الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعرٌ يحلّق بأربعة أجنحة

شعرٌ يحلّق بأربعة أجنحة
12 مايو 2015 02:06
سلطان العميمي في السنة نفسها التي يحتفي فيها معرض أبوظبي الدولي للكتاب بالمغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، شخصية محورية للمعرض الذي يحتفي بدوره بيوبيله الفضي، جاء اختيار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم شخصية العام الثقافية لجائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2015، وهو ما يعد حدثاً استثنائياً في تاريخ الجائزة ومعرض الكتاب، خاصة أن الشخصيتين ارتبطتا ارتباطاً وثيقاً بالمنجزات الثقافية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأسهما مساهمة كبيرة في تأسيس الحراك الثقافي ودعمه في الدولة على الصعد كافة. كما أن لهما حضوراً قوياً في الساحة الشعرية في دولة الإمارات، فكلاهما يعد من كبار الشعراء في العالم العربي، ودارت بينهما العديد من المساجلات الشعرية التي جسدت شكلاً مهماً من أشكال العلاقة الوثيقة، التي جمعتهما اجتماعياً وسياسياً وأدبياً، كما دلّت على المكانة الأدبية الرفيعة التي يحظى بها الشعر عندهما. مكانة خاصة للشعر مكانة خاصة لدى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وتحلق هذه المكانة في مسارين مهمَّين، الأول مسار قرضه الشعر، سواء الفصيح أو النبطي. والثاني مسار دعمه الشعر والشعراء. أما في الجانب المتعلق بقرضه الشعر، فقد اهتم الشيخ محمد بالقصيدة النبطية الإماراتية اهتماماً خاصاً وذاتياً، منطلقاً في ذلك من إحساسه بالمسؤولية الكبيرة تجاه مكانة الشعر أدبياً ومجتمعياً، والمحافظة على أصالته. وفي إحدى قصائده يشير إلى هذا الاهتمام واصفاً علاقته الشخصية والنقدية بالقصيدة، قائلاً : أقولها واختارها واختبرها وأدرى خطاها لأجل منهو قراها بهذا البيت لخص سموه علاقته بالقصيدة، وتحدث بصوت الشاعر والناقد معاً. وقال في قصيدة ثانية: الشعر له مقصود يا عارفينه كالحب من قاصي خوافيه وعموقه مثل الذي يغزي على طامعينه إن جاد وإلا خِسر ماله معَ نوقه والمعجزات التسع منها ظغينه عسنّها في بعض الأيام ملحوقة أخشى عليه النبط يا غازلينه الوزن والمعنى على غير مطروقه مساجلات كما نجد لاهتمام الشيخ محمد بن راشد بالشعر آفاقاً أرحب، عزز في فضائها فناً أصيلاً من فنون الشعر، وهو فن المساجلات الشعرية والشكاوى والردود، ولسموه العديد من المساجلات الشعرية الشهيرة مع كبار الشعراء في دولة الإمارات، وعلى رأسهم المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وكذلك مساجلاته الشعرية مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ونجله سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي، ومع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، ومع الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي التي أطلق عليها سموه لقب «فتاة العرب» تكريماً لها وتقديراً لموهبتها الشعرية التي تجاوزت حدود المحلية في ساحة الشعر. ولسموه أيضاً مساجلات شعرية مع عدد من شعراء النبط في دولة الإمارات ودول مجلس التعاون، مثل سالم الجمري وحمد بن خليفة أبو شهاب وصالح بن علي بن عزيز المنصوري وأحمد بن خليفة السويدي، وغيرهم من مشاهير شعراء النبط. وللشيخ محمد جهود كبرى في دعمه الشعر والشعراء في دولة الإمارات، وذلك من خلال إقامته عددا من الأمسيات الشعرية التي لا تزال حديث الساحة الشعرية حتى يومنا هذا، أو من خلال حضوره أمسيات المهرجانات الشعرية، التي يجتمع فيها الشعراء من أنحاء الخليج والوطن العربي في أرض دولة الإمارات. مستويات إن التجربة الشعرية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تمتد على مساحة أربعة مستويات، وأقاليم هي: المحلي، الخليجي، العربي، والدولي. أما الإقليم المحلي، فيتمثل في القصيدة النبطية التي قرضها سموه في مرحلة