربته عند الانفتاح الحقيقي على واقعه الاجتماعي وما يمور فيه، بل أطلع على جوانب من حياة مجتمعات وبيئات متعددة أغنت شخصيته واغتنى بها شعره. كما أتاح له ذلك الانفتاح الثقافي قراءة معارف الغرب وآدابه والتعرف على منجزاته الحضارية المختلفة. إن القراءة الوجدانية الموضوعية الفنية للشعر قد تصل بمتذوقيه أو تحقق لهم الوصول إلى شاعره، ونحن في هذه السطور المقتضبة والرؤية الخاطفة لنماذج من أبيات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد المكتوم نحسب أننا قد وفقنا بين إبداع سموّه الشعري والإنساني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©