مبكرة من حياته، وحافظ على أصالتها وهويتها المحلية، سواء من حيث ألفاظ اللهجة الإماراتية الحاضرة بقوة في قصائده، أو من حيث الأوزان الشعرية ذات الخصوصية الإماراتية، كأوزان التغرودة والردح والونة. وقد جاءت تجربته الشعرية في هذه الأوزان بشكل تجديدي من حيث الصور والأغراض الشعرية. وأما على الصعيد الخليجي، فقد حلقت قصائده في فضاءات خليجية عدة، منها: فضاء الأغنية الخليجية التي جاءت بأصوات وألحان عديد من فناني الخليج، ونشر قصائده في مختلف الصحف والمجلات الخليجية المهتمة بالشعر والأدب، ومنها فضاء ألغازه الشعرية، التي شهدت مع كل لغز منها آلاف المشاركات المحلية والخليجية في الردّ عليها. وعلى الصعيد العربي، حلقت قصائد الشيخ محمد بن راشد بجناحين: جناح الشعر النبطي الذي تغنى به فنانون من مختلف الدول العربية، وجناح الشعر الفصيح الذي انطلق ليعبر عن رؤى سموه في مختلف القضايا المرتبطة بالعرب والعروبة. وقد تميّز في قصائده الفصيحة بنفس شعري طويل، كما تميز فيها بكتابته في قضايا عصرية دون أن يتخلى عن روح الأصالة وقوة السبك ومتانة البناء الشعري. وكان من آخر ما كتبه سموه من قصائد فصيحة قصيدته «اللغة الخالدة» عن اللغة العربية، التي يوضح فيها مكانة اللغة العربية في قلوبنا وتاريخنا وديننا. أما على الصعيد الدولي، فقد انطلقت قصائد سموه بجناح ثالث، هو جناح الترجمة الشعرية، حيث ترجمت قصائده إلى عدد من اللغات العالمية والأجنبية، منها اللغة الانجليزية والفرنسية والروسية. لقد صدر لسمو الشيخ محمد عدد من الدواوين الشعرية، كما صدرت عن قصائده العديد من الأبحاث، التي تناولت قصائده بالدراسة والتحليل، فكان حقيقاً اختيار سموه شخصية العام الثقافية لجائزة الشيخ زايد للكتاب ليعطي للجائزة آفاقاً جديدة، تضاف إلى آفاق اختياراتها الكبيرة في دوراتها الماضية. مبتكر مهرجان اللغز الشعري د. غسان الحسن من منا لا يعرف الألغاز ومن منا لم يسأله سائل عن حل لغز؟ ولكن من منّا فكّر في أن يجعل من اللغز حدثاً ثقافياً ينتظره الآلاف من الشعراء؟ هذا ما فعله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، برؤية عبقرية مدهشة. فاللغز في تراثنا من قبل كان وسيلة للتسلية ونقل المعرفة واختبار الذكاء، وقد عرفه العرب نثراً وشعراً منذ القدم يتداوله العامة والخاصة منها ملاحنة بين شاعرين جاهليين عظيمين حيث سأل عبيد بن الأبرص امرأ القيس عدة أسئلة فأجاب عليها شعراً بشعر. ومثل هذا وجدناه مع تقدم القرون عند شعراء البوادي حيث يضمنون قصائدهم لأصدقائهم الشعراء ألغازاً يطلبون حلها في ردهم. بين جمود وازدهار مرّ اللغز عبر الأزمان بفترات ازدهار وفترات جمود ليصل إلى وقتنا الحاضر في أقل حالاته فاعلية بسبب سيادة وسائل التسلية والتثقيف الحديثة. ثم نفاجأ بأن يصبح اللغز شاغلنا وشاغل جمهور الشعر والشعراء في منطقتنا كلها. فما الذي حدث!؟ إنها الفكرة العبقرية التي جاء بها الشاعر المبدع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم التي نقلت اللغز من الحالة الشفاهية الفردية المنعزلة إلى الحالة الجماعية العامة، بأن نشر قصيدة مطولة طرح فيها ألغازاً عدة وطلب من الشعراء أن يحلّوا هذه الألغاز بقصائد على وزن قصيدة اللغز وقافيتها ويرسلوها ضمن وقت محدد لتكون بين أيدي لجنة تنظر في سلامتها ثم تُمايز بينها وصولاً إلى الفائزين الذي سيحصلون على جوائز سخيّة مسمّاة. لقد كانت الفكرة مبتكرة غير مسبوقة تطويراً لفن كاد يتوارى عن الساحة الثقافية الشعبية هو اللغز. لقد كانت الفكرة ناضجة في ذهن الشاعر الشيخ، شرَحها وبيّن هدفه منها في مقدمة نثرية قال في بعضها: «ومقصدنا من هذا تحريك الساحة الأدبية لدى الشعراء الأفاضل ليس إلاّ، رغبة منا في إثراء الساحة بإبداعاتكم وجميل قصائدكم». وبالفعل فقد صدق حدس الشاعر الشيخ، فقد شهدت الساحة الشعرية حراكاً غير مسبوق في تداول اللغز ومناقشته وفي صياغة قصائد الردود ثم الانشغال بعدها بقصيدة الحل النموذجي وتشكيل اللجان المختصة بالفرز والتحكيم ثم إعلان النتائج والفوز. إقبال مذهل جاءت نتيجة هذه التظاهرة الشعرية مذهلة، فقد وردت رداً على اللغز الأول (600) قصيدة من مختلف بقاع الخليج والجزيرة وسواهما، جُمعت وأُصدرت في ديوان بعنوان: «قصيدة اللغز.. الحل والردود» أضيف إلى مكتبة الشعر النبطي، وكان مما ميّز قصائد هذا الديوان أنها بلا استثناء جاءت على وزن واحد وقافية واحدة هما: وزن وقافية قصيدة اللغز. أما الشعراء فأصبحوا ينتظرون دورة السنة لتطل عليهم قصيدة اللغز الجديدة ليشاركوا في مهرجانها (مهرجان اللغز) الذي تصاعدت المشاركة فيه إلى حد أن الردود على اللغز الثاني وصلت ألفاً ومائة قصيدة. وعلينا هنا أن نشير إلى أن الشاعر الشيخ هو الذي حمل العبء الأكبر في النهوض بهذا المهرجان الشعري الكبير، وأعني بذلك صياغة اللغز التي هي المهمة الأصعب والأساس في الفكرة كلها، وقد عبر الشاعر الشيخ عن ذلك بصراحة بقوله في مقدمة اللغز الثاني: «ولولا أنني وعدتكم بهذه المشاركة السنوية لفضّلت الانسحاب بهدوء - وقد يكون تأخير اللغز في هذه السنة إلى هذا الوقت راجع في شيء منه إلى هذه الصعوبة، فصدقوني يا إخوان أنه ليس من السهل أبداً أن يعرض شاعر لغزه على ساحة شعرية على مستوى الإمارات ودول الخليج فيها من كبار الشعراء وعمالقة هذا الفن ممن يتعلم الإنسان منهم وأعرف مستوياتهم وقدرتهم وتمكنهم من هذه البضاعة، فاللغز في حقيقته بقدر ما هو طلب للمشاركة بقدر ما هو أيضاً اختبار لقائله لأنه يعرض من خلاله ثقافته ومستواه ولغته الشعرية وغير ذلك من أمور». لقد استطاعت فكرة الشاعر الشيخ أن تحيل اللغز الشعبي البسيط إلى مهرجان إعلامي أدبي عظيم الأهمية، بل أحالته إلى مهرجان منظم تكون المشاركة فيه وفق شروط لازمة؛ فمن الناحية الفنية يشترط أن يكون الرد شعرياً على وزن قصيدة اللغز وقافيتها دون خلل. وهناك شرط الزمان وشرط المكان بأن تصل الردود خلال فترة زمنية محددة على عنوان محدد. وشروط إعلامية بأن يقوم المنظمون بنشر قصائد الردود في صحيفة «البيان» تباعاً ثم نشر قصيدة الحل ثم نشر نتائج المسابقة والفوز. وشروط تحكيمية في تعيين لجان للفرز والتحكيم علاوة على التزام المنظمين بعدد الجوائز وقيمتها المعلنة. أما قصيدة اللغز (3) فقد جعل الشاعر الشيخ لها منهجاً وأسلوباً يتساوقان مع وظيفتها الجديدة، فقد جعلها من فقرات؛ أولها المقدمة الشعرية الذاتية التي تمهد للغز بتحية الشعراء واستعراض ما خطر في بال الشاعر حين أنشأ اللغز، وقد بلغت أبيات المقدمة (22) بيتاً بدأها بقوله: هاض الخيال وهاجسي ينتحي بي واعرج خيالي فوق متن السحابِ ثم انتقل إلى فقرة الاثني عشر سؤالاً، وهي ألغاز فرعية جاءت في (11) بيتاً بدأها بقوله: يا من سمع عن شعرةٍ ما تشيبِ مسوّدةٍ تشبه جناح الغرابِ ثم جاءت فقرة اللغز الرئيس في (8) أبيات بدأها بقوله: واللغز لي سهل وعليه الرقيبِ شاهدْه وهو شيٍ تحدّه أسبابِ وعندما جاءت قصيدة الحل كانت من (86) بيتاً على نفس الوزن والقافية وتضمنت حلول جميع الألغاز الفرعية واللغز الرئيس الذي هو: اللغز عن دارٍ أبد ما تغيبِ حسنٍ تبارك مثل حسن الكعابِ أعني السما وحطّيت نجمٍ رقيبِ دليل والثاني لها قدر نابي.. الخ أما شرط الفائز بالجائزة الأولى فهو من أصاب في حل اللغز الرئيس وجميع الألغاز الفرعية. أما الفائزون الآخرون فهم كل من أصاب في حل مجموعة محددة من الألغاز الفرعية شريطة أن يكون أصاب في حل اللغز الرئيس، وقد فاز بالجوائز خلق كثير من الشعراء من داخل البلاد وخارجها. لقد أضفى الشاعر الشيخ من روحه المبدعة على اللغز الشعبي المحدود فجعل منه مهرجاناً شارك فيه آلاف الشعراء مجتمعين على منهل واحد. * للاستزادة في موضوع ألغاز الشيخ محمد بن راشد المكتوم راجع كتاب (بين يدي اللغز للدكتور غسان الحسن).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